أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - **الرواية ما بعد الحداثية: الجماليات والأساليب السردية















المزيد.....

**الرواية ما بعد الحداثية: الجماليات والأساليب السردية


هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية

(Howaida Saleh)


الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 08:07
المحور: الادب والفن
    


تمثل الرواية ما بعد الحداثية انقطاعًا جذريًا عن التقاليد الأدبية التي أرساها الحداثيون، حيث تتحدى افتراضات الواقعية، والاتساق السردي، والمعنى الثابت. وقد ظهرت هذه الرواية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبلغت ذروتها خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وتميّزت بتشكيكها في السرديات الكبرى، وبأسلوبها الساخر، واحتفائها بالتفكك والتناص والميتاسرد . و لا تعكس الرواية ما بعد الحداثية القلق الثقافي وفقدان الثقة الفلسفية فحسب، بل تعيد أيضًا تعريف دور الكاتب، والقارئ، والنص نفسه.
المبادئ الجمالية في الرواية ما بعد الحداثية
تقوم الجماليات ما بعد الحداثية على حس ساخر مناهض لأي جوهر ثابت، وغالبًا ما تتسم بالمحاكاة الساخرة. وعلى عكس الرواية الحداثية التي تسعى إلى العمق والصدق رغم تفككها الظاهري، فإن الرواية ما بعد الحداثية كثيرًا ما تحتفي بالسطحية، والتناقض، وانهيار الحدود بين الثقافة العالية والثقافة الشعبية.

من أبرز السمات الجمالية للرواية ما بعد الحداثية هو **التناص الأسلوبي أو المحاكاة المتعددة (pastiche)**، التي عرّفها فريدريك جيمسون بأنها "محاكاة خالية من السخرية"، أي نسخ لأساليب سابقة دون نقد مباشر. ففي رواية *قوس قزح الجاذبية* (1973) لتوماس بينشون، ينتقل النص بين اللغة العلمية، وأسلوب الرواية البوليسية، والهزل، ونظريات المؤامرة، ما يخلق تجربة سردية ترفض التفسير الخطّي المباشر. أسلوب بينشون جماليًا قائم على الإفراط والتشويش، وهو انعكاس لحالة التشبع المعلوماتي في الثقافة المعاصرة.
**السخرية واللعب** أيضًا من السمات المركزية في رواية ما بعد الحداثة التي ترفض أن تأخذ نفسها على محمل الجد، وغالبًا ما تكشف عن بنائها المصطنع. في *الضائع في بيت المرح* (1968) لجون بارث، يقاطع السرد نفسه ليتحدث عن تقنيات السرد، مما يذكر القارئ باستمرار أنه يتعامل مع نص أدبي لا مع واقع متخيل، فالميتاسرد في النص يكشف الألعاب السردية للقارئ، ويحدث نوعا من كسر الإيهام كما يحدث في المسرح البرختي .
من السمات الأخرى المهمة في الجماليات ما بعد الحداثية **التناص**—أي نسج نصوص سابقة داخل النص الجديد. في رواية *الضجيج الأبيض* (1985) لدون ديليلو، نجد استدعاءً للخطاب الأكاديمي، والإعلانات، ووسائل الإعلام، مما يخلق رواية منغرسة في نصوص الثقافة ذاتها التي تسعى إلى نقدها. وتصبح الجمالية هنا ليست أصالة رومانسية، بل بناءً على كولاج من المواد الثقافية المعاد تدويرها.

**ثانيًا: الأساليب السردية والتجريب**

تعتمد الرواية ما بعد الحداثية أساليب سردية تُقوّض الخطية والاتساق والمعرفة السردية المطلقة. وتُشكك في فكرة الذات الموحدة، أو الراوي الموثوق، أو الحبكة الثابتة، مفضّلة التعدد والغموض واللايقين.

