|
أسطورة -حمو اونامير- وعقدة اوديب: اية علاقة؟
موسى أغربي
الحوار المتمدن-العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 23:57
المحور:
قضايا ثقافية
اسطورة "حمو أونامير" وعقدة اوديب: أية علاقة؟ قبل الخوض في "أوديبية" حمو اونامير، لا بد من الرجوع إلى بعض تفاصيل القراءات الغربية لأسطورة (أو بالأحرى: تراجيديا) أوديب ملكا للكاتب الإغريقي "سوفوكل"، وهذه القراءات (بصيغة الجمع) قد تختلف فيما بينها من حيث منطلقاتها الفكرية ولكنها من وجهة نظري قراءات متكاملة لا تخضع لإرادة النقاد وأمزجتهم النفسية والفكرية، بل تعود في المقام الأول إلى طبيعة النص الإبداعي بصورة عامة وأسطورة أوديب على نحو اخص، ذلك بأن النص الإبداعي – الذي تتوفر فيه شروط الإبداع والخلق الفني- ثري الدلالة الناجمة عن تعقد العلاقة بين الوجود الإنساني وتعابيره الخيالية التي يمتزج فيها الخيال بالحقيقة الوجودية، وهذه الحقيقة إشكالية ولا تقف عند حدود الوهم اليقيني، ومن هنا نبثق الفكرة القائلة بأن هناك طرقا متعددة لقراءة أي نص تاريخي أو أدبي، وذلك بحكم كونهما ينتميان إلى مفهوم الدلالة (signification)، وهذا المفهوم يحيلنا بالضرورة إلى إمكانية وجود دلالات متعددة، ويضرب الفيلسوف الفرنسي Paul Ricœur مثل الأناجيل الأربعة التي عبرت عن العلاقة بين شخصية عيسى الحية وبين الدلالة التي تضفيها الكنسية عليها باعتباره مسيحيا، ويضيف بول ريكور أن هذا يستدعي عدة قراءات ولا علاقة له بالعجز عن التفكير، بل بالعكس يشير إلى ثراء المعنى الثاوي في النص الذي لا يمكن مقاربته إلا بطرق متعددة، وهناك مثال آخر، ألا وهو عمل سوفوكل الإبداعي: أوديب ملكا، وهذا النص كما يقول بول ريكور (أو كما تجلى ذلك من خلال عدة قراءات لا تني تتوارد عبر أزمنة مختلفة) يمكن مقاربته من وجهة نظر تقنية التحليل النفسي الفرويدي "المحصور" في ميل الطفل (الذي يسكن كل إنسان) إلى الام وكره الأب، ويمكن مقاربته أيضا من حيث أن بداية التراجيديا الحقيقية تبدأ بعد أن يسقط أوديب في زنا المحارم وقتل الأب بدون أن يدري وحل الكارثة بالمدينة ليبدأ التحقيق حول فاعل الجريمة وذلك حتى يتم إنقاد المدينة من وباء الطاعون، وهذا ما يسميه بول ريكور تراجيديا الحقيقة . « Tragédie de la vérité » لم يكتف "بول ريكور" بهاتين القراءتين بل أضاف إليهما قضية وجودية طالما شغلت الإنسان ولا زالت منذ أقدم المصور، ألا وهي إشكالية الشر problématique du mal كما تتجلى في الإحساس بالذنب والخطيئة واتهام الذات، لكن التجربة التاريخية التي مر بها –كما يقول- جعلته ينجذب إلى مفهوم "العذاب" souffrance الجائر الذي يطفح به العالم، ومن هنا اعتبر بول ريكور أن قراءة التاريخ تتم من منطلق اعتبار التاريخ هو تاريخ الضحايا ، إن الإشكال هو في نهاية المطاف أن الشر يتعذر تبريره، وليس معنى هذا أن الإثم (أو الذنب coupable) لا علاقة له بالعنف، بل أن علاقته بما يسميه ريكور العنف الغير الآثم المتجلي في "العذاب"، لقد حاول الإرث الديني اليهودي والمسيحي حل هذا الإشكال عن طريق الاعتقاد بأن الشر ناجم عن ارتكاب الذنوب، فهو إذن بمثابة الجزاء، وأما التراجيديا الإغريقية فقد عالجت هذا الإشكال الأزلي عن طريق توظيف مفهوم "القدر" Fatalité، فلقد حاول أوديب كل ما في وسعه من أجل النجاة من ارتكاب الجريمة ومع ذلك فقد سعى إليها بدون علمه. إن التراجيديا الإنسانية في كل العصور وإشكاليات الوجود الإنساني لا تخرج عن هذه العناصر