بيان صالح
(Bayan Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 12:10
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سلسلة "نساء غيّرن التاريخ"
(2)
Róża Luksemburg
1871 - 1919
المقدمة
على مرّ التاريخ، لعبت النساء أدوارًا حاسمة على الصعيدين العالمي والمحلي. ناضلن من أجل الحقوق، شاركن في الحكومات، قدن دولًا، أبدعن في مجالات الفنون والعلوم، وألهمن أجيالًا متعاقبة. ورغم ذلك، كثيرًا ما جرى تهميش قصصهن أو تقليص أثرهن في السرديات التاريخية التي هيمن عليها المنظور الذكوري.
تأتي سلسلة "نساء غيّرن التاريخ" لتسلّط الضوء على نساء بارزات من مختلف السياقات: عالميًا، محليًا، وإقليميًا – من قائدات سياسيات وناشطات، إلى باحثات رائدات وشخصيات ثقافية مؤثرة، تركن بصمات لا تُمحى في مجتمعاتهن والعالم.
روزا لوكسمبورغ وتطوير الماركسية من منظور نسوي
في يوم يحتفل فيه العالم بنضال الطبقة العاملة، يبرز اسم روزا لوكسمبورغ كرمز لا يُنسى... امرأة اختزلت في شخصها الفكر الثوري، والجرأة الفكرية، والالتزام الوجداني الكامل بالقضية. أستهلّ مناسبة يوم 1 أيار، عيد العمال العالمي، باختيار روزا لوكسمبورغ من سلسلة "نساء غيّرن التاريخ". رقم 2.
في هذا السياق، نادرًا ما نجد شخصية تجسّد بعمق روح امرأة مناضلة، بفكر ماركسي حادّ، وناقد، وبقلب أممي لا يعرف المساومة، كما تجسّدها روزا لوكسمبورغ. لم يكن فرانز مهرينغ، كاتب سيرة كارل ماركس، مبالغًا حين وصف روزا بأنها "العقل الثاني بعد ماركس"، وأنا أضيف بأنها العقل الأول كامرأة فهمت الرأسمال، والصراع الطبقي، والنضال من أجل عالم اشتراكي أفضل للبشرية.
كما كتبت عنها صديقتها المقربة المناضلة والمفكرة الكبيرة كلارا زيتكن في نعيها: كانت الفكرة الاشتراكية تملأ قلب وعقل روزا لوكسمبورغ، وشكلت شغفها الخلاق ومهمتها الكبرى: تمهيد الطريق للثورة الاشتراكية. كانت تجربة الثورة والمشاركة في معاركها قضيتها الكبرى. بإرادتها الصلبة قناعتها الكاملة، كرست حياتها بالكامل للاشتراكية، ليس فقط بوفاتها المأساوية، بل بكل لحظة من حياتها ونضالها الطويل، كانت المناضلة والشعلة الحية للثورة.
فمساهماتها لم تكن مجرّد إضافات على النظرية الماركسية، بل كانت نارًا تنبض في قلب الحركة الثورية. روزا لم تكتب فقط، بل عاشت نضالها. منحت قضيتها قلبها، وعقلها، وإرادتها، بل حياتها كلها. لم تكن تهادن، ولم تقبل أنصاف المواقف، بل كانت تجسيدًا حقيقيًا لماركسية ثورية لا تعرف التراجع.
روزا لوكسمبورغ: من بولندا إلى ساحات الثورة
وُلدت روزا لوكسمبورغ عام 1871 في بولندا، وانخرطت في العمل الثوري منذ سن السادسة عشرة، ضمن صفوف حزب "بروليتاريا" الذي تميّز بتنظيم الحركة العمالية، بعيدًا عن النزعات الفردية والمغامرات الإرهابية. بعد قمع الحزب، غادرت إلى سويسرا لدراسة الاقتصاد والعلوم، وسرعان ما أصبحت من أبرز الأصوات الفكرية المعارضة في صفوف المهاجرين الثوريين.
منذ بداياتها، تميزت روزا بجرأة فكرية نادرة، ووقفت ضد التيارات القومية داخل الحركة الاشتراكية البولندية، دفاعًا عن النضال الطبقي الأممي. وفي ألمانيا، التحقت بالحركة العمالية، وأصبحت من أبرز منظّري الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وشاركت في تحرير العديد من الصحف وتقديم الخطابات الجماهيرية، رافعة راية الثورة.