**الميتاسرد (Metafiction)** هو من أكثر الأساليب استخدامًا، حيث تعكس الروايات وعيها الذاتي وتُشرك القارئ في عملية صناعة المعنى. في *مسلخ رقم خمسة* (1969) لكورت فونيغت، يظهر المؤلف نفسه في الرواية، معترفًا بعدم قدرته على تمثيل فظائع دريسدن، مما يزعزع الحدود بين الواقع والسرد. هذا الدمج بين السيرة الذاتية والخيال يُبرز الإشكالات الأخلاقية والمعرفية المرتبطة بكتابة التاريخ.
**تفكك الزمن** هو تقنية أخرى، حيث تتخلى الروايات عن التتابع الزمني وتعرض سردًا دائريًا أو متشظيًا. وفي رواية *محبوبة* (1987) لتوني موريسون—رغم تردد تصنيفها ضمن ما بعد الحداثة—نجد بناءً سرديًا يعكس تمزق ذاكرة الصدمة، ويُقوّض مفهوم الزمن الخطي.
**الراوي غير الموثوق به** أيضًا من السمات المميزة. في رواية *مدينة الزجاج* (1985) لبول أوستر، تنهار هوية السارد والبطل في دوامة مرايا سردية، مما يزعزع السلطة السردية التقليدية. يتم استخدام الشكل البوليسي لتفكيكه في الوقت نفسه، مما يُبرز استحالة الوصول إلى الحقيقة في عالم مضطرب المعنى.
**ثالثًا: القضايا الموضوعية والمنطلقات الفلسفية**
تتناول الروايات ما بعد الحداثية قضايا **الهوية**، **اللغة**، **التاريخ**، و**الواقع**، وهي تتفاعل مع الفكر ما بعد البنيوي والتفكيك ، لا سيما أعمال جاك دريدا، وجان بودريار، وجان فرانسوا ليوتار. وتُعبّر عن رؤية تفترض أن العلامات تُحيل إلى علامات أخرى دون مرجعية أصلية، وأن الواقع مشروط بالخطاب والمحاكاة.
في *المريض الأمريكي* (1991) لبريت إيستون إليس، يُشكّل البطل باتريك بيتمان ذاته من خلال أسماء العلامات التجارية، والحوارات السطحية، والخيالات العنيفة، ما يعكس هوية فارغة في ثقافة استهلاكية. والرواية ترفض تأكيد ما إذا كانت الأحداث حقيقية أو متخيلة، مما يُزعزع فكرة الواقع الموضوعي.
كذلك، في *ليبرا* (1988) لدون ديليلو، يُعاد بناء حادثة اغتيال كينيدي من خلال مزيج من الوقائع التاريخية والخيال، مما يُظهر أن التاريخ نفسه مجرد سرد يتكوّن من روايات متنافسة. ترفض الرواية الإغلاق، وتعرض تعددًا في وجهات النظر يعكس الشك ما بعد الحداثي في السرديات الموحدة.
وتنتقد الروايات ما بعد الحداثية دور **الإعلام** و**التكنولوجيا** في تشكيل التجربة الإنسانية. في *الضجيج الأبيض*، يُهيمن الإعلام والسلع على الواقع، حتى يصبح الموت والرغبة والكوارث مجرّد منتجات تُستهلك. ويتأثر البطل بالأخبار التلفزيونية أكثر من الكارثة الحقيقية، مما يُجسد مفهوم بودريار حول "الواقع الفائق" (hyperreality).

**رابعًا: المقاومة واستعادة الهامش: ما بعد الحداثة والتهميش الثقافي**

رغم أن الروايات ما بعد الحداثية الأولى وُصمت بالعدمية أو اللاسياسية، فإن العديد من الكتّاب حول العالم استخدموا تقنيات ما بعد الحداثة لاستكشاف قضايا **العرق**، **النوع الاجتماعي**، و**الهوية الثقافية**. فقد دمج كُتّاب مثل توني موريسون، وإيشميل ريد، وكاثي آكر جماليات ما بعد الحداثة مع نقد ثقافي عميق.

