أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - العربي الرودالي - النص الإبداعي وأجناسية الاحتقان في نص (سهرة مع الثعابين) لمبدعه نقوس المهدي















المزيد.....


العربي الرودالي - النص الإبداعي وأجناسية الاحتقان في نص (سهرة مع الثعابين) لمبدعه نقوس المهدي


نقوس المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8327 - 2025 / 4 / 29 - 13:17
المحور: الادب والفن
    


ورقة التقديم للصدمة الإبداعية:
يستدرك الكاتب والمبدع نقوس المهدي، قائلا: "ليس من الانتقام مما هو أعظم إلا الفضح، لأصحاب الوقت". وهكذا سيأتي إذا هذا النص/الحاكي أو القص/الراوي... يأتي انتقاديا ضمن أدب السجون، وفق ما أكيل لعبد الرحمان منيف من تعذيب في سجنه.. فهذا النص، لدى القاص والاديب والناقد نقوس المهدي، هو نص "تقدمي يساري" بالمعنى الأيديولوجي والسياسي، ساخطا ومُحرِّضا لا يهادن... وكذا متوائما مع أدب الفضح، الذي سار عليه والتزم به، الروائي عبد الرحمان منيف، من خلال روايته "شرق المتوسط"، دون انقطاع.. وقد أتى المشهد الإبداعي نسخة معرفية من معاناة النضال، الذي وَجَدَ فيه المبدع/القاص، ما يدعم به مسعاه الانتقامي...°/°

+الاستكشاف: امتلاك المحتوى

يقول الكاتب:" وصلت إلى البيت متأخرا، وقد رحل النهار، وغسق الليل، وأَطلَقتْ المصابيح ألسنة نورها تنفخ في العتمة فتميد، وحين أدرت المفتاح في ثقب الباب، انفتح بسهولة وجدتهم بانتظاري...

ملخص قبلي:

تقديم مؤطر بقلمي عبد الرحمن منيف والمبدع نقوس

-الحقيقة أن هذا التقديم وقد وجد القاص نقوس المهدي مما وجد فيه، هو ما يجعل النقمة، فيما يمتلكه من ضربات هي تأنيب لأصحاب الوقت، يضاعفْه تعنيف لهم، مما سُوِّدَ هذا الإبداع الأدبي في نص طافح بما يقفز على كل جمالية إمتاع ومؤانسة... فهو نص غير مرهون، إلّا بتوسيع مجال الاعتراف بحرية التعبير وتَفَهُّمِهِا، ليصير مُشْرقا ينير ولا يَظْلُمُ.. فليس إلا الفضح والانتقام...
- فهل ما يفضحه عبد الرحمان منيف كمناضل ضد جلاده، هو أنه يمكن أن تُرمَّم إرادة إنسان، لم يعدْ أنا ذاك الإنسان. لا لست انساناً، السجن في أيامه الأولى حاول أن يقتل جسدي. لم أكن أتصور أني أحتمل كل ما فعلوه، لكن احْتَمَلْتُ. كانت إرادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات، وتردها نظرات غاضبة وصمتاً. وظللت كذلك. لم أرهب، لم أتراجع: الماء البارد، ليكن. التعليق لمدة سبعة أيام، ليكن. التهديد بالقتل والرصاص تَنَاثَرَ حولي، ليكن. كانت ارادتي هي التي تقاوِم. الآن ماذا بقي فيَّ أو مني؟
°(من منشورات رابطة أقلام احُمْرٍّ، سفي غراف 2014 )

