|
الندبة الرابعة (قصة قصيرة من سلسلة الندبات)
حسام عتال
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 09:03
المحور:
الادب والفن
الندبة الرابعة:
عندما تكلم مجد كنّا جميعاً هناك، أولاد الحارة: هو، وأخته الصغيرة علا، ومازن، وجورج، وفايز، وعايدة. كّنا على سطح البناية، نراقب سماء دمشق الرمادية رغم أنها خالية من الغيوم. وقتها ادّعى مجد أن الطيارات الأميركية هي أفضل من الطيارات الروسية.
لم تأبه عايدة لما قاله مجد، كانت تقف جانبي، ساعدها الأبيض يتدلى على حافة سور السطح الأسمنتي، هي أكبرنا، عمرها أربعة عشرسنوات، شعرها بلون القش، تربط شعرها كذيل الحصان خلف رأسها الذي اعتادت أن تهزه بسرعة لنقل شعرها من كتف لآخر، وتلعب الكرة معنا في الشارع بمهارة (يجب أن أعترف بذلك)، وترافقنا في توغلنا في بساتين الغوطة الشرقية لجمع (سرقة في الحقيقة) أنواع الفاكهة، والصبّار، وأعواد عرق السوس، قبل العودة لبيوتنا مع مغيب الشمس خلف جبل قاسيون. كنا نعتبرها نداً لنا، ونسميها "حسن صبي"، لكن ذلك لم يمنعنا من اختلاس النظر تحت قميصها القطني الأبيض حيث بدأ صدرها بالانتفاخ. لكن، في ذلك اليوم الرمادي، كان ثدياها الكاعبين آخر همّنا ونحن نراقب سماء دمشق، ذلك لأن أحداث الأيام الماضية كانت قد قلبت حياتنا عاليها سافلها… وهمومنا اليانعة قد تحولت في اتجاه مختلف.
قبلها بأيام، كانت باصات النقل الداخلي في دمشق تتوقف كل نصف ساعة في حي التجارة. بعد الحي امتدت بساتين الغوطة شرقاً، ومن أراد زيارة بلدات الغوطة مثل جوبر أو القابون أو حرستا كان عليه ركوب مواصلات خاصة كي يصل هناك. عائلتنا سكنت في حي التجارة في بناية من ثالثة طوابق، مقابلة لمدرستي البيروني الابتدائية وبسام حمشو الثانوية. الأولى كانت مدرستي (كنت في الصف الخامس)، والثانية كانت المدرسة التي درسّت فيها أمي الإنكليزية لطالبات الثانوية ببدلاتهم العسكرية ذات اللون الأخضر القاتم.
قبل دخول بنايتنا كنتُ أمرُّ بمحلات النوفوتيه والحلاق والمكتبة والسمّان في الطابق الموازي للشارع، ثم أدخل بهو الدرج المعتم وأجتاز عيادة طبيب الأسنان في الدور الأول، رائحة الكلوروفورم تفوح منها وتعبربهو الدرج وتملأ رأسي بشعور غريب. كنت كلما مررت بها أتلكأ قليلاً قبل أن أكمل تسلقي الدرج حتى أصل بيتنا، منتشياً بأثير المخدر.
وبسبب موقع بيتنا الاستراتيجي، كنت أراقب كل صباح، من البلكون، باحة مدرسة البيروني وأنا أمضغ سندويشة الحلاوة التي حضّرتها لي أمي. ومتى بدأ الطلاب بالوقوف في الصف لترديد النشيد الوطني (هذا في زمن قبل أن يتحول ذلك لهتافات تمجيد القائد)، كنت أقفز على الدرج، كل ثلاثة درجات معاً، وأصل المدرسة بأقل من دقيقة قبل أن يغلق الباب الحديدي العريض - الباب ذو القضبان الغليظة الثلاثة الممتدة في جانبيه، والتي كانت تدخل في فتحات مخصصة في دعامتي السور الإسمنتي، لإحكام إغلاقه بعد دخول الطلاب، مصدرة صريراً معدنياً حاداً.
