زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 00:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف عن الانجليزية *
د. جوزيف مسعد
استاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا في نيويورك
موقع Middle East Eye
27 أبريل 2025
في آخر مرة تواصل فيها البابا فرنسيس مع فلسطينيي غزة وباركهم، كان ذلك قبل يومين فقط من وفاته في 21 أبريل. وقد أُقيمت جنازته يوم السبت في كاتدرائية القديس بطرس، بحضور مشيّعين من مختلف أنحاء العالم.
منذ أن شرعت إسرائيل في حملتها الإباديّة على غزة في أكتوبر 2023، حافظ البابا –ثم على عكس غالبية الزعماء الغربيين المتواطئين في الإبادة – على تواصل دائم ومرئي مع الفلسطينيين المُستعمَرين.
وقدّم صلواته وتشجيعه وتضامنه مع المجتمع المسيحي الصغير في غزة، ومع عموم السكّان المحاصرين.
كان صوتًا غربيًا وحيدًا يدافع عنهم، ولهذا يُنعيه أهل غزة بحزن عميق، بينما يحتفل البعض في إسرائيل بوفاته.
في أشهره الأخيرة، أصبح البابا الأرجنتيني أكثر إدانةً للحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وندّد بإبادة المدنيين في غزة، والذين قُتل منهم عشرات الآلاف، واصفًا الجرائم بوضوح: "هذه قسوة، هذه ليست حربًا."
خلال تدشين مشهد الميلاد وشجرة عيد الميلاد في ساحة القديس بطرس في ديسمبر الماضي، عرض البابا مجسّمًا ليسوع الطفل ملفوفًا بالكوفية تضامنًا مع الفلسطينيين.
وفي وقت سابق من عام 2024، كتب قائلاً: "وفقًا لبعض الخبراء، فإن ما يحدث في غزة يتّسم بسمات الإبادة الجماعية. ويجب التحقيق فيه بعناية لتحديد ما إذا كان يندرج ضمن التعريف الفني الذي وضعه الفقهاء والهيئات الدولية."
وفي الشهر الماضي، بعد أن استأنفت إسرائيل حربها الإباديّة، عبّر البابا مرة أخرى عن قلقه: "أشعر بالحزن لاستئناف القصف الإسرائيلي الكثيف على قطاع غزة، والذي تسبب في العديد من الوفيات والإصابات. أدعو إلى وقف فوري للأسلحة؛ وإلى التحلي بالشجاعة لاستئناف الحوار، حتى يتم الإفراج عن جميع الرهائن والتوصّل إلى وقف نهائي لإطلاق النار."
تحوّل في العلاقات
شهدت علاقة الفاتيكان بالشعب الفلسطيني تحوّلًا جذريًا على مدار الألف عام الماضية.
البابا فرنسيس يختلف تمامًا عن البابا أوربان الثاني، الذي أعلن في نوفمبر 1095 ضرورة "تحرير" فلسطين بإطلاق الحملة الصليبية الأولى. مخاطبًا المتحولين الأوروبيين إلى المسيحية الفلسطينية، قال البابا الصليبي:
"سيروا في طريق القبر المقدّس؛ وانتزعوا تلك الأرض من العِرق الشرير، واخضعوها لأنفسكم... هذه المدينة الملكية، الواقعة في مركز العالم، باتت الآن في قبضة أعدائه، وتخضع لمن لا يعرفون الله، لعبدة الوثنيين. وهي تتوق إلى التحرير، ولا تكفّ عن مناشدتكم القدوم لنجدتها. ومنكم أنتم على وجه الخصوص، تطلب العون."
أما البابا فرنسيس فلم يسعَ لغزو الفلسطينيين، بل لحماية المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين في غزة من الغزو والإبادة الإسرائيلية.
في ذلك الحين، كان غالبية سكان القدس الأصليين من المسيحيين الناطقين بالعربية، الذين أطلق عليهم الصليبيون اسم "السريان"، وقد سعى البابا أوربان إلى "إنقاذهم" من المسلمين، رغم أن المسيحيين الشرقيين لم يطلبوا من البابوية أي مساعدة.
مشروع التبشير والفاتيكان
في القرن 17، مشروع الفاتيكان الجديد للتبشير، المعروف باسم "تبشير الشعوب" (Propaganda Fide) شمل فلسطين.
قام القس الألماني "دومينيكوس جيرمانوس دي سيليزيا" بزيارة فلسطين لتعلّم العربية، وأعاد ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، ونُشرت هذه الترجمة من قِبل الفاتيكان عام 1671 – رغم أن الترجمات العربية للكتاب المقدس تعود إلى القرن الثامن الميلادي، حين تحوّل غالبية المسيحيين واليهود في سوريا وفلسطين ومصر من الآرامية والقبطية إلى العربية.
ورغم ذلك، بقي النشاط التبشيري محدودًا.
أُعيد تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس – والتي كانت قد أُنشئت خلال الحملات الصليبية عام 1099، ثم أُلغيت بعد طرد الصليبيين عام 1291 – في ظل الحكم العثماني عام 1847.
النهضة اللاتينية
مع إعادة إحياء البطريركية اللاتينية، تصاعدت الجهود التبشيرية الفرنسية. فإلى جانب تبشير المسيحيين العرب في سوريا وفلسطين في القرن 17، كان الهدف أيضًا دفع الكنائس الكاثوليكية الشرقية للاعتراف بسلطة البابا.
وقد نجحت هذه الأنشطة، لا سيما بين بعض التجّار الأرثوذكس الفلسطينيين.