+الاستحلاب: استجلاب مضموني

1- تميز الإبداع الناقوسي:
يتميز الإبداع في هذا النص للقاص ناقوس المهدي، باعتناقه للمنهج الواقعي الفاضح، والخط المعرفي الواسع والداعم ... إذ هناك: وجه إبداع منافح عن الحق- وهناك وجه الالتزام ثابت غير محايد - وهناك وجه نضال غير مضحٍّ بمبادئ- وهناك وجه انتقام مفحِم لكلِّ ظُلْم... وكلّ ذلك في مواجهة سلطة نظام سياسي، لا هو ب"دمقراطي ولا هو بعادل"...
2- نوعية المحبوك:
إنّها نوعية شخوص متحدية لكل معتاد من الالتواءات: فالإحراج، وهو هنا من تأثيث المَرْأَة الثُّعبانة في النص الإبداعي، لدورها في تأثيث كل ارتباك وضعف للكاتب... ثمّ الاستفزاز، وهو بَعْثَرةٌ وخلط لعناصر الحوار من الثعابين المرافقين، وبالتالي الكشف عن خيط الإقحام .. وأيضا الترهيب عبر النّظَّارات السُّود وما خفي وراءها من مُنْتَظَرَات... فالإحراج وفيه إثارة لحفيظته منها، بغنجها وإباحية النظر إليها وإلى عضوها التناسلي... كما تشاء هي.. وفي ذلك تؤدي دور ثعبانة تتمسح برأسها معه، ليلين هو وتنقضُّ هي.. فالجنس مفتاح تقارب الأفاعي معه، بالاستفزاز وهو يُجيدونه كلٌّ بطريقته... إنّهم يلْحَظون كيف تتغير سحنة المُتَحَرَّى عنه، في تقلبات أحواله، رغبة منهم في الانقضاض وما أدراك من انقضاض.. بأسئلتهم الرهيبة لتوريطه... (إذ لا بُدّ لفريق الثعابين هؤلاء من محاصرته وترهيبه... ثم اتّهامه باتّهام اساخر... وهكذا يتركوه لشدة وعيدهم بالتنكيل والتعذيب.. حيث يشرعون في تثبيت المشنقة بسقف الفناء.
3- أسلبة على إيقاع رقص الثعابين:
- هذا الاشتغال تساوت فيه قيم تسعى إلى ضبطٍ إبداعي، ومضادات لها، وفق المواقع في آن واحد.. فقد أنتجت تدخلات الثعابين تحريفات أسلوبية واحترافية°، ضمن تحريات استخباراتية لأجل الإيقاع بالكاتب، مقابل نقمة فضح وغرابة إبداع، تزيل أقنعة تخفي ما يخيف، من مكشوفات عدائية... وهكذا يكون للنص مزيج لغة متضاربة في سياق ينافي سيرورته. فلنستكشف ما يلي:
1-3) الاشتغال النصي:
يشتغل الكاتب ناقوس المهدي على أساليب حكي للاستئناس- وواقعية خطاب للفضح- وترميز لفظ للهجوم، وتثوير غضب للغضب... من هنا فالتقابل لكل ذلك، هو خشونة ملامح وقساوة تعنيف، بين الثعابين والكاتب... إنه تغوُّل لشطحات ثعبنة تُرعب وتُرهب، خلف نَظَّارَات سوداء، ومدغ علك لا تتوقف الأشداق عن لوكه.. فهي نسوية مستخِفّة، تُدَوِّي طقطقاتها الساخرة، وتخفي وراءها ما تخفيه.. وذلك لتُبِينُ عن حالة سيكولوجية لغضب نسوي حانق، على ذكورة تفخر ببطولتها، وكأنها تذكر الكاتب/ المناضل، بإهانته لصديقته المساعدة له، والتي اعترف بخدماتها له في النص الإبداعي له.. يقول الكاتب: حين كَتَـمْتُ، خطأ وتهورا وسوءا في التقدير، أنفاس صديقتي الحسناء بواسطة جدائل شعرها الفاحم الناعم الطويل المسبسب، بعدما ساورتني شكوك حول تصرفاتها... إنها امرأة، أي هذه الثُّعبانة ماضغة العلك، أَبْلَتْها حيرةُ عنوسة، وقبح جاسوسة... وهكذا تحضر قصرا من الكاتب الثائر لغة جنونية غاضبة، لا تَسُمح له بالتنفّس كمبدع نضالي، وسط معركة قوية صارمة منهم، وقواعد حكي له، لِمُلامسة قَناعَةَ المتلقي... وذلك فيما بين كتابة بلاغية للفضح، وقناعة حاضنة للالتزام الكتوم، يهاجمونها بالتواءاتهم وإداناتهم.. فصار يُفصح جنونيا، عن نظر انتقامي، يحاصره وعيد رادع من الثعابين المتحايلين، "أصاحب الوقت".. مُسْكِتِي الصوت في صمته، وقمعُ ردوده في حوارهم.. فتَرَكَ الكاتب لَنفسه عفْوِيَة إبداع معَنَّفُ منه/وإليه..