بعد دخول المدرسة، وقد حُبِس الطلاب لمدة خمس ساعات في صفوف وردهات وباحات المدرسة، كنا نستمع خلالها لما سيقرأه لنا الأستاذ خبازة من الزجل الذي ألفّه الأسبوع الفائت. وسنعاين آخر اللوحات التي رسمها الأستاذ أحمد، والتي كانت إما منظراً طبيعياً أو إمرأة بأكتاف عارية، مصقولة كقطعة من عاج. وسنتظاهر بالاهتمام عندما تخبرنا الآنسة رحاب عن مهارتها في لعبة الشطرنج - فهي بطلة الجمهورية في اللعبة - وتريد أن يعرف الجميع ذلك. وسنلعب بأقلام الستيلو ملطخين أصابعنا بالحبر الأزرق، والتي كنا نمسحها بمريول الطالب الجالس أمامنا وكأنها منشفة مخصصة لهذا الغرض. وسنرمي بعضنا بأوراق الدفاتر المشقوقة التي كوّرناها فأصبحت كقذائف صغيرة، صالحة للأهداف البعيدة.
وبعد المدرسة، وقبل الذهاب للبيت، كان وقت لعب كرة القدم في الشارع الأسفلتي (عايدة معنا في مركز الهجوم)، مستخدمين أكواماً من الحجارة لتعليم حدود مرمى الهدف؛ يتلو ذلك الركض نحو حديقة التجارة حيث نصطاد الضفادع الصغيرة من بركة الماء التي تتوسطها، نجمعها في أكياس نايلون شفافة مملوءة بالماء، وبعد أن نراقبها لساعات كانت تنتهي في البلوعة، أو المرحاض - عبارات مثل "الرفق بالحيوان" لم تكن في القاموس الذي تعلمنا منه حينها.
هذا الروتين تغيّر عندما عُدت يوما من الحديقة، في يدي كيس تعوم في جوانبه صغار الضفادع، شكلها كالنطاف، مرتبكة تصطدم بجداره ثم ترتد خلفاً كي تعيد الكرة، ووجدت والدي قد وضع كرسي خيزران تحت سقيفة البيت، وتسلقها، وبات ينبش في أغراضه المخزنة فيها. أخذ يلقى بعضها على الأرض في ردهة البيت فتقرقع وهي تتدحرج على البلاط الأبيض، يحيطها هالة من غبار أصفر: قميص وبنطال بلون كاكي، وجعبة مسير خضراء، وعلبة إسعاف شخصية، وقارورة ماء حديدية (مطرة) مثبّتة في زنار جلدي، ثم مسدس المكاروڤ وعلبة كرتونية أطرافها متجعدة، اصطفت فيها طلقات المسدس النحاسية.
كنت أعرف أن أبي ضابطاً في سلاح الطيران، لأنه عند ذهابه للعمل كان يرتدي بدلة كحلية من الصوف مكوية بعناية، تحتها قميص أبيض بياقة منشاة، وربطة عنق سوداء، ويسوّي على رأسه البيريه عليها نسر الجيش السوري الذهبي، قبل أن يركب البيجو البيضاء متجهاً للمطار العسكري. لم أعتد رؤيته في لباس مختلف غير لباسه الرسمي، فعندما نفض الغبارعن ثياب المعركة المخزنة، ولبسها، بدا وكأنه جندي حقيقي لأول مرة، أشبه بالجنود الأميركان الذين كنت أراهم على شاشة التلفاز الأبيض والأسود وهم يحاربون في أدغال فيتنام. كنت أكرههم لأن تعليقات المذيعين في التلفاز عنهم كانت نكرة وهجينة، فشعرت بانقباض في قلبي: ماذا حصل… هل تحول والدي إلى جندي شرير؟ هل سيذهب لقتل الأبرياء المدنيين في الأدغال؟
بعدها غاب أبي عن البيت لمدة بدت طويلة. في الأسبوعين الأوليين كان يتصل بأمي كل يومين أو ثلاثة ويتكلم على الهاتف لدقيقة أو أقل. كنت أراقبها وهي تستمع إليه دون أن تجيبه، فقط تهز رأسها وتهتز معه خصلة من شعرها التي لفتّها بأسطوانة بلاستيكية لتأخذ شكلاً كموجة تتدحرج قرب الشاطئ، وأرى القلق والترقب في عينيها بعد كل مكالمة، مما زاد من الانقباض الذي أحسست به.