في رواية *المامبو الجامح* (1972) لإيشميل ريد، يتم المزج بين السخرية والكولاج والمحاكاة التاريخية والأسطورة الأفريقية، لتحدي السرديات الغربية واستعادة ثقافة الشتات الأفريقي. يستخدم ريد أساليب ما بعد الحداثة لا لتفكيك التقاليد فقط، بل لمقاومة الهيمنة الثقافية أيضًا.
أما كاثي آكر، ففي روايتها *دم وأحشاء في المدرسة الثانوية* (1978)، تستخدم تقنيات القص واللصق والمحتوى الجنسي الفجّ والتجريب الطباعي، لتفكيك النظام الأبوي واستكشاف تشظي الهوية الأنثوية. ويُعد عملها نموذجًا لكيفية توظيف الأساليب ما بعد الحداثية لأغراض نسوية راديكالية.

وأخيرا تمثل الرواية ما بعد الحداثية، وخاصة في الأدب الأمريكي، ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد. وتتمثل جمالياتها—الساخرة، المتفككة، التناصية، والواعية بذاتها—في محاكاة لحالة ثقافية مشبعة بالشك والتشظي وهيمنة الإعلام. وتُقوّض أساليبها السردية مفاهيم المؤلف، والواقع، والزمن، داعية القارئ إلى خوض تجربة نصيّة غنية ومربكة في آن. وبدلًا من أن تكون مجرّد لعب لغوي أو إنكار للمعنى، فإن الرواية ما بعد الحداثية تمثل فضاءً خصبًا للتفكير الفلسفي والنقد الثقافي. ومع استمرار القرن الحادي والعشرين في مواجهة التكنولوجيا والأزمات والهوية، تظل إرث ما بعد الحداثة حاضرًا—لا بوصفه شكلًا ثابتًا، بل كطريقة كتابة واعية بتناقضات الحياة المعاصرة.



#هويدا_صالح (هاشتاغ)       Howaida_Saleh#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللغة والفكر: ملاحظات نقدية على -قلق الجندر- لجوديث بتلر
- جوليا كريستيفا: رائدة نسوية وفيلسوفة تتحدى جميع الأنساق الثق ...
- ال -nonfiction- من المذكرات والسير إلى البودكاست
- فلسفة الجسد في المسرح التجريبي
- الرواية والذكاء الاصطناعي: تحولات في الأدب والأساليب السردية ...
- الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية في الرواية
- روايات أدب الرعب: لماذا هي الأكثر مبيعًا بين الشباب؟
- مسلسل- فاتن أمل حربي- وال - ستريو تايب-
- فلسفة الميتافيرس ومستقبل البشرية
- بث الحياة في الماضي: كيف يمكن للروائيين الجدد أن يستلهموا ال ...
- تأثيرات استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات الثقافية
- التنمية المستدامة في عصر ال A I
- فلسفة التأمل الداخلي..الغوص عميقا داخل الذات
- قراءة في رواية- ثلاث طرق للسعادة- د. عمار علي حسن
- تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الفن التشكيلي والتصميم الجرافيت ...
- قراءة في رواية -كفر هلال، رجال أتلفها الهوى-
- الذكاء الاصطناعي وكتابة الشعر
- الأفروسنتريك والحقوق التاريخية المزيفة!
- الوجه الأنثوي للثورة المصرية
- -هامنت- الرواية التي جسّدت سيرة حياة ابن شكسبير


المزيد.....




- رحيل روبرت بينتون.. السينمائي الذي أعاد تعريف الطلاق ومعاناة ...
- روبيرت دي نيرو -المناضل- وأسطورة السينما العالمية: -في بلدي ...
- مصر.. جدل في البرلمان بسبب إغلاق بيوت الثقافة.. ومسؤول: -مسا ...
- السويد الى نهائي مسابقة الاغنية الاوروبية يوروفيجن
- -المعجم الأدبي- يرى النور في طهران بثنائية فارسية - عربية
- المؤرخ الأميركي يوجين روغان: الاستعمار سلّح الاستشراق والعثم ...
- اللغة العربية والذكاء الاصطناعي.. معركة للبقاء في المشهد الر ...
- في مهرجان كان السينمائي.. لا يجوز الصمت أمام رعب غزة
- صورة محمد بن سلمان -الأيقونية- تثير تفاعلا في سوريا بعد رفع ...
- تألق عربي لافت في حفل افتتاح مهرجان كان السينمائي 2025


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - **الرواية ما بعد الحداثية: الجماليات والأساليب السردية