2-3) النوعية النصية:
إنها نوعية نص سردي تتضارب فيه حوارات مؤسلبة بجنس أدبي فانتاستيكي.. لا كالأجناسيات المعتادة على روتينية لها مَلَلُهَا... فليس هو، أي النص، بحكي ولا بقص ولا بروي... إنما هو جميعُها حيث عُنْفُ اللغة لدى الثعابين، والتواءاتها الأسلوبية المتحرية، وكأن لها هي أيضا إبداعها ويلغي ظاهِريَة النص.. إذ تعلم أنه كاتب يجيد صوغ كلامه... ويبقى على إبداع الكاتب تغليب أسلوبية إشكالية، تأتي أصلا بآليات كتابة لا تفارق كتابة الكاتب°، يترتب فيها الإبداع أحاديا في انتظامه.. وهذا أمر منطقي، فما يحصل هو أنّ الكاتب صريح، يريد أن يقول كلِمتَه النضالية بتحمّس شديد.. فقد كان له هذا الحضور، قبل أن يكون نصُّه واقعا لا يهادن ... إنّ السهرة لا تسمح إلا بأرق أضاع نومه، فتُـسْلَبُ وتضيع كلُّ الأحلام.. والثعابين هم ظاهرة سوريالية لأصحاب الوقت، تكشف عن أَقْنِعَة مُسْتَغْرِقْة في سطوتها تحكّمها في خفاء ظاهر وظهور خفي... فالثعابين تَفَشَّتْ سطوتُهم هذه بالتِواءات راقصة، وضغوط تُعْيِي النفس والكاهل، حتى يطفحَ التثاؤب.. إنه الأسلوب المرتبط قبلا بالقاص تَحَدِّيا، وفي آنٍ واحد بالثعابين ومضايقاتهم له، وللقارئ اللامتعوِّد على ذائقةٍ مُعَنَّفَة... فلا يمكن أن يكون الإبداع لأحد غيرهما في اتجاه هذا القارئ، على أن يكون الحذر . فالكتابة نقمة تحاكي باطنا غيوراً متشدداً ومحتقناً، فتلعب التشابكات المعرفية هذه والممارسات كلها، لأداء دور محاكاة مصاغة، في شبه تثوير جذري لا حدّ له، من الكاتب°، وصورة قامعة هاوىة للدغ لامتلاك النياشين ... إنّها شكوى لدى الكاتب والقارئ المظلومين والمصدومين، بما فوق التظلم المجاوز لنفسيتهما المائلة دوما إلى تفجير المظالم.. فالتّعابين تسلك خِطابا صامتا بميمية أعينِ، وسٌحْنَة ملامح، وبترميز معياري متبادل، يستشف كل المستور عن الثعبنة، بتجاوز دواخل الكاتب وبإثارة شكوكه وتظلماته، مما هو مقصود من إحاطته بأسئلتهم المتناوبة... فهي تجربة تخصُّ الوضع بين لغة كلام قائمة، ولغة قمع ظالمة.. وما يُسْتهدَفُ من الثعابين للكاتب، سوى إذلال نضال هو نهج مرغوب من الكاتب وحب استطلاع من القارئ.. فقد قام الكاتب باستنكار منه، بينه وبين قارئه لا غير، يخص به الثعابين القساة، على نضالِ كاتب يُرْهَب وقارئ يُرْعَبٍ، دون حدّ، في مَحْكيَةٍ سوريالية، تتَشَخْصَن على نمطية حَجْيْ يُرْعِبُ أطفالَه كبارا، ويُحَوِّل الكتابة إلى إرسال مُؤَسْطَرٍ، يستحيل تمثله من طرفهم، إلا تكوينا وتمرسا. إنه نهج لِمِلَفٍ من الملفات، ذات الصنف/الإنتاجي المحرّض ضدا على تجربة تتطاير شراراتها تنصيرا لمواطنة غيورة، تغمرها حالة تهيّج لاشعوري، تأكيدا على ضرورة سحبها من الممارسة اللإنسانية وتخليصا من معاداة القارئ وقهره بديمقراطية مغلوطة ومحرفة، وبإجحاف طبقي سياسي، وتطبيع لاحقوقي مُمِلٍّ تكرارا. فذلك كله هو فضح ، من أجل الإنهاض بظاهرة ديمقراطية مرغوبة، وكذا لأجل المساواة والعدالة الاجتماعية، والدفع بمحاولة تطويرها إيجابيا، في البلاد ومع العباد... فهو نضال من صنف له جذوره، مبعثها "زمن الرصاص" براديكالية كانت لا تهادن زمن الكاتب، إلى أن تمت تهدئتها.. ولازالت غائرة في تذبذبها، بإيضاحٍ لها مرغوب .