الثلاثة التي تؤطر هذا الوجود وهي: الارتباط بالأبوين حيا وكرها- وقضية البحث عن الحقيقة والتعرف على الذات كما دعا إليه شعار معبد ديلفي وقولة سقراط الخالدة: "اعرف نفسك بنفسك"- وقضية الشر الذي يطفح به العالم وضحاياه من البشر سواء كانوا أبرياء أو مذنبين. وبناء على هذا الإطار الفكري العام يمكن استكمال القراءات الغربية لتراجيديا أوديب ملكا وذلك تمهيدا لقراءة الأسطورة الأمازيغية "حمو اونامير" وعلاقتها بالإرث الأسطوري الإنساني، خاصة وأن هناك من الباحثين في الحقل الثقافي الأمازيغي من يربط هذه الأسطورة بالأسطورة الإغريقية. إن الأسطورة الإغريقية "أوديب ملكا" لها من الجاذبية والاغراء مساحة واسعة في العقل الإنساني عبر العصور، وعلى الأخص النقد الأدبي والنقد الأسطوري، وأكثر إغراء من هذا كله نظرية فرويد حول عقدة أوديب - لكن يجب الحذر من جعل النظرية الفرويدية "دوغم Dogme" بدلا من جعلها منهجا للتحليل لا يلغي غيره من المناهج المختلفة باختلاف سياق الثقافات الإنسانية، آخذين بعين الاعتبار أن المنطلق في مجال النقد الأدبي أو التاريخ هو النص في كليته، وليس تجزيئه أو إخضاعه للانتقائية التي قد تتحكم فيها أيديولوجية الناقد أو ذاتيته. من هنا فإن كثيرا من نقاد الغرب لنظرية فرويد لم يعتبروا عقدة أوديب حالة مطلقة بل قد تكون مجرد حالة من الحالات، ولكنها لا ترقى إلى مستوى القانون العلمي الذي تحكم في نظرية فرويد بحكم انتماء هذا الأخير إلى مرحلة أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كان الاعتقاد المطلق في النظرية العلمية أن القانون لا يمكن أن يكون علميا إلا إذا كان شاملا وفي كل الحالات، وهذا ما أدى بفرويد إلى اعتبار العقدة المذكورة حالة مطلقة يمر بها كل إنسان. يعتبرclément rousset من الباحثين الذين لم ينقضوا التحليل النفسي الفرويدي، ولكن حاول من خلال ما توفر لديه من الفنون السردية والتاريخية، أن يبين لنا بعض مناطق "الخلل" في النظرية الفرويدية، وخاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين الأب والابن، لقد اعتبر أن فرويد يميل لصالح الأب وإعفائه عن مسؤوليته في ما يتأتى من الابن من الجرائم مثل غريزة اضمار القتل في حق الأب، وك. روسيه ينطلق من بعض تفاصيل الأسطورة الإغريقية التي حذفها فرويد، فهو لم يشر إلى تاريخ أوديب المتعلق بجريمة الأب Laïos، لقد وقعت هذه الجريمة قبل ميلاد أوديب، وتتمثل في أن الأب – الملك – لايوس، استقبل في قصره الملك Pélops ورفقته ابنه Chrysippe الذي كان يتمتع بجمال فاتن دفع لايوس إلى اغتصابه، فلما علم هذا الملك ما حل بابنه لجأ إلى الآلهة Hére المكلفة بحماية الأسرة من أجل أن تأخذ بثأره فكان أن قرر وحي DELPHES انزال العقاب بلايوس وذلك بأن حرم من الإنجاب، وحتى ما إذا انجب ولدا فإن هذا الولد سيقتله ويتزوج أمه، مما دفع لايوس إلى أخذ الحذر وذلك بأن هجر زوجته في المضجع، لكن هذه الأخيرة استغلت غريزته وقامت باغتصابه في حالة نومه (الخفيف)، وهكذا ولد "اوديب"، وفي هذه الأثناء قام لايوس بثقب عرقوبه وعلقه بواسطة قدميه في شجرة فوق جبل، ومن هنا اكتسب اسمه "أوديب" أي أنه ذو قدمين متورمين وهكذا إلى نهاية تفاصيل الأسطورة . في فقره سابقة أشرت إلى مفهومSignification الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، لقد وظف هذا المفهوم لدى بعض الباحثين الفرنسيين انطلاقا من الاسم "أوديب" Oeudipe مبتعدا إلى حد ما عن العقدة الفرويدية