الثائرة التي لم تهدأ ومناضلة لم تعرف التراجع أو السكون
انحازت دوما روزا إلى الجماهير الكادحة، وتسللت سرًا إلى بولندا عام 1905 للمشاركة في الانتفاضة، ثم عادت إلى ألمانيا، حيث واصلت كتاباتها وتحريضها ضد الإمبريالية والحرب. شاركت في تأسيس عصبة سبارتاكوس، نواة الحزب الشيوعي الألماني، إلى جانب كارل ليبكنخت.
في كتابها النظري الأهم - تراكم رأس المال-، شرّحت العلاقة بين الرأسمالية والإمبريالية، واعتُبر عملها أحد أبرز الإسهامات الماركسية بعد ماركس نفسه. خلال الحرب العالمية الأولى، وقفت بكل وضوح ضد النزعة القومية والحرب، فاعتُقلت أكثر من مرة، لكنها واصلت النضال حتى من داخل الزنازين.
روزا لوكسمبورغ لم تكن فقط منظّرة ماركسية، بل كانت ضميرًا حيًا لحركة تحرر الإنسان. في كتاباتها، كما في نضالها، جسّدت الطموح نحو الاشتراكية. وها هي، بعد أكثر من قرن، لا تزال تلهم كل من يؤمن بالبديل الاشتراكي وعالم أفضل للبشرية.
"الحرية دائمًا هي حرية من يفكر بشكل مختلف"، ضد الإصلاحية والبيروقراطية.
الحرية الحقيقية هي حرية من يجرؤ على التفكير المختلف... في مواجهة الإصلاحية والبيروقراطية. لم تكن روزا لوكسمبورغ فقط مناضلة في الشوارع والساحات، بل كانت أيضًا من أبرز من خاضوا المعارك الفكرية داخل الحركة الاشتراكية نفسها، وخصوصًا ضد التيار الإصلاحي الذي أخذ يتسلل إلى صفوفها.
كان أبرز هذه المعارك سجالها مع إدوارد برنشتاين، المنظّر الأبرز لما سُمّي بـ"الاشتراكية التدريجية"، حيث رأت فيه روزا خطرًا حقيقيًا على جوهر الماركسية وروحها الثورية.
في كتيبها الشهير إصلاح أم ثورة؟، أكدت أن الإصلاح لا يُغني عن الثورة، وأن النضال البرلماني، مهما بدا ضروريًا، لا يكفي لبناء مجتمع اشتراكي، لأن النظام الرأسمالي لا يمكن إصلاحه من الداخل، بل لا بد من تجاوزه كليًا.
لكنّ نقدها لم يتوقف عند الإصلاحيين.
روزا واجهت أيضًا لينين و تروتسكي، ليس من موقع العداء، بل من موقع الرفيقة الذي ترى خطر البيروقراطية المركزية على الروح الديمقراطية للثورة. اختلفت معهم حول بنية الحزب، وعارضت النموذج الهرمي المغلق الذي اعتبرته خطرًا على العلاقة العضوية بين الحزب والجماهير. لم تكن تخشى قول الحقيقة، حتى في وجه الحلفاء وأقرب الرفاق.
وكتبت في إحدى رسائلها من السجن:
"الحرية دائمًا هي حرية من يفكر بشكل مختلف."
عبارة اختزلت فيها ليس فقط موقفها من البلاشفة، بل موقفها من كل سلطة تُقصي التعدد والتنوع، حتى لو كانت سلطة اشتراكية ثورية. بالنسبة لروزا، لم يكن النضال من أجل الاشتراكية منفصلًا عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية. فأي اشتراكية لا تُبقي مجالًا للصوت المختلف، هي نفيٌ لروح الثورة ذاتها.
لحظة الثورة... ولحظة الغدر
حين اندلعت الثورة الألمانية عام 1918، لم تتردد روزا لوكسمبورغ لحظة. بعد خروجها من السجن، التحقت برفاقها ورفيقاتها في قلب العاصفة وفي الميدان الجماهيري. لم تكن الثورة بالنسبة لها مجرد حدث سياسي، بل كانت لحظات مصيرية يتجلّى فيها جوهر الإنسان في أقصى درجات وعيه وشجاعته. وفي خضم تلك الأيام العاصفة، كتبت، حرّضت، نظّمت، ناضلت، وظلّت وفيّة لقيمها حتى النهاية. وخاضت معركتها الأخيرة بصلابة لا تلين. كانت تعرف أن الثمن قد يكون حياتها، لكنها لم تساوم.
