*يزيد حكام اسرائيل من هجومهم على الرئيس عرفات، ويصرون على فرض مقاطعة عرفات على قادة اوروبا والعالم *وفي المقابل فإن التحرك الفلسطيني على هذا الصعيد لم يرتق الى المستوى المطلوب*
بقلم: برهوم جرايسي*
اهملت وسائل الاعلام الاسرائيلية، وبشكل واضح، نبأ قيام الحكومة الاسرائيلية بالغاء الدعوة لوزير الخارجية الروسية ايغور ايفانوف، الذي كان يعتزم زيارة اسرائيل، يوم الخميس المقبل، وهذا في اعقاب اصرار الوزير الروسي على لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وقد تم اللقاء يوم الاحد، وهذه ثاني حادثة من نوعها إذ كانت الأولى مع وزير الخارجية الاسبانية..
وتتزامن هذه الخطوة الاسرائيلية مع حملة متجددة تشنها الحكومة الاسرائيلية، بدءا من رئيسها اريئيل شارون، على الرئيس عرفات، وعلى كافة الاطراف الدولية التي تصر على مكانة الرئيس عرفات، وتريد مواصلة العلاقات الرسمية معه، وعلى رأس هذه الاطراف غالبية دول الاتحاد الاوروبي. فقد ادعى اريئيل شارون بأن العلاقات الاوروبية مع الرئيس عرفات، تشكل عائقا لعملية السلام، وقد وضع شارون على رأس جدول اعماله جولته الاوروبية الحالية، مطالبة قادة اوروبا بقطع علاقاتها مع الرئيس عرفات، وتركيز العلاقة مع رئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس.
ويلقى هذا المطلب الشاروني دعما من قبل الادارة الامريكية، وانضمت اليها في الآونة الاخيرة الحكومة الايطالية، الرئيسة الدورية للاتحاد الاوروبي، وكل هذا مقابل صمت عربي، وشلل فلسطيني لصد المؤامرة الشارونية، التي تهدف الى خلق العقبات، من جهة، واذلال الجانب الفلسطيني الرسمي من جهة اخرى. فليس غريبا ان حكام اسرائيل يصرون، قبل وبعد اي لقاء لهم مع الجانب الفلسطيني، على اطلاق تصريحات عدوانية ضد الرئيس عرفات، تؤكد على نيتهم مواصلة محاصرته، وحتى التلميح الى ان النية لطرده من وطنه ما زالت قائمة.
تحاول وسائل الاعلام الاسرائيلية، وابرز المحللين العسكريين والسياسيين في اسرائيل تصوير هجوم شارون على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، على انه صراع بات يأخذ طابعا شخصيا، وان هذا الصراع، الشخصي، بدأ في العدوان الاسرائيلي على لبنان في العام 1982 وحصار بيروت، ولكن هذا تحليل سطحي، يميز غالبية المحللين السياسيين في اسرائيل. فشارون ليس بـ "المجنون"، او "المغامر"، وغيرهما من الاوصاف، التي تبعد عمليا جوهر طابع حاكم اسرائيل.
اريئيل شارون ليس مجرد حاكم منفلت، بل ان جميع خطواته مدروسة بشكل وثيق، وحين يوجه سهامه، فهو يعرف تماما اي هدف يريده. فمثلا هو يواصل ذبح الشعب الفلسطيني بجميع الوسائل، ولكن هذا لا يكفيه، فهو يريد كسر معنويات الشعب الفلسطيني، والقضاء على رموزه وقياداته التاريخية، التي تحولت بفعل النضال المستمر الى رموز لهذا النضال.
ومسألة الشخصيات رموز النضال هي ظاهرة تاريخية ومعاصرة معروفة لا تقتصر على شعب دون سواه، والشعب الفلسطيني هو احد هذه الشعوب. لذلك فإن هجوم شارون على الرئيس عرفات هو معركة موجهة ضد الشعب الفلسطيني بأسره، ومناورة خطيرة، لا يمكن المرور عليها مر الكرام.
حين تم استحداث منصب رئيس حكومة في السلطة الفلسطينة، ومن ثم تشكيل هذه الحكومة، وبغض النظر عن الظروف والضغوط غير الطبيعية، التي قادت الى هذه الخطوة الفلسطينية، اعلن رئيس الحكومة محمود عباس (ابو مازن) عن انه يرفض التحرك خارج الاراضي الفلسطينية في الاطار الدبلوماسي، قبل رفع الحصار عن الرئيس ياسر عرفات، والمستمر فعليا منذ حوالي 20 شهرا. وقد ساهم هذا التصريح في تبديد العديد من الشكوك حول النوايا المبيته، هذا إن كانت موجودة اصلا، في الحكومة الفلسطينية الجديدة.
