أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدولة الحديثة














المزيد.....

البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدولة الحديثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8327 - 2025 / 4 / 29 - 17:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
برز مفهوم البيولوجيا السياسية (Biopolitics) في قلب الفكر الفلسفي والسياسي الحديث بوصفه أداة تحليلية لفهم كيفية تداخل السلطة مع الحياة، لا فقط عبر القوانين والمؤسسات، بل من خلال مراقبة الجسد، وتنظيم الصحة، وضبط السكان. وقد اقترن هذا المفهوم في الأساس بأعمال ميشيل فوكو، الذي قدّم تحليلاً راديكاليًا للكيفية التي تتحول بها السلطة من شكلها التقليدي السيادي إلى سلطة تُمارس عبر الحياة ذاتها، على ما يسميه بـ"الحياة العارية" (bare life).

في البيولوجيا السياسية، لا يُنظر إلى الإنسان ككائن قانوني أو سياسي فحسب، بل ككائن بيولوجي يمكن تنظيمه، ضبطه، مراقبته، وتحسينه. لقد انتقلت السلطة في المجتمعات الحديثة من كونها سلطة تُقرر الموت أو الحياة عبر الإعدام أو العفو، إلى سلطة "تجعل المرء يعيش وتتركه يموت"، كما يقول فوكو. وهي سلطة تُمارس من خلال المؤسسات الطبية، الإحصائية، التربوية، والأمنية، وتُعيد إنتاج أشكال الهيمنة عبر تنظيم أجساد الأفراد ومراقبة صحتهم، سلوكهم الجنسي، خصوبتهم، أعمارهم، وتوزيعهم السكاني.

من السيادة إلى البيو-سلطة: تحول جوهري في ممارسة القوة

شكلت البيولوجيا السياسية نقطة تحول في فهمنا لطبيعة القوة. ففي حين كانت السلطة السيادية القديمة تقوم على الحق في القتل، فإن السلطة البيولوجية لا تهدف إلى القتل المباشر بقدر ما تهدف إلى إدارة الحياة، واستدامتها، والتحكم في مجرياتها. يظهر ذلك في سياسات الصحة العامة، ونظم الرعاية الطبية، وبرامج التطعيم، وسياسات الولادة، وضبط الأمراض، بل وحتى في برامج الرياضة والتغذية.

ومع هذا التحول، لم تعد السلطة تُمارَس على الأفراد بوصفهم رعايا، بل كـ"أجساد قابلة للحساب"، ككيانات يمكن تحليلها إحصائيًا، وتصنيفها، وتوجيهها. وبذلك تصبح السياسات البيولوجية وسيلة لإنتاج ما يسميه فوكو بـ"السكان"، بوصفهم هدفًا للتحكم والمعرفة في آن. وتُمارَس هذه السلطة على مستويين: على مستوى الأفراد، من خلال ما يُعرف بـ"تقنيات الذات" أو "الانضباط"، وعلى مستوى الجماعات، من خلال "آليات التنظيم السكاني".

الجسد السياسي: بين السيطرة والتمكين

في قلب البيولوجيا السياسية يكمن الجسد، لا كمجرد كيان فيزيائي، بل كمنطقة للتدخل السياسي، ووسيط بين الفرد والدولة. فالجسد، الذي كان في السابق يُعتبر منطقة خاصة أو بيولوجية محضة، أصبح الآن ساحة سياسية بامتياز. ومن خلال ضبط الجسد، تتمكن الدولة من تطويع المواطن، وتوجيهه نحو أنماط سلوكية متوقعة ومرغوبة.

إن السياسات الصحية والجنسانية، على سبيل المثال، لا تُعبر فقط عن رغبة في "العناية" بالمواطن، بل تخفي في جوهرها آليات مراقبة وسيطرة. وقد انتقد العديد من المفكرين هذا التوسع في منطق البيولوجيا السياسية باعتباره يؤدي إلى "طبْيَنة" (medicalization) الحياة، أي إخضاع كل سلوك فردي لمعايير طبية وأخلاقية تفرضها السلطة.