بعد أسبوعين، وفي اليوم السادس من تشرين الأول، في الساعة الثانية بعد الظهر، ظهر رجل بزيّ عسكري على شاشة التلفاز، له شاربان مشذبان بعناية، ليعلن أن سوريا وحليفتها مصر قد شنّت هجوماً مفاجئاً على العدو الصهيوني الغاشم، وأن النصر قاب قوسين، وأن تحرير الأراضي السورية والمصرية المحتلة حتمي.
لم تعنِ الحرب لمعظم الطلاب شيئاً سوى أننا أصبحنا في فرصة مفتوحة من المدرسة، وكان هذا كفيل بأن يشعرنا بالبهجة، ولكن بالنسبة لي، كانت صورة والدي في لباس الميدان العسكري في مخيلتي كغمامة سوداء تطغى على بقية مشاعري كما عتمة الليل تطغى على نور النهار.
في الأيام الأولى من الحرب كنا نسمع الصفارات التي كانت تنذر بهجوم الطيران الإسرائيلي، وكان علينا وقتها النزول للاختباء، مع بقية سكان البناية، في قبو البناية الرطب المعتم. لكننا كنا، بعد دقائق، نهرب بحجة أننا نريد استخدام المرحاض، وبدلاً نتسلق إلى سطح البناية، نرصد السماء مراقبين الطائرات العسكرية المختلفة في ذهابها وعودتها من المعارك، أو في مناوراتها فوق دمشق، حتى صرنا نعرف كل طيارة من شكل هيكلها وجناحيها وزعانفها، فهذه الميغ 17 وتلك الميغ 21، وأخرى هي الفانتوم الإسرائيلية، أو الميراج، وكنا ننتظر صواريخ سام التي كانت تطلق من بطاريات في أعلى جبل قاسيون تتصيد طائرات العدو، فنصفق بأيدينا وندبك بأقدامنا، ونتعانق مبتهجين.
كان اليوم الثالث بعد بدء الحرب عندما قال مجد أن الطائرات الأميركية أفضل من الروسية. مجد يكبرني بعام، وجهه غير متناسق، وكأن أحدهم قد صفعه للتو فالتوى قليلاً ولم يستعد توازنه. غضبت، لأنني أحسست أنه يتهجم على والدي شخصيا، ودفعت عايدة التي حاولت أن تقف بيننا، وهجمت عليه أريد أن ألقيه من السطح للأسفل. كنت أعرف أنه ابن أحد الضباط الكبار وأن والده كان رئيس فرقة من فرق الجيش السوري، وأن هناك كوخ حراسة (كولبة) أمام بنايتهم المجاورة، لذلك لم أفهم وقتها سبباً لما قاله، أليس من المفترض أن يفتخر بالسلاح السوري (الروسي) وهو ابن أحد كبار ضابط الجيش؟ ظل هذا السؤال كامناً في نفسي طويلاً، حتى أتى زمن، خلال خدمتي في العسكرية، حين أدركت أن كثيراً من الضباط السوريين كانوا يكنّون تقديراً لكل ما هو أمريكي - وليس السلاح وحده - ويسخرون من جودة المعدات والآليات الروسية وجدارتها في الحرب. كنت أراقب المشاحنات بينهم وبين الخبراء الروس، في القطعة التي خدمت فيها في الصحراء بين حمص وتدمر، بما يتعلق بمستوى السلاح الروسي، وأتخيل مجد، بوجهه اللامتناسق، وكأنه يتكلم أمامي كما فعل ذلك اليوم على سطح البناية.
أنظروا! قالت علا، وهي تشير للسماء حيث أصاب صاروخ سام 6 إحدى طائرات الفانتوم… انفضّ النزاع بيني وبين مجد، وبدأنا نراقب الطائرة تهوي، ثم ظهرت مظلة من خلال الدخان الأسود الذي امتد خلف الطائرة في السماء. تعلّق بشرائط المظلة طيّار كأنه نقطة سوداء، وظل يتأرجح ويكبر حتى وصل للأرض في بساتين الغوطة خلف حيّنا.