ولكن، للاسف سرعان ما بدأنا نشهد تراجعات متسارعة عن هذا التصريح، فقد تزايدت اللقاءات الدبلوماسية في داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة، التي اقتصرت على لقاء ابو مازن ووزارئه، مع تغييب واضح للرئيس عرفات، وهذا ليس فقط من قبل الدبلوماسية الامريكية، بل ايضا من قبل قادة ايطاليا وغيرها.
ثم جاء لقاءا شرم الشيخ في مصر، والعقبة في الاردن، حيث تم تغييب الرئيس عرفات، ليس فقط شخصيا، وانما حتى في الخطاب، والانكى من كل هذا ان هذا تم في الوقت الذي استمر فيه الحصار على الرئيس عرفات.
ثم جاءت طامة ليست بأقل، حين حمل ابو مازن نفسه، ووزيره محمد دحلان، الى القدس الغربية، للقاء شارون في ديوانه الرسمي، وسط جميع المظاهر الرسمية والاحتفالية، وبحضور اعلامي مكثف، وهذا الامر يحدث لاول مرة في تاريخ الاتصالات الاسرائيلية الفلسطينية الرسمية، التي بدأت فعليا في الربع الاخير من العام 1993.
وايضا هنا شارون لم يكن هذا "الجد ذي الصدر الرحب، الذي يعرف كيف يستقبل ضيوفه"، كما تصوره لنا وسائل الاعلام الاسرائيلية، بل انه هو شخصيا الذي وضع البرنامج البروتوكولي لهذا اللقاء.
والى جانب كل هذا، فإنه من الصعب ان لا ننظر الى الازمة الداخلية المفتعلة، في داخل حركة فتح، وتقديم ابو مازن استقالته من اللجنة المركزية للحركة، ومن ثم تسريب معلومات حول خلافات ابو مازن مع "انصار عرفات" في داخل اللجنة، وايضا تلك الرسالة التي وجهها ابو مازن للرئيس عرفات، ووصل نصها للصحافة الاسرائيلية، إذ أن هذه التصرفات، بتوقيتها المحرج ظهرت كداعمة للهجوم على الرئيس عرفات ومحاولة تشويه صورته.
ليس المقصود هنا نثر اتهامات والتشكيك برئيس الحكومة ابو مازن، الذي له ماض مهيب في مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية، ولكن من الصعب التحرر من الشعور بأن مجمل التحركات المتلاحقة باتت تصب في هدف واحد، وهو ابعاد الرئيس عرفات، وكل جانب لاهداف مختلفة. ومن السهل جدا على ابو مازن، الآن بالذات، ان يجعلنا نتحرر من هذا الشعور الخطير، وهو العودة الى ما التزم به حين تسلم مهامه، بما يخص الحصار الارهابي الذي يفرضه حكام اسرائيل على الرئيس عرفات، وعدم الاكتفاء باستنكار حكومي فلسطيني، لا يصمد الحبر الذي كتب به امام لهيب اشهر الصيف.
بامكان ابو مازن ان يستغل هذا الانهراق المفتعل من جانب اسرائيل وجهات دولية أخرى، ومن ضمنها الولايات المتحدة على مسألة وجود قيادة جديدة في الجانب الفلسطيني، وان يضع شرط رفع الحصار عن الرئيس عرفات، لأي تحرك دبلوماسي مقبل، وان يرفض استقبال اي دبلوماسي اجنبي في الاراضي الفلسطينية، إذا ما رفض هذا الدبلوماسي لقاء الرئيس عرفات من منطلق التجاهل المقصود والمقاطعة، والانصياع الى اوامر واملاءات اسرائيل.
إن حكومة شارون، تصر على السيطرة على حبل الشد بينها وبين الجانب الفلسطيني، وترك الامور تسير حسب جدول اعمال شارون، قد تجعل هذا الحبل يلتف على عنق الجانب الفلسطيني الرسمي، ليختنق اكثر فأكثر. وعلى الجانب الفلسطيني، الآن، ان يستغل الظروف الناشئة، بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية، ليمسك هو ايضا بالحبل، وليتقن عملية شد الحبل بين الطرفين.
على ابو مازن وزملائه الالتفات ايضا الى الاختبارات الصعبة التي يواجهونها في داخل الشارع الفلسطيني، وخاصة في مسألتي تحرير الرئيس عرفات، وعملية اطلاق سراح الاسرى، وليس فقط اختبارات "حسن السلوك" التي تفرضها اسرائيل بدعم امريكي، وغيره.
إن فهم الواقع وظروف المرحلة هو امر ضروري لاي تحرك سياسي، ولكن هذا الفهم يجب ان لا يقود الى منزلقات خطيرة.
*صحفي فلسطيني مقيم في الناصرة