الاستتباب
إنهما أيقونتان، لهما أساسا لعبتهما التجاذبية، من منطق نقدي تمّ الوقوف عنده.. وهما:

الاحتقان:
تكمن أهمية هذا الجنس الاحتقاني، في كونه معبر عن بؤرة من الصراعات بين تخمينات ونّفْسِيَات وتشكيكات متبادلة، تعيق الثقة... أما التِواءَات الثعابين، فهي تحايلات كائدة، تفرج من حين إلى آخر عن هذا الاحتقان، بأساليب التذويب والإغْراء... لكن اللدغ في آخر الأمر، هو ليس إلاّ وعيد من هذه الثعابين، بترهيب سحناتها الجامدة والحاقدة... من هنا جاءت عتبة النص مرعبة للكاتب والقارئ في آن واحد.

الإفراغ

أما الإفراغ، فهو فضح وانتقام، من الخبث الديموقراطي وقمع حرية التعبير، والتي جاءت كلها بالنص، من الكاتب في اتجاه قارئه... لان هذا القارئ هو بؤرة كل هذا الزخم.



العربي الرودالي
باحث في سوسيولوجيا الأدب
16/04/2025



==============


* النص


- سهرة مع الثعابين...
نقوس المهدي


“كانت إرادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات وتردها نظرات غاضبة وصمتًا. وظللت كذلك. لم أرهب، لم أتراجع”
شرق المتوسط – عبد الرحمن منيف