ركضنا أنا وشلة أصدقائي في الشارع الترابي العفر المحاذي لنهر تورة قاصدين المكان الذي سقط به الطيار. هناك وجدنا مجموعة من الفلاحين الذين كانوا قد التقطوا الطيّار وهم يدفعونه أمامهم باتجاه المدينة. الطيار بدا شاباً صغير العمر، أصابعه طويلة نحيلة كأن بها سقم، يلبس بدلة الطيار الرمادية وعلى ذراعه العلم اسرائيلي بخطيه الزرقاوين والنجمة السداسية في الوسط، وتحت العلم كان هناك شعار أحمر يشبه راس النمر. كان يتكلم العربية بلهجة كأن لكنتها بدوية مع الفلاحين الذين جردوه من مسدسه، أحدهم يحمله بفخر ويلعب به متظاهراً أنه كاوبوي، يوجهه نحو الطيّار تارة، وأخرى نحو بقية الجمع صائحاً: بوم بوم بوم! فلاح آخر، بسروال رمادي كالح، كان يصفع الطيار خلف عنقه كلما تلكأ في السير، آمراً إياه: إمشي… تحرك ولاااا….
شعرت بالشفقة عليه. أردت أن أمسك يده وأخرجه مما هو فيه.
عندما وصل الغفر لمدرسة البيروني، تدافع أعضاء الدفاع المدني كي يستلموا الجندي وأدخلوه الباحة. فرّقوا الناس عن الطيار، وقال رجل ذو صدر منفوخ وهو يلوح بيديه آمراً بصوت مبحوح: "خلص، يعطيكم العافية شباب، نحن مسؤولون عن أمره الآن."
تجمع الناس مرة أخرى حول الباب كسرب حمام حول قصعة من الحبوب، يراقبون ما سيحدث للطيّار. كنت أقصرهم، ولكي لا يفوتني شيئاً من المشهد، تسلقت باب المدرسة حتى وصلت لأعلاه، ووضعت ساعدي الأيسر في الفتحة بين الباب والحائط لأحافظ على توازني.
بسبب كثرة الناس وتدافعهم قام عضو الدفاع المدني، نفس الرجل ذو الصدر المنفوخ، بإغلاق الباب بسرعة. في تلك اللحظة كُنتُ في الوضع المثالي، وكأني حسبته بدقة مسبقاً. سمعت الصرير المعدني المألوف، في حين دخل القضيب الحديدي (الذي هو أشبه بمسمار ثخين) في عضدي من الجهة الوحشية، وانغرز في اللحم، حتى خرج من الجهة الأنسية. لم يباشرني الألم فوراً، ولكن الدم اندفق، وبدأت بقعة تنتشر من أعلى ساعدي حتى أسفلها، مُحيلةً كمّ قميصي الأبيض قرمزياً، ثم بدأ الدم ينقط للأسفل على رأس الرجل الذي كان واقفاً على الأرض، تحتي.
مسح الرجل رأسه ونظر إلى يده، الآن ملطخة بالدم، عبس ثم رفع رأسه ليراني، صاح: "الولد عالق بالقضيب، افتحوا الباب!" فتح الرجال الباب، لكن يدي بقيت عالقة في القضيب. تسلق أحدهم وضمني لصدره وهو يسحب ساعدي خارج القضيب الحديدي الصدئ كمن يسحب قطعة لحم من سيخ الشواء. - أطلبوا الإسعاف، صاح. - الإسعاف مشغول بمصابيْ القصف، ردَّ رجل آخر. وقتها بدأ الألم ينبض في ساعدي، وتسارعت دقات قلبي، ودار رأسي، ثم غبت عن الوعي.
أُخْبِرتُ فيما بعد أن أحد الرجال قد أخذني في سيارته إلى مستشفى المجتهد. هذا لا أذكره. لكني أذكر عندما فتحت عيناي ووجدت نفسي، مرة أخرى، تحت رحمة ممرضة تمضغ علكة، وطبيب يافع شعره يلمع من زيت التسريح. في البعد كأنها أغنية من مذياع قديم، سمعت الكلمات السحرية مرة أخرى: صورة شعاعية، جرح، بنج، قطب، كزاز… وشممت تلك الرائحة الشبيهة برائحة غرفة طبيب الأسنان في بنايتنا، وشعرت بالخدر في أوصالي.