الاستخدامات المعاصرة: من الرقمنة إلى الجائحة

في السياقات المعاصرة، خاصة في ظل الثورة الرقمية، تتخذ البيولوجيا السياسية أشكالًا أكثر تعقيدًا وتغلغلًا. فمع انتشار الأجهزة الذكية، وسجلات الصحة الرقمية، وتحليل البيانات الحيوية، باتت السلطة قادرة على تتبع المواطن بيولوجيًا في الزمن الحقيقي. ولم تعد البيانات البيولوجية تخص الطب فقط، بل أصبحت سلعة سياسية واقتصادية، تُستخدم في تحديد السياسات، أو حتى في التمييز بين الأفراد.

وقد شكلت جائحة كوفيد-19 لحظة كاشفة لعمق البيولوجيا السياسية في العالم المعاصر، حيث برزت آليات السيطرة على الأجساد، وحظر التنقل، وتطبيق إجراءات التباعد، بوصفها أدوات لضبط الحياة والحفاظ عليها، ولكن في الوقت نفسه أدوات لـ"إدارة الخوف" ومأسسة الخطر.

نقد البيولوجيا السياسية: نحو بدائل تحررية

لم يخلُ مفهوم البيولوجيا السياسية من النقد. فبعض المفكرين، وعلى رأسهم جورجيو أجامبن، ذهبوا إلى أن الدولة الحديثة تُقيم سلطتها على استثناء دائم، حيث يصبح "الحياة العارية" هي الموضوع النهائي للسلطة: جسد مجرد من الحقوق، موضوع للقتل أو الإهمال باسم الحفاظ على النظام. ويدعو أجامبن إلى تجاوز هذه الثنائيات بين الحياة والسلطة، والبحث عن فضاءات مقاومة جديدة.

كما يرى مفكرون آخرون أن البيولوجيا السياسية قد تُوظف في مشاريع تحررية، مثل السياسات البيئية، أو العدالة الصحية، أو السياسات النسوية التي تكشف التحيزات الذكورية في فهم الجسد والسلطة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام
- مستقبل القواعد العسكرية الأجنبية في الوطن العربي في ظل التحو ...
- الحرية بين العقل والإيمان: قراءة مقارنة في الفلسفة الإسلامية ...
- المقاومة التنظيمية وإعادة تشكيل الثقافة المؤسسية: تحديات وسب ...
- على حافة العدم: النقد الفلسفي للإلحاد الوجودي ومعضلة المعنى
- الأمن الأوروبي في مفترق طرق: تحديات التحول الاستراتيجي في ظل ...
- الأمن المائي في العالم العربي: بين التحديات الجيوسياسية والف ...
- الوعي تحت المقص: مقارنة نقدية لتحولات الإعلام والدراما المصر ...
- نظرية الحق بين الفلسفة والقانون: نحو أفق رقمي جديد لحقوق الإ ...


المزيد.....




- قتلى ومصابون في إطلاق نار مشتبه به في السويد
- إسرائيل: حكومة نتانياهو تتراجع عن قرار إقالة رئيس الشاباك رو ...
- الشيباني: نعمل على توثيق الجرائم وبحث تحقيق العدالة ومنع تكر ...
- -نهب الغنائم-.. صحفي بريطاني يكشف سبب تمسك لندن بالنزاع الأو ...
- إعتداء جنسي على طفل بمدرسة يثير غضبا واسعا.. ونصائح خبير لحم ...
- دهسٌ بلا إنذار: كيف تحولت السيارة إلى سلاح إرهابي في شوارع أ ...
- إطلاق صواريخ من غواصة نووية روسية خلال مناورات في المحيط اله ...
- تعزية إلى أفراد عائلة المرحوم سيدي بوشعيب الشوفاني نقيب الشر ...
- نجل ترامب : منطقة الخليج -تعتمد على أمريكا القوية-
- زلزال يضرب سواحل نيوزيلندا


المزيد.....

- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدولة الحديثة