المألوفة بشكل واسع، وفي الحقيقة فإن هذا الاسم انطلاقا من اللغة الإغريقية يحمل أكثر من دلالة. فمن جهة نجد أن المقطع الأول (Oidéô) لا يدل على التورم بل يحيلنا على فعل "عرف" « Savoir » (Oida) وجذر هذا الفعل هو (id-) الدال على فعل رأى (voir) ومنه تفرعت مشتقات عديدة يمكن التعرف عليها في اللغة الفرنسية ومنها: الفكرة idée والمعبود idole والذاكرة المتوقدة éidetique، ومن ثمة فإن مورفولوجية الفعل (Oida) تحيلنا على ما يمكن تسميته "اكتمال" تعبيرا عن اكتساب المعرفة بناء على عمل أنجز في الماضي، وفي اللغة الإغريقية فإن فعل عرف يعني رأى، ولكن المعرفة هنا ليست منفكة الصلة بالجهل (ignorance)، فأوديب على هذا الأساس بطل المعرفة والجهل في آن، كما أن "الرؤيا" ترتبط بالعمى Aveuglement . وإذا كان المقطع الأول من الاسم يحيلنا على المعرفة وليس إلى القدم المتورمة، فعلى أي شيء يحيلنا المقطع الثاني؟ أي Oidi-pous = (pou)؟ إنه يحيلنا على لغز القدم، فأدويب لم يكن يعرف في البدء سر تشويه قدميه، ولكنه سيعرف ذلك من بعد، بل أن لغز القدم حل من لدن أوديب وذلك حينما أجاب phénixe عن سؤال الكائن الذي يمشي بثلاثة أصناف من الأقدام . لماذا تحول القدم إلى لغز في هذه التراجيديا؟ لأن القدم بكل بساطة هو الذي يقود البطل إلى مصيره أو قدره فلولا انتقاله من مكان إلى مكان، ومن عائلة ملكية إلى أخرى لم سقط في شرك الجريمة الذي نصبته الآلهة. ولكن للقدم جانب آخر يتمثل في ارتباطه بالمكان، فاسم أوديب البطل يعني "هذا الذي يعرف أين يوجد" « Celui-qui-sait-où ?، من أي مكان أتي وما هو أصله . وسنرى فيما بعد أن حمو أونامير بدوره ينتقل- كما سنرى. من مكان إلى آخر، ومهما تنوعت امكنة وجوده، فإنه لا بد أن يوجد في مكان محدد وفق الإرث الثقافي الذي تستهلك فيه هذه الأسطورة، كل إنسان بل كل بطل اسطوري لا بد أن يوجد في مكان محدد، وبدون هذا فإنه سيظل تائها مفتقرا إلى التوازن النفسي والفكري. أما الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو" Michel Foucault فينطلق من منطلق معرفة ما حصل منذ أن اغتيل لايوس على يديه وممارسة زنا المحارم مع أمه، والحقيقة أن فوكو ادخلنا بحق في دهاليز النص المسرحي ومقاربة الطرق الملتوية التي تفضي إلى الحقيقة المتصلة بتحديد المجرم وما يرتبط بها من حقيقة ولادة أوديب. ففيما يتصل بالقضية الأولى هناك بنوءة الاله ابولو التي تشير الى وجود المجرم داخل المدينة، ولكن دون تحديده، انه دنس ولكن من يقدر على توزيعه على نحو "تتحقق معه عدالة الاقتصاص، ما هو معروف عن اوديب أنه ليس ابنا ل بوليب Polype ولكنها معرفة ناقصة، وكما يقول م. "فوكو" المعرفة في المسرحية هي عبارة عن انصاف الحقيقة سواء أتعلق الأمر هنا بتحديد الجريمة دون تحديد المجرم، او ذكر ولادة اوديب ولكن دون ذكر ابويه الحقيقيين، هذا هو إيقاع التراجيديا التي تتلاطم فيها خمسة آراء متناقضة تتصل بحقيقة اوديب . وحتى الراعي الذي تكفل بإلقاء الصبي اوديب في العراء، لا يعين على الاهتداء إلى الحقيقة على الرغم من أنه يقول: ان جوكاستا هي الأكثر تأهيلا من كل سائر الناس لقول الحقيقة عن ولادة اوديب، ففي حال تلفظه بهذه الكلمات، فرت جوكاستا حتى لا ترى أو تسمع، ومن بعد ذلك أقدمت على الانتحار، وحتى هذه اللحظة غابت ولادة اوديب الحقيقية عن التصديق . تراجيديا اوديب لا يمكن اختزالها في قتل الأب وممارسة زنا المحارم، لأن الاختزال في هذه الحالة يعني أن المدرسة