عُدت البيت، ثلاثة قطب في مكان دخول المسمار، وعدد مماثل حيث خرج. المحلول الأصفر الذي استُخدِمَ كمعقّم قد اختلط مع الدم فأصبح لون شاش الضماد، وكمّ قميصي الذي كان قد قُص مفتوحاً، أرجواني اللون وكأني عابد هندوسي في رداءه الملفوف. شرح الرجل لأمي تفاصيل الحادث، ورفض المال الذي عرضته عليه لقاء تعبه: - الله يحفظلك اولادك، قالت له، في عينيها رجاء. ليس عندي أولاد، رد الرجل وهو ينزل على سلم البناية، ديري بالك عليه، شكله طايش هالولد شوي.
الجرح المضمّد لم يغير همّتي في متابعة الهرب من القبو، والصعود للسطح، واللعب في الحارة، والذهاب إلى الحديقة لجمع الضفادع. خلالها كنت دائما أنظر إلى السماء آملاً في رؤية مظلة أخرى تنفتح، يهبط إلى الأرض معها طيار اسرائيلي آخر، لعله أضخم جثة، أو أقسى ملامحاً، أو أثخن أصابعاً كي لا أشعر بالشفقة عليه، أو ربما يتكلم بلهجة دمشقية تخفف القاف والثاء وتقلب الذال زاياً، علّي أفهم ما يقول.
في اليوم السادس للحرب خرجت مظاهرات عارمة في الشوارع بعد إعلان وقف إطلاق النار، وهي تصيح باسم الرئيس مرددة الشعارات التي أطلقها رجل على الأكتاف من خلال مكبّر للصوت. الناطق العسكري في التلفزيون أخبر الناس أن النصر قد تحقق، وأن مدينة القنيطرة قد تحررت. كان هذا أول يوم سمعت فيه عبارة "سوريا الأسد"، العبارة التي ستصاحبني، وبقية رفاقي والشعب السوري معنا لسنوات طويلة قادمة، وستكتب على الجدران، وستملأ اللافتات، وستطبع في الكتب المدرسية، وستتردد في باحات المدارس، وفي الاجتماعات الصباحية في الثكنات العسكرية.
دقّ والدي جرس البيت. خرجت أمي لتقابله، بعد ثلاثة أسابيع من انتهاء الحرب، تحضنته وهي تبكي، فيما جارتنا السمينة تسترق النظر من خلف باب بيتها. كان شعر والدي طويلاً وذقنه غير حليقة. بنطاله قد تجعد حول خصره وكاد يسقط لولا الزنار العريض الداعم. دخل الحمام ثم خرج، أكل ببطء ما طبخت أمي، ثم اختفيا في غرفة نومهما.
بعد أيام قادنا والدي في سيارته إلى القنيطرة، المدينة المحطمة عدا جزء من كنيسة وقسم من أحد مباني المشفى… الباقي كان أكواماً من الحجر، كتلاً من إسمنت، وقضبان حديد ترتفع كأنها من الركام كأنها نباتات من كوكب آخر دون أوراق أو ثمار. على الشوارع علامات جنازير الدبابات تتقاطع ثم تستقيم، وعلى بعض الجدران كتابات بالعبرية بدهان أبيض. وعند عودتنا قابلنا باصات كانت تنقل معلمين وحرفيين وأعضاء نقابات وممثلي أحزاب، وزوار أجانب، كانوا في مجموعات يقودها ضباط يخبرونهم عن تفاصيل التحرير، في أيديهم خرائط وهم يشيرون إليها ثم إلى الهضاب المحيطة بالمدينة.
صور المدينة المدمرة ملأت الصحف، وشاشات التلفاز التي أعلنت عن الوفود التي حضرت لزيارتها. القنيطرة أصبحت أيقونة الحرب رغم أنها لن تعمّر من جديد بسبب معاهدة خطوط الفصل، الخطوط التي أدركنا، بعد أن كبرنا، أنها كانت أقل أمناً من الخطوط التي كانت قبل الحرب.