وصلت إلى البيت متأخرا، وقد رحل النهار، وغسق الليل، وأطلقت المصابيح ألسنة نورها، تنفخ في العتمة فتميد، حين أدرت المفتاح في ثقب الباب، انفتح بسهولة، وجدتهم بانتظاري، وكأنما كنت انتظر مجيئهم، جاؤوا، ما من أحد شاهدهم، أو شعر بهم وهم يتسللون إلى البيت، بيتي، كنت قد قرأت في كتاب “منتخب الكلام في تفسير الأحلام” المنسوب خطأ لابن سيرين، و”تعطير الأنام في تفسير الأحلام” لعبد الغني النابلسي، وكتاب “الإشارات في علم العبارات” لابن شاهين أشياء عن تأويلات لرؤيا ثقب الباب، وقد بلغ إلى علمي أنه ورد عن النبي قوله: ( إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا عالما أو ناصحا)، لكن الحاصل أن الأمر ليس رؤيا ولا أضغاث أحلام، بل واقعا مريرا تعجز الأحلام عن تصويره واحتوائه، حتى الطيور التي كانت تأتي للمبيت على حافة الكوة الصغيرة وتؤنس وحشتي بزقزقتها الوديعة العذبة الأليفة أخلفت وعدها الليلة، أصغي لرفيف أجنحتها الخفيفة والرشيقة وهي تجفل مذعورة، والبقال الشديد الفضول، والذي لا تفوته حركة مارق ولا رجفة جفن، ويعلمني بين الفينة والأخرى عن أوصاف محددة لأصدقاء يسألون عني في الغياب، لم يشاهدهم وهم يفتحون الباب ويدخلون، لم يحددوا موعدا قبليا، لكنهم حضروا بكل عدتهم وعتادهم، حينما نشرت مقالات حول المادية الجدلية والعلمانية والفكر العقلاني ورسالته في تحرير الوعي البشري، نقد الفكر الديني والتطرف وانعكاساته على السلم العالمي، البروليتاريا ودورها في تحرير السوق، الاستعمار الجديد وإمعانه في استغلال البلدان وتجويع الشعوب، هيمنة الامبريالية المتوحشة ويدها في استعباد الأمم، اليسار المتكلس، الكومبرادور والإقطاع والصراع الطبقي، إضرابات العمال، البورجوازية الجنينية، مرض الشيوعية الطفولي، العبودية الطوعية وأشياء أخرى في امتداح الأنظمة الفاشية، وقد كان عليهم الحضور قبل هذا حين كتمت، خطأ وتهورا وسوءا في التقدير، أنفاس صديقتي الحسناء بواسطة جدائل شعرها الفاحم الناعم الطويل المسبسب، بعدما ساورتني شكوك حول تصرفاتها الغريبة والمريبة، وحملها تقاريري إلى البوليس السري بدل إيصالها إلى رفاقي في التنظيم السري، بالوقت الذي كانت تغافلني فيه وتحرق خطاباتي خوفا علي من الاعتقال، وتترجمها إلى رسائل غرام تتفنن في تدبيجها تحت أسماء مستعارة لعشيقات من وحي الخيال، الغزالة الهيفاء الرقراقة التي دفعت حياتها بفعل كذبة سوداء، تسقيني السلافة، تشعشعها بسلسبيل غنجها وحلاوة بسمتها ورقة حنانها الوارف، صديقتي الوديعة التي عجزت جدران غُرفتي الصغيرة عن تحمل أسرارنا الكتيمة المغرية، فهجمت عليها ذات عصرية، طوقتها بذراعي، وأنخت عليها بكلكلي، وأجهزت عليها بالقبلات الحارة أزرعها وأطبع أختامها على خديها وشفتيها ونحرها، وزنديها، وكتفيها وصدرها الخصب، فيما راحت تصرخ وتستغيث وتحاول الإفلات من قبضتي دون طائل.

خمسة كانوا، امرأة مسترجلة، لم يطرق أحد قط باب عزلتها المزمنة، ولا ناوش عنوستها المبكرة ابن أنثى، تعيد ترتيب حساباتها الخاسرة، مستعينة بالمساحيق الكثيفة لترسيم تضاريس فتنتها، وإضفاء إيحاء شهوي على هيئتها، جبهتها ناتئة، رقبتها مديدة، خداها غائران، صدرها ممسوح، بطنها ضامر، حقواها ناتئان، وفوق شاربها زغب خفيف، تتذوق لب عباد الشمس وتبصق قشوره على الأرضية العارية، وأربعة رجال متجهمي السحنات على عيونهم نظارات سوداء سميكة تختفي خلفها عيون شيطانية حاقدة حادة براقة ماكرة وتقطيبة أبدية..