في أعقاب حرب القرم، ازدادت المدارس والجمعيات الخيرية الكاثوليكية الفرنسية، منها: "راهبات القديس يوسف"، "راهبات القديس فينسنت دي بول"، و"بنات المحبة".
أُسّست مدرسة "كوليج دي فريير" في القدس عام 1875، ما يعكس النفوذ المتزايد للتعليم الكاثوليكي الفرنسي في فلسطين.
ورغم أن عائلتي تنتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية، فقد التحق والدي بفرع هذه المدرسة في يافا قبل النكبة، والتحقتُ أنا لاحقًا بفرعها في عمّان بعد النكبة.
موقف متقلب من إسرائيل
في العصر الحديث، خاصة بعد نجاح "الحملة الصهيونية الصليبية" في غزو فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل عام 1948، أصبح موقف البابوية متأرجحًا.
لم يزر بابا حالي فلسطين إلا في يناير 1964، حين زار البابا بولس السادس – الإيطالي الذي تولى المنصب من 1963 إلى 1978 – القدس الشرقية التي كانت تحت الحكم الأردني، وقضى بضع ساعات في الناصرة (التي خُصصت للدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم عام 1947، لكنها احتلت من قبل إسرائيل عام 1948). أما بقية زيارته فكانت في الأردن.
آنذاك، لم يكن الفاتيكان قد اعترف بإسرائيل بعد.
جاء التحوّل الدبلوماسي بعد أن وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، إذ أنشأ الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في ديسمبر 1993، وتم تبادل السفارات في يناير 1994.
في مارس 2000، زار البابا يوحنا بولس الثاني – البابا البولندي اليميني المعادي للشيوعية، والحليف لإدارة ريغان الأمريكية – إسرائيل، حيث زار متحف "ياد فاشيم" للهولوكوست، وصلّى عند "حائط المبكى" (الذي يعرفه الفلسطينيون بـ"حائط البراق").
كما زار بيت لحم، حيث استقبله الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بحرارة، وقضى يومًا واحدًا في الضفة الغربية وأقام قداسًا في ساحة المهد. وقال له عرفات: "مرحبًا بك في أرضنا."
في مايو 2009، زار البابا بنديكتوس السادس عشر – الألماني الذي انضم لـ"شبيبة هتلر" وخدم لاحقًا في الجيش الألماني – الأردن وإسرائيل والضفة الغربية.
أثناء زيارته لإسرائيل، حيث تحدّث عن جرائم بلاده، دعا الإسرائيليين والفلسطينيين إلى "العيش بسلام في وطن خاص بكل منهما ضمن حدود آمنة ومعترف بها دوليًا".
وخلال حفل بين الأديان في القدس الشرقية، تدخّل القاضي الفلسطيني الشيخ تيسير التميمي وانتقد إسرائيل بالعربية، ما أثار تصفيق الحضور. لم يُعلّق البابا، لكن الفاتيكان أصدر بيانًا يُدين التدخل، واصفًا إياه بأنه "يناقض جوهر الحوار".
رمزية الجدار
في مايو 2014، قام البابا فرنسيس بزيارة مفاجئة إلى جدار الفصل العنصري بين بيت لحم والقدس.
بحسب سائقه، كانوا يمرّون بجانب جدار مغطى بالغرافيتي يُقارن بين بيت لحم وغيتو وارسو، حين طلب البابا التوقف.
الصورة التي تُظهره يُصلي عند الجدار "أثارت حماسة الفلسطينيين وأغضبت الإسرائيليين".
وفي آخر خطاب عام له في أحد القيامة، عاد البابا ليتحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، قائلاً: "أفكر في سكان غزة، وخصوصًا المجتمع المسيحي فيها، حيث لا يزال الصراع المروّع يتسبب بالموت والدمار، ويخلق وضعًا إنسانيًا مأسويًا ومؤسفًا."
الغضب الإسرائيلي
أثار اهتمام البابا المستمر بالفلسطينيين شماتة رسمية في إسرائيل، التي استنكرت معارضته لإبادتها الجماعية.
حذفت وزارة الخارجية الإسرائيلية منشورات التعزية بالبابا الراحل من حسابها الرسمي على منصة X (تويتر)، ووجّهت بعثاتها الدبلوماسية حول العالم لفعل الشيء نفسه. كما أصدرت أمرًا داخليًا يقضي بعدم توقيع السفراء على سجلات التعزية في سفارات الفاتيكان.
لم يُرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي رسائل تعزية، في حين قام بذلك الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ، الذي يشغل منصبًا شرفيًا فقط.
دعم معنوي بلا تأثير دبلوماسي
رغم كل ما قدّمه البابا فرنسيس من دعم معنوي وشخصي لشعب غزة في وجه آلة القتل الإسرائيلية، إلا أنه لم يتّخذ أي خطوة دبلوماسية ضد إسرائيل.
لم يُطرد السفير الإسرائيلي من الفاتيكان، ولم يُسحب السفير البابوي من تل أبيب. لم يُنظر حتى في تعليق العلاقات الدبلوماسية، على عكس دول مثل كولومبيا، بوليفيا، هندوراس، بليز، تشيلي، تشاد، تركيا، البرازيل وجنوب إفريقيا التي سحبت سفراءها أو قطعت علاقاتها كليًا.
ورغم تعاطفه الإنساني، بقي البابا فرنسيس مقيّدًا بالبنى السياسية الغربية التي تدعم الاستعمار منذ قرون.
وقد ينعاه ناجو غزة اليوم، لكن المؤسسات التي مكّنت من إبادتهم لا تزال قائمة.
---
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