الفرويدية أصبحت عقيدة Dogma وليست منهجا لتحليل النفس البشرية، بل وامتدادها إلى دراسة نفسية الشعوب وثقافاتها. ومن هنا فإن هذه التراجيديا تتضمن جوانب لم يلتفت إليها الباحثون إلا في حالات نادرة، ولذلك فإن موقف فوكو يمثل جانبا من جوانب التراجيديا الثرية من حيث دلالات رموزها. إن اوديب ليس مجرد قاتل للأب، بل هو أيضا مخلص لشعب طيبة من هول فينيكس الرابض في مدخل المدينة يترصد كل من لا يجيب عن سؤاله وفك رموزه، وهو أيضا صاحب البحث عن الحقيقة، والحقيقة هنا تفهم بمعنيين: حقيقة ولادة البطل وحقيقة فك الرموز، ففي الحالة الأولى قد تفضي الحقيقة إلى الكارثة، ذلك أن لها وجهان: وجه حاضر "مزيف"، ووجه غائب حقيقي، أي أن أوديب قرر أن يغادر الأسرة التي تبنته معتقدا أنها هي الأسرة الحقيقية، وذلك حتى لا يسقط في ما تنبأ به الوحي الإلاهي، أي جريمة قتل الأب والزواج بالأم، ولكن الوجه الغائب يجهله اوديب، والجهل هو بمثابة القتل الذي يمارسه الإنسان في حق ذاته، وهذه هي قمة المأساة. أن تراجيديا "أوديب صوفوكل" تمتح من الفكر الإغريقي "السوقراطي"، ذلك بأن سقراط تفوه بكلمات خالدة وهي موجهة لأي إنسان أنى ومتى وجد: اعرف نفسك بنفسك، فكيف فهم الفلاسفة والمفكرون هذه "الصيحة" الخالدة اللصيقة بالوجود الإنساني؟" إن الإنسان لا يمكن أن يعرف نفسه إلا إذا كان حرا، فالحرية أساس المعرفة، هذا الإنسان ذو أخلاقية – حرة لأنها تسعى إلى إدراك الخير" bien، لكن هذا الخير يبدوا أنه أبعد مما تم إدراكه من قبل، ومع ذلك فإن ما يرومه الإنسان هو "المعرفة" عبر الحرية، وهذه المعرفة –كما قلت- مرتبطة بالوجود الإنساني، أي المتعلقة بمعرفة معنى العدالة، وما معنى الخير، وما معنى السعادة . وعلاوة على ما تقدم من الفقرات السابقة، فإن للتراجيديا بعدين اثنين لهما حضور قوي أيضا، بحيث لا يمكن أن تكتمل المسرحية إلا بفحص جوانبها كلها، لا تجزيئها إلى عناصر ترضي رغباتنا في العثور عما تريد الوصول إليه، لأن هذا من شأنه أن يبعدنا عن النقد "النقدي" لصالح "الموقف" الدوغمائي! وهذان البعدان هما: العنف والتضحية أو المقدس، وأنا أروم مقاربتهما بنوع من الإيجاز من خلال موقف الباحث رونيه جيرارد René Girard، وقصدي من وراء هذا كله، أن تكون هذه المقاربة مدخلا لدراسة عناصر أسطورتنا الأمازيغية "حمو أونامير" وتبيان مدى خصوصيتها، دون أن تكون مقطوعة الجذور بالفكر الإنساني على الرغم من اختلاف الثقافات وتباعد المسافات والأجيال، لأن الإبداع الإنساني ليس مجرد تحليق في فضاء التوهمات، بل هو محاولة فك شفرات حقيقة الوجود الإنساني وارتباطه بقضايا هذا الوجود المتواترة في كل الأزمان. رونيه جيرارد يعتبر أيضا من المفكرين والنقاد الذين حاولوا قراءة تراجيديا أوديب ملكا من زاوية تنأى بها عن دائرة حصرها في كراهية الأب والإعجاب به في الوقت نفسه، وكذا الرغبة اللاشعورية في ممارسة زنا المحارم. منطلق ر. جيرارد في دراسته "العنف والمقدس" يمكن تلخيصه في هذه المعادلة المنطقية التالية: أن كون الأب "لايوس" Laïos عنيفا ليس بصفة كونه "أبا"، بل لكونه "عنيفا" صار "أبا" وملكا، أي أن صفة "العنف" أسبق من علاقة القرابة بين الأب وابنه، العنف أولا ثم تأتي القرابة في المحل الثاني، وهنا يستحضر ر. جيرارد قولة Héraclite (هيراكليت): إ"ن العنف هو الأب المطلق"، أو أب كل شيء ، وتزداد هذه الفكرة وضوحا إذا استحضرنا تفصيلا مهما لم يعر له فرويد أي اهتمام، ويتمثل في أن أب أوديب سبق له أن