كائنات بشرية ممن يسميهم والدي تهكما بأولاد الحرام، لانعدام الرحمة والشفقة في قلوبهم، وتنعتهم أمي بأصحاب الوقت، إمعانا منها في ترهيبنا، جالسين على ما اتفق.. الكرسي والمائدة والأريكة وجردل الماء وعلى الأرض، وتحت أرجلهم كل ما امتدت إليه أيديهم وأعينهم.. الجرائد، قطن الأفرشة، الملابس وأواني المطبخ، الآلات الموسيقية التي اقتني ولا أجيد العزف عليها، الأصص التي صبغتها ونقعت عطشها واعتنيت بها وبنباتاتها البرية.. صبار، شيح، عوسج، قراص، عبيتران، قندريس، حبق، هندباء… مزروعات من كل صنف لها هي أيضا أشكال وأسماء وصفات وألوان وشذا وعشاق، كتب النظريات الثورية العظيمة التي استبدلت أغلفتها الحقيقية بأغلفة كتب صفراء وصور المغنين المخنثين للتمويه، وأخرى لابن الراوندي والجعد بن درهم وابن رشد، صور لكارل ماركس، ورفيق دربه فريدريك انجلز، روزا ليكسمبورغ، فلاديمير إلييتش أوليانوف لينين، بيير جوزيف برودون، ميخائيل باكونين، بيتر كروبوتكين، ليون تروتسكي، ألكسندرا كولونتاي، إرنست ماندل، التشي، هوشي منه، الجنرال جياب، عبد الكريم الخطابي، المهدي بنبركة، عمر بن جلون، جمال عبد الناصر، المهاتما غاندي، باتريس لومومبا، نلسون مانديللا، الرفيق يوسف سلمان يوسف، وليم رايش، انطونيو غرامشي، جورج لوكاش، بابلو نيرودا، ناظم حكمت، بنيامين مولويزي، علي فودة، فرانز فانون، حسين مروة، مهدي عامل، فرج فودة، عبد العزيز بلال، المهدي المنجرة، عبد الفتاح إسماعيل، عبد الخالق محجوب، وصورة أمي أيضا وكأنما يتمادون في إذلالها وامتهانها لأنها توجعت وأنجبت هذا البغل العاق والمسخوط الذي يؤمن بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية العلمية، ويسب الحكومة لسبب أو دونه، ويحرض المواطنين على العصيان المدني، ويكتب وهو في قمة وعيه وصفائه الروحي مقالات في تمجيد فكر رجل ملتح سلخ ثلثي حياته في انجاز كتاب تافه من ثلاثة أجزاء حول رأس المال يحمل غلافه صورة مطرقة ومنجل، ويأبى أكل القوت الرديء وانتظار الموت البطيء.

على غلالة الضياء الهشة المنفلتة من مصباح الشارع الوحيد، أداروا بعض الأشرطة الغنائية في المسجلة، صدحت أغنية ” يا نخلة واد الباي”، سايرت المرأة الخلاسية الإيقاع على صينية الشاي وتصفيق الحاضرين، فيما تفرقع بحركات داعرة فقاعات من علكة في فمها، لم يفهموا شيئا من حمولة الأغنية السياسية، وحدها المرأة فهمتني حين ضبطتني استرق النظر من باب الفضول المعرفي إلى فخذيها، غمزتني، شهقت، ورفعت تنورتها قليلا، وشرعت والشبق في عينيها، تتلذذ بتعذيبي وإثارتي وهي تفرجهما خلسة لتفرجني على مكامن سرها الخبيء خلف سدرة عانتها الكثيفة