قالت في إحدى رسائلها:
"لقد كنت، وسأبقى، ما أنا عليه: مناضلة في صفوف الاشتراكية."
وفي 15 يناير 1919، وقعت لحظة الغدر. اعتُقلت روزا مع رفيقها كارل ليبكنخت، واقتيدا من قبل ميليشيات الثورة المضادة. لم تكن هناك محاكمة، لم يكن هناك قانون؛ فقط رصاصة في الرأس، وضرب حتى الموت، ثم جسد مُلقى في قناة برلين.
كان ذلك اغتيالًا لجسد، لا لفكرة. فجسد روزا غاب، لكن افكارها لم تُدفن.
لقد كانت، وظلّت، ضميرًا حيًا لحركة تحرّر الإنسان، صوتًا لا يُخمد، ونداءً دائمًا نحو عالم اشتراكي أكثر عدلًا.
إن موتها لم يكن نهاية، بل بداية لمرحلة جديدة في الذاكرة الماركسية الثورية، حيث تُقرأ كلماتها اليوم ليس كتاريخ، بل كراهن وكأفق اشتراكي مفتوح.
أهم كتب وإصدارات روزا لوكسمبورغ:
1. تراكم رأس المال (The Accumulation of Capital) – 1913
تجادل روزا أن الرأسمالية لا يمكن أن تعيش فقط على الأسواق الداخلية، بل تحتاج باستمرار إلى التوسع في مناطق غير رأسمالية (مثل المستعمرات) لبيع منتجاتها واستغلال الموارد. هذا التوسع يؤدي إلى الإمبريالية والحروب، وهو شرط لاستمرار النظام، لكنه في النهاية يقود إلى أزمته وانهياره.
2. الإصلاح أم الثورة؟ (Reform´-or-Revolution) – 1899
تنتقد أفكار إدوارد برنشتاين الذي دعا إلى الإصلاح التدريجي داخل النظام الرأسمالي بدلاً من الثورة. ترى روزا أن الإصلاحات لا يمكنها تغيير النظام الرأسمالي الجوهري، وأن الحل الحقيقي يكمن في ثورة شاملة تنهي الاستغلال الطبقي وتؤدي إلى بناء مجتمع اشتراكي.
3. الإضراب الجماهيري، الحزب، والنقابات (The Mass Strike, the Political Party and the Trade --union--s) – 1906
تؤكد على أهمية الإضراب الجماهيري كأداة ثورية لتحريك الجماهير ضد النظام. ترى أن الإضراب يجب أن يكون سياسيًا وليس مجرد احتجاج اقتصادي، كما تؤكد على ضرورة أن يرتبط الحزب الثوري عضويًا بالجماهير، مع بقاء النقابات جزءًا أساسيًا من الحركة العمالية.
4. حول الثورة الروسية (The Russian Revolution) – 1918
تدعم الثورة البلشفية عمومًا، لكنها تنتقد قيادة البلاشفة لإلغائهم الديمقراطية الداخلية بعد الثورة. تؤكد على ضرورة وجود حرية ديمقراطية حقيقية داخل الثورة الاشتراكية، وترى أن القمع السياسي يشكل تهديدًا لها.
5. رسائل من السجن (Letters from Prison)
مجموعة رسائل كتبتها خلال فترة سجنها أثناء الحرب العالمية الأولى، تعكس رؤيتها السياسية والفكرية، وتكشف عن جوانب إنسانية وشخصية، من حبها للفكر والفن، إلى معاناتها مع العزلة.
************************
المصادر:
1. روزا لوكسمبورغ: سيرة فكرية وسياسية – تأليف: جي. بي. نيتل
2. روزا لوكسمبورغ: قلب ثوري وعقل ناقد – موقع: الاشتراكي
3. روزا لوكسمبورغ – موسوعة المعرفة
4. The Rosa Luxemburg Reader – Edited by Peter Hudis & Kevin B. Anderson
5. Rosa Luxemburg: A Revolutionary Life – By J. P. Nettl
6. Rosa Luxemburg – Stanford Encyclopedia of Philosophy
#بيان_صالح (هاشتاغ)
Bayan_Salih#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