اغتصب طفلا كان آية في الجمال، ويدعى هذا الطفل "كريزيب" « Chrysippe وهو كان يوم اغتصب ذا اثني عشرة سنة وذلك قبل ولادة أوديب، وقد حدث هذا حينما استقبل "لايوس" بيلوبس Pélops ملك Pise في قصره حيث قام بجرم الاغتصاب ليلا، وحينما علم الأب بما حدث لابنه غضب غضبة شديدة جعلته يلجا إلى Héra الهة الحامية للأسرة من أجل أن تأخذ له بثأره، ومن هنا أتت اللعنة المنصبة على "لايوس" بأنه سيقتل على يد ابنه ويغتصب زوجته وملكه . وعلاوة على هذا كله فإن ر. جيرارد يشير إلى أنه حينما حدث الصراع بين أوديب ولايوس أثناء اعتراض طريقه لم يكن هناك لا "ابن" ولا "أب"، فاللقاء حدث بين طرفين لا يعرف أحدهما الآخر . وانطلاقا مما تقدم يمكن القول أن سكوت "فرويد" عن هذه التفاصيل في أسطورة أوديب ملكا لا يمكن أن يدفعنا إلى إنكار مدرسة فرويد باعتبارها منهجا لتحليل النفس البشرية بل أنها تمتد لدراسة نفسية الشعوب وتاريخ الأديان والثقافات على نحو ما أشرت إليه آنفا. ************************************************ كيف قرأ عبد الله بوتفور أسطورة: حمو أونامير: نشر الأستاذ عبد الله بوتفور قراءته "أسطورة حمو أونامير" في 14، Etudes et documents berberes سنة 1996، مستعملا مصطلح "الحكاية" conte، بدل الأسطورة، وقد نلتمس له عذرا في هذا الخلط بين هذين النوعين الإبداعيين، خاصة وأن بعض المفكرين في الغرب، قد وجدوا صعوبة في التمييز بينهما، وهذا ليس موضوعنا الآن، ما يهم هو طبيعة المقاربة النقدية التي انطلق منها هذا الباحث. يرى الأستاذ عبد الله بوتفور أن مقاربة هذا المتن السردي تتم من خلال اقتراح ما يسميه منطق الحكاية في ضوء العلم السردي Narratologie، وذلك قبل الشروع في الدراسة التحليلية. في البدء يميز في هذه الحكاية بين حدثين أساسيين: حكاية الفناة وحكاية الطفل، بدأ من هذه الأخيرة باعتبارها الأكثر شهرة، حيث يقدم "حمو" باعتباره طالبا في الكتاب القرآني، أو ملكا ولم يعتبر هذا ذا أهمية على المستوى السردي، ولا أدري كيف يمكن اهمال هذه المرحلة خاصة وأن النص الأدبي هو بنية متلاحمة العناصر الرمزية، ومراحل البنية السردية كما سأوضح فيما بعد تجسيد لهذه البنية، ومما نتج عن هذا الموقف هو الذهاب إلى أن النص يتسم بكونه منسجما باستثناء النهاية، أي أن هذه الأخيرة لا علاقة لها بالبنية السردية!! يقدم بونفور عناصر "الحكاية" بتفاصيلها من البداية إلى النهاية: ينهض الطفل كل صباح ليكتشف أن يديه ملطختين بالحناء، فيتعرض بسبب ذلك للعقاب على يد معلمه، أو الإحساس بالإهانة لأنه تعرض ليلا وأثناء نومه للاغتصاب، وبناء على نصائح معلمه لجأ إلى ترصد تلك التي اغتصبته، حتى تم القبض عليها فتعلق حبا بها، بل أنه لحقها بعد مشقة طويلة في السموات السبع العليا، واشترطت عليه من أجل الزواج بها أن تسكن في بيت منفردة بنفسها ويمنع أي أحد من الولوج إليه بما في ذلك أم أونامير، لكن الأم نجحت في الاهتداء إليها وكالت لها كل الشتائم الجارحة، مما اضطرت الفتاة إلى فسخ عقد الزواج. ومن العناصر المهمة في هذه التفاصيل الاهتداء إلى معرفة مكان الزوجة وذلك بواسطة خاتم "التعرف" Bague de reconnaissances، وأما التفاصيل السردية الأخرى فسأتوقف عندها أثناء التحليل، وما يهمني الآن، أن العناصر التي يجب التوكؤ عليها من أجل فهم سراديب هذه التحفة الفنية في ضوء علاقة الإنسان بمحيطه "الأرضي" و"الاجتماعي"، وعلاقته أيضا بالثقافة الإنسانية التي تعتبر تجسيدا لروح الإنسان أنى ومتى