خيرتهم بين إعداد كاس من الشاي، أو تقديم زجاجة من الروج الرديء كنت احتفظ بها لأيام البرد، لم يردوا إمعانا في ممارسة حربهم النفسية على نفسي، فيما توجه إلي أحدهم خمنت أنه الرئيس وآمر السرية بترسانة من الأسئلة الروتينية عن سني ومهنتي ومكان ازديادي، وأين أخبئ الكتب التي أقرأ وأسمم بها أفكار النشء، انتمائي السياسي، سفرياتي، موقفي من الأديان، أسماء رفاقي في التنظيم السري، والخلايا غير النائمة عن ناهبي المال العام والفساد الإداري، والموظفين المرتشين، والوزراء اللصوص، وحذلقة نواب الشعب، وفقهاء الظلام والنصب باسم الدين والإيمان والتقوى، وتخرصاتي حول توجه البلاد نحو الخراب السحيق الأكيد، خمنت أن في الأمر أمرا مبيتا يستهدف جر لساني، وتأجيج ضوضاء اللغو على شفتي لأتحدث بإسهال عن الانتهازية الكلبية للنخب السياسية، عن كتب أهربها تحت الآباط كما يهرب الأباطرة الحشيش الأخضر والغبار الأبيض والمواد المنتهية صلاحيتها، عن الشعراء يهزمون الجيوش ويجملون النكبات ويحررون البلاد بالسجع الركيك، عن شخصياتي الروائية التي اخترت لها عنوة حياة العذاب والبؤس والشقاء والتقشف وشظف العيش والفاقة والأمراض والإحباط والحقد وكراهية الأغنياء..
لم أنبس بشيء..
ولم يصلوا لشيء..
ما يضير الشاة أمام جبروت وقسوة جزارها..
حرك الثعبان الكبير رأسه أفقيا مستاء متبرما، معبرا عن عدم رضاه، متوعدا دين أمي باجتثاث الجنة من تحت قدميها، ربما لأنهم يعرفون عني أكثر مني، لكثرة عيونهم المبثوثة في كل زاوية وفي كل ناصية وفي كل مكان وفي كل درب، افتعل ضحكة صفراء، لم يستطع الإفراج عنها فتجشأ، أخرج من إحدى الزكائب رزمة من الأوراق الصفراء، وبدأ يقرأ منها نتفا عن تحركاتي بتفاصيلها وتواريخها وأوقاتها المضبوطة، أحداثا عادية مألوفة تافهة كنت أصلا قد نسيتها بدءا بأسماء المقاهي الشعبية المختلفة والحانات الرخيصة التي أرتادها، أكلاتي المفضلة، مذاق الشراب الحريف الذي أعشقه، أسماء أصدقائي، رسائلي، عادتي في قلب قميصي السفلي، الأغاني المحببة لدي، الكتب التي قرأت، أحلامي المقصوصة الأجنحة، بيوت الدعارة التي كنت أتردد عليها، خليلاتي اللاتي يأتين لزيارتي بين الفينة والأخرى لعرض خدماتهن، ثم أدار شريطا تسجيليا لوشاية كاذبة من أحد الرفاق المقربين الذين كنت أثق فيهم إلى حد بعيد، استغربت لحديثه، وغمستني الدهشة والصدمة والإحساس بالذنب في حمام من العرق البارد، وأحسست بمغص وعطش شديد ويباس في الحلق، وبالخوف والفزع يقرص قلبي من أذنيه، استيقظ في خاطري حنين قديم لسنين الطفولة القصية حينما كنت أتكتك – مستظلا بأجنحة آمالي العريضة، ومخفورا بوعول حدوسي – قصائد تطاول ذهب حقول الحنطة، وأرسم عصافير ونجوما وفراشات وأطاردها في برية الخيال، وكانت لي بين الأنام صبية حسناء زاعقة الزينة أتعلق بأهداب فتنتها وتفاصيل أنوثتها البضة، أغرقها في لازورد المجاز وأضفي عليها ما تيسر من شوقي وتوقي المعمد بحبر الكناية وكيمياء المجاز، وأسبغ عليها ما أتصيده من فيض اللغة الكريمة وسخاء البلاغة وصفاء الحقيقة.

على حدود فجر ثقيل يشبك مرفقه بذراع العتمة، وأنا أنتظر هباء صياح الديكة المنبعث من أكواخ الفلاحين البعيدة، وصبحا لن يتنفس على خير، انتهوا من سلقي بحدة ألسنتهم، وشرعوا في تثبيت المشنقة بسقف الفناء، ومن غبش الفراغ المشرع والسحيق تدلت العين الحولاء للأنشوطة التي ستلفظني بعد حين إلى السعير، خفيفة متأرجحة مرحة جذلى كأنها تتوعدني باعتصار ما لم يفلح فيه المحققون من اعترافات، وبالطيبة والرأفة والحنكة والمهارة الوظيفية ذاتها غرزوا إسفينا بين الترقوّة والثّندُوة ثم سحبوني إلى الأعلى، بقيت معلقا ككبش، ثم شرعوا في سلخ جلدي، وإطفاء سجائرهم في لحمي، ونشر أعضائي، كنت أشاهد كل ذلك بأم العين، فيستحلب لساني لرائحة شي اللحم تتسلل إلى خياشيمي، واستعذب صفير أمعائي الفارغة، وقد خذلني صوت الألم الفصيح، وغامت الدنيا أمام ناظري، وحينما انتهوا من عمليات الإفراغ والعصر والنشر، كأنهم يجهزون حيوانا أسطوريا لعرضه في متحف لسلالات الخنازير والتماسيح والعفاريت والديناصورات البائدة، تركوني جثة هامدة وسط بركة دمائي المتخثرة التي حاولوا عبثا شفطها لدورة المياه عبر أنبوب مطاطي موصول بعروقي، مستكثرين في الميتة التي استحقها، ثم حملوا حقائبهم، وخرجوا، صفقوا الباب خلفهم، وانصرفوا تحت ستر الليل الكحلي، دون أن يلحظهم أو يشعر بهم احد، بخمستهم، المرأة الخلاسية التي مرغتني في أسن عطرها الماجن، وأصحاب الوقت الأربعة ألمتجهمي السحنات، ذوو النظارات السوداء السميكة التي تخفي خلفها نظرات شيطانية حاقدة حادة براقة ماكرة وتقطيبة أبدية.