في طريق العودة لدمشق أخبرنا والدي لأول مرة عن الحرب، تكلم عن قنبلة أسقطتها طائرة إسرائيلية على موقع غرفة العمليات التي كان يديرها في المطار. انحشرت القنبلة، التي تزن نصف طن، في فتحة السلم التي تقود إلى غرفة العمليات تحت الأرض، دون أن تنفجر. قام والدي ورفاقه بدفعها ببطء للأعلى كي يستطيعون الخروج، لأنه لم يكن هناك مخرج آخر لهم، ولأن الفريق المختص بالمتفجرات كان مشغولاً في أماكن أكثر أهمية - أو هكذا قيل لهم عندما طلبوا المساعدة. رفعت كمّي وكشفت عن جرحي تحت شاش الضماد حول ساعدي، أريته لأبي فخوراً بما كسبت خلال أيام الحرب - أبي ليس هو البطل الوحيد في هذه السيارة.
بعد سنوات قضيتها في حمص بعد انتقال عائلتنا لها، عدت إلى دمشق للدراسة في كلية الطب. في مادة التشريح في السنة الأولى كان علينا أن نختار عضواً للتشريح. كانت المشرحة مظلمة، والجثة المخصصة لمجموعة الطلاب التي أنتمي إليها لامرأة نحيلة جلدها أسود مجعد أشبه بالمومياء. كانت الإشاعات بين الطلاب أن المسؤول عن غرفة التشريح كان يسرق الجثث من المدافن، وهذه الجثة لم تكن لتنفي هذه الإشاعة بأية حال.
طلبت من زملائي أن يسمحوا لي أن أشرح الساعد الأيسر. أردت أن أعرف كيف دخل ذلك المسمار في عضدي وخرج من الجهة الأخرى دون أن يصيب أياً من الأعصاب أو أوعية الدم أو أوتاد العضلات. بعد تشريح دقيق وجدت أن هذا مستحيل علمياً. تدافعت الأسئلة في رأسي… كيف حصل ذلك؟ إن يدي تعمل اليوم بكامل وظائفها وليس فيها من عطب أو عيب سوى ندبتا القُطَبْ… هل تدخلت قدرة إلهية وحَمَتْ كل ما هو ثمين وغال في هذا المكان الضيق من نسيج جسدي في هذا العضد النحيل؟ هل هي نفس القدرة الإلهية التي تدخلت لتحمي والدي وزملائه وهم يدفعون القنبلة خارج فتحة السلم، في غرفة العمليات، تحت أرض المطار؟
اسئلة قلقة بقيت دون أجوبة… انحسرت مع الوقت كما تنحسر براءة الطفولة، وخبت كما تخبو خيالات أيام المراهقة، لتفسح مجالاً لقلق من نوع آخر يعانيه من هو في منتصف العمر، وأصبح لديه واجبات أخرى كمواطن في بلد جديد، كزوج، وأب، وأخ، وابن. لكنها بقيت تلمع في لحظات خاطفة، كما يلمع البرق في السماء العاصفة، وتنطفئ بسرعة مع تدفق ماء الغيم الماطر الغزير مبللاً أوراق الشجر، غاسلاً البيوت، والطرقات، والحقول، وبعض ما في أعماق النفس من ذكريات.
#حسام_عتال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الندبة الثالثة (قصة قصيرة من سلسلة الندبات)
-
الندبات (الندبة الثانية)
-
الندبات (القصة الأولى من سلسلة خمس قصص قصيرة)
-
الشاحنة الحمراء (قصة قصيرة)-
المزيد.....
-
إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
-
شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي
...
-
هل تنجو الجامعات الأميركية من تجميد التمويل الحكومي الضخم؟
-
كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي
-
مهرجان الفيلم العربي في برلين: ماض استعماري يشغل بال صناع ال
...
-
شاركت في -باب الحارة- و-ليالي روكسي-.. وفاة الفنانة السورية
...
-
ارتفاع شعبية فرقة -آي يولاه- البشكيرية في روسيا وخارجها (فيد
...
-
معرض الكتاب العربي العاشر في صور.. ثقافة تقاوم الدمار الإسرا
...
-
سينمائيو ذي قار يردون على هدم دور السينما بإقامة مهرجان للأ
...
-
بحضور رسمي إماراتي.. افتتاح معرض -أم الأمة- في متحف -تريتياك
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|