وجد، وهذا هو الهدف الأساسي من إقدامي على اختيار هذا النص الأسطوري الذي يمثل عراقة جذور الثقافة الأمازيغية. من العناصر السردية الأساسية التي تعتبر من وجهة نظري مفتاح الولوج إلى عالم هذه الأسطورة هو حضور الطفل أول مرة في الكتاب القرآني (وهذا العنصر لا يمكن بأي حال من الأحوال عزله بدعوى كونه لا اسهام له في البنية السردية والرمزية)، ثم حضور الام وعلاقة هذه الأخيرة بزوجة ابنته، ووجود الطفل بين هذين العنصرين الانثيين ودلالات ذلك كله في النص باعتباره بنية متلاحمة من بداية الحدث الأول إلى الحدث الأخير، أي منذ دخوله إلى الكتاب القرآني، والعودة من السماوات السبع إلى الأرض "الأم"، إن هذا الربط بين البداية والنهاية هو ما يمثل عمق هذا النص الأسطوري، وقبل أن أبين وجهة نظري لا بد أن أستكمل مقاربة الأستاذ عبد الله بوتفور الذي يبدو لي أنه قد اغفل حضور الطفل في الكتاب القرآني وذلك لتوجيه رؤيته صوب ما يمكن اعتباره عناصر أوديبية، وهذا بيان ذلك: "عقدة" حمو اونامير اسطورة أونامير وردت في أكثر من رواية، وقد احصت الباحثة "نجاة نرسي" Najate Narci، اثنين وعشرين رواية ، ولكن الباحث ركز أو بالأحرى انفرد برواية lassigui باعتبارها شاملة وأوسع من الروايات الأخرى، إضافة إلى أنها تلقي الضوء على بعض الجوانب الغامضة في الروايات الأخرى – وحكاية أونامير من وجهة نظر بونفور لها طابع درامي، وهي بذلك لا تنفصل عن درامية حكاية "الفتاة" أي تانيرت Tanirt. حكاية أونامير حسب رأي الناقد تدور حول الرغبة « désir » التي لا تعبر عن نفسها بطريقة مباشرة. ومن هنا توظيف التحليل النفسي في هذه المقاربة. وهذا المنهج قد يتيح لنا النفاذ إلى المعنى الدلالي من خلال طبيعة الأحداث الموظفة في هذه الأسطورة، وقد تم تصنيف هذه الأحداث كما وردت في الأسطورة وفقا لما يقتضيه التحليل المفصل، وذلك على النحو الآتي: - يستيقظ الطفل كل صباح ليجد يديه ملطختين بالحناء فيتعرض بسبب ذلك إلى العقاب من طرف الفقيه، ثم أنه يحس بالعار نتيجة اغتصابه ليلا وهو نائم. - عنصر دلالي آخر غائب وهو حضور الأب والاكتفاء بحضور الأم، وهذا ما يغري بالأخذ بالمفهوم الفرويدي حول العقدة الأوديبية، وهذا ما يسميه الأستاذ بونفور "عقدة حمو" Le complexe de Hemmu. - في النوم يحدث المحرم اجتماعيا، ذلك بأن "جنية" أو "ملاكا" لطخ يديه بالحناء الذي يعتبر في التقليد الأمازيغي رمزا ذا حمولة "ايروسية" خاصا بالنساء لا الرجال، من هنا تعرض الطفل – القارئ للعقاب. - تمكن الطفل – بعد أن طبق وصية الفقيه – من الإمساك بهذه الجنية التي ستصبح زوجة له شريطة أن تسكن بمفردها بمعزل عن كل شخص حتى لا ترى وخاصة من لدن "الأم". - في غياب "حمو" تمكنت الأم من الاهتداء لمسكن زوجة حمو، وامطرتها بوابل من الشتائم، مما اضطرها إلى فسخ عقد الزوجية، والصعود إلى السموات السبع، وعقب ذلك لحق بها حمو عن طريق "نسر" عوض فرس حمو الذي آثر التضحية به. - استطاع ابن حمو أن يتعرف على أبيه رغم أن أمه كانت تعيش مع إنسان هو في الحقيقة وحش ذو سبعة رؤوس، أو شخص يهودي. هذه العناصر من الأحداث المتتالية على المستوى السردي، تمثل من الناحية المنهجية الإطار الذي يمكن من التحليل ومقاربة الدلالات الرمزية على نحو ما اسلفت. ينطلق الأستاذ عبد الله بونفور من الحدث الأول في الأسطورة، هو وجود الطفل في الكتاب القرآني، وهذا الفضاء على الرغم من قدسيته "لا يمثل فضاء لحب المعرفة، بل أن المعرفة تتم خارج هذا الفضاء وأثناء اليقظة وفي الليل، و"بونفور" يركز على سعي الطفل إلى المعرفة، وما هو موضوع هذه المعرفة؟ موضوع المعرفة بالنسبة للطفل خارج الكتاب القرآني كما قلت: أن يعرف أسرار الحب وما هو مصدره، الباحث يرى أن هذا لا يتم إلا بالتضحية براحة النوم حتى يتمكن من حل اللغز المتمثل في الإمساك بالجنية التي لطخت يديه بالحناء، إشارة منها إلى الوقوع في غرام الطفل. وبعد هذا الحدث تأتي مرحلة البحث عن العشيقة – الزوجة التي هاجرت إلى السموات السبع، والتعرف على مكان وجودها يؤدي إلى وصل ما تقطع من العلاقة الزوجية، ثم الحنين إلى الأم فوق الأرض وهي في موقف مأساوي في انتظار ابنها "حمو" للقيام بالتضحية بالمعنى الديني التي لا يمكن اكتمالها إلا بإسهام "حمو" في هذه التضحية كما سنرى. الأسطورة ورموزها: أسطورة محند أونامير تعددت رواياتها على نحو ما اسلفنا، وهذا يدفعنا إلى استعارة ما قالته "ماري لويز فرانز" عن حكاية الأخوين كريم": "الحسناء النائمة في الغابة" التي تعددت رواياتها: "ان تعدد رواياتها يدعونا إلى عدم التمسك بنظرية نهائية" . فكما تتعدد روايات الحكايات تتعدد أيضا روايات "الأساطير"، وهذه مسألة بدهية، لأن تداول هذه المتون السردية كانت تخضع للذاكرة وتتناقل شفاهيا قبل أن نستقر في الكتابة، وحتى إن حدث ذلك، فإنه لا مناص من تعدد هذه الروايات، لأنها تخضع للسياق الثقافي لكل أمة أو شعب، فإلى أي حد يمكن القول بأن أسطورة "أحمد أونامير" قائمة على أساس العقدة الأوديبية، وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع، يجدر بنا أن نذكر أن هذه العقدة لا تتأتى عن طريق النقل الحرفي من ثقافة إلى ثقافة، ذلك بأن الحكايات والأساطير، وفق ما يذهب إليه كثير من الباحثين في الحكاية والأسطورة، هي عبارة عن تجسيد للحلم الإنساني، أي أنها لا تختلف عن الأحلام التي تعبر عن أعماق النفس الإنسانية في كل الأعصر، وبصرف النظر عن اختلاف الثقافات!! ومن هذا المنطلق يمكن تفسير موقفنا من أسطورة أحمد أونامير. وما دام الأستاذ بونفور اختار عنوان مقالته على النحو التالي: "حمو أونامير أو أوديب البربر"، انطلاقا – على نحو ما اسلفت – من رواية A. Lassigui، فإننا مرغمون على البحث في الصلة بين هذه الأسطورة وأسطورة الإغريق المرتبطة بشخصية أوديب. إن الرواية المعتمدة من طرف بونفور لا علاقة لها مطلقا بعقدة أوديب، اللهم إلا إذا اعتمد رواية أخرى لنفس الراوي (أي Lassigui. 17)، لأن الرواية التي سأعتمدها هي الرواية التي وجدتها في ملحق الباحثة "نجاة نرسي": "تحولات اسطورة أونامير". نعم قد تكون هناك عناصر مشتركة بين الأسطورة الإغريقية وأسطورة "أونامير"، ولكن تبين لي أن هذه الأخيرة اقرب في عناصرها السردية إلى حكاية "الأخوين كريم"، منها إلى أسطورة "أوديب". في كل من أسطورة أوديب وأسطورة أونامير، نجد أن ولادة البطل ليست عادية، ومع وجود فارق بين كون البطل في الأسطورة الأولى "مذكرا" في حين أن البطلة في الأسطورة الثانية "أنثى"، وجل الإبداع الإنساني الأسطوري والحكائي يشترك في ظاهرة الولادة غير الطبيعية، فأوديب اقترنت ولادته بالعنف نتيجة الخوف من تحقق نبوءة قتل الأب والزواج بالأم، مما اضطر "لايوس" الأب إلى التخلص منه بقتله، وفي... أسطورة "أونامير" في إحدى الروايات، نجد أن الأم حينما كانت حاملا، لجأت إلى استشارة "الشمس" حول ما إذا كان من في بطنها يفوقها (أو تفوقها) جمالا، فلما علمت بأنها ستلد من هي أجمل منها، وتم تحقق ذلك إذ ولدت