* من مجموعة (...إلخ) منشورت رابطة أقلام أحمر، سفيغراف 2014



#نقوس_المهدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حاتم عبدالهادي السيد - قصة.. وقراءة: فنتازيا السرد واستدعاء ...
- شهادات خاصة أريج محمد أحمد - في تقدير المغربي الأستاذ المهدي ...
- علجية عيش - مع نقوس المهدي مؤسّس أضخم موقع أدبي وفكري في الع ...
- تقنيات وأساليب البناء الدرامي والتخييل في رواية (الرفيق)* لل ...
- تقنيات وأساليب البناء الدرامي والتخييل في رواية (الرفيق)* لل ...
- تقديم لديوان -رحبة الاحلام- للأديبة المغربية الشريفة مريم بن ...
- الناقد والكاتب المغربي المهدي نقوس حاورته: بشرى رسوان
- أهل منتدى مطر في حوار مع نقوس المهدي
- سعيد فرحاوي - رجال من ذهب... نقوس المهدي.
- خالد سلامة - المهدي نقوس: مبدع يتأرجح بين الأصالة والتجديد
- حواتر مع نقوس المهدي... بمنتدى مطر
- حوار مع نقوس المهدي - لا يمكن للشخص أن يكتب دون مخزون ثقافي ...
- حوار مع نقوس المهدي أجراه: ذ. عبدالله بديع
- حوار مع نقوس المهدي... أجرته أليسار عمران (انتصار ابراهيم عم ...
- الأديب مهدي نقوس ضيف جريدة المسار العربي... الجائزة التى يفو ...
- حوار جريدة العرب مع نقوس المهدي... أجراه الأستاذ محمد شعير
- زخارف عربية.. برنامج ( رؤى حوارية) حوار مع الكاتب نقوس المهد ...
- الأديب مهدي نقوس ضيف جريدة المسار العربي... أجرت الحوار: ترك ...
- حوار مع نقوس المهدي أجراه الكاتب والقاص والناقد المغربي الأس ...
- إسمه (ذو يزن)... في تذكر الشهيد عبدالفتاح إسماعيل


المزيد.....




- كتاب جديد يستكشف عالم الفنانة سيمون فتال
- ثبت تردد قناة الفجر الجزائرية الجديد 2025 وتابع مسلسل صلاح ا ...
- -مذكرات سجينة-.. مسلسل تلفزيوني عن سجينة روسية في الولايات ا ...
- الطائرات في الأفلام.. هل هي سبب فوبيا الطيران؟
- مهرجان كان السينمائي: لجنة تحكيم دولية برئاسة جولييت بينوش و ...
- لحظة غفلة تكلف الملايين!.. طفل -يتلف- لوحة بقيمة 56 مليون دو ...
- ترامب يوقع أمرا تنفيذيا يُلزم سائقي الشاحنات بالتحدث باللغة ...
- أسئلة الثقافة في زمن التأفيف
- بمزيج من الشعر والموسيقى اختتام مؤتمر قصيدة النثر في العراق ...
- زاخاروفا ترد على دعوة ممثل أوكراني لضرب الأطفال بسبب تحدثهم ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - العربي الرودالي - النص الإبداعي وأجناسية الاحتقان في نص (سهرة مع الثعابين) لمبدعه نقوس المهدي