طفلة آية في الجمال، جعل الأم تستثير غضبا إلى حد أن أمرت زوجها بضرورة ذبح الطفلة حتى تضاهيها في جمالها عن طريق شرب دمها، لكن الأب كان في كل مرة يلتمس ذريعة لتأجيل تنفيذ ما أمر به. وفي الأخير اضطر إلى إبعاد طفلته بعيدا فوق قمة جبل في عمق الغابة حيث توجد مغارة تسكنها عائلة من الغولة وصغارها. ومن أجل مقاربة هذه الحكاية في مستواها الرمزي "الخارق"، لا بد من مقارنتها بحكاية "الحسناء النائمة في الغابة" للأخوين كريم"، في هذه الحكاية نجد أن ولادة الطفلة وهي آية في الجمال تنبأ بها ضفدع، بينما أسطورتنا تقول أن النبوءة أتت من "الكوكب" أي الشمس، وفي كلتا الحالتين نجد أن "المولودة" تعرضت لتجربة قاسية، وفي مكانين مختلفين في الشكل ولكنهما متماهيان في العمق الدلالي، ففي حكاية "الحسناء النائمة في الغابة" نجد ان نومها الطويل في القصر لا يخفي صلة هذا الأخير بالغابة، إذ أنه كان محاطا بسياج من الأشواك مانع من الولوج إلى حيث ترقد هذه الحسناء، وفي اسطورة أونامير نجد أن الأب الذي حاول مراوغة زوجته الراغبة في قتل المولودة – لجأ إلى الذهاب بابنته بعيدا وذلك إلى جبل في عمق الغابة، على نحو ما اسلفت، حيث آوت إلى المغارة التي هي في الحقيقة مسكن للغولة وصغارها. في حكاية "الأخوين جريم"، وأسطورة أونامير نجد تشابها دقيقا في الإطار الرمزي العام لا في التفاصيل، بين هاتين الشخصيتين، فكلتاهما مرت بتجربة الولادة غير عادية، إذ نجد أن الحسناء النائمة في الغابة تنبأت لها إحدى الجنيات بأن المولودة ستجرح يدها أثناء الإمساك بالمغزل، ستتعرض للموت، إلا أن الجنية الثانية عشرة خففت من هذه العقوبة، واكتفت بنومها العميق مدة مائة سنة . أما بطلة أسطورة أونامير فقد نجت من القتل على يد أمها، كما نجد تشابها آخر دقيقا بين البطلتين: إنقاذ الطفلة على يد الأب، فالملك في الحكاية أمر بإحراق كل المغازل، في حين أن الأب في الأسطورة الأمازيغية أبعد بنته إلى جبل حيث مغارة الغولة وأسرتها، وإذا ركزنا تحليلنا في هذا المقام على هذه الأسطورة، فماذا يمكن أن تكون قراءتنا لهذه الرموز التي تبدو في الظاهر "بسيطة" و"سطحية"، باعتبارها مجرد مصدر لبعث الخوف لدى الأطفال، إلا أن رموز الأسطورة تغوص في أعماق النفس البشرية، في ما يلي بيان ذلك: الأم حامل، فكيف علمت أن ما في رحمها بنت تخشى من أن تبزها في حسنها، وذلك أثناء استشارتها الشمس، بمعنى أن الأنثى وعقدتها تحمل عقدة الخوف من السقوط في ما يسميه بعض المحللين في علم النفس الفرويدي "الإحساس بالإهانة" (humiliation)، وهذه نرجسية أنثوية، مقابل النرجسية الذكورية على الرغم من الخلاف بينهما، وما هو مصدر هذا الإحساس بالإهانة؟ مصدره "الخيبة" الناجمة عن عدم امتلاك موضوع "الرغبة"، (Désir)، ولا شيء أعلى لدى الفتاة من حضن الوالدين وخاصة الأب في مرحلة معنية من نموها الموسومة بالمرحلة الأوديبية، وهذا الإحساس "بالفقد" مطرد في كثير من الأساطير والحكايات الشعبية في مناطق جغرافية مختلفة ومتباعدة، مما يدل على أن هذه الظاهرة النفسية متغلغلة في أعماق النفس البشرية. فحث الأم للأب على التخلص من البنت عن طريق قتلها، تعبير عن التخلص من منافسة لها على امتلاك موضوع الرغبة المشترك، وهو الأب، بمعنى أن الأم لم تتخلص بعد من المرحلة الأوديبية "المكبوتة"، وأجد نفسي مضطرا للإشارة إلى خصوصية هذه الأسطورة التي لا يمكن أن يغفلها أي نقد متبصرا وواع بهذا الجانب الدقيق من التعبير عن خلجات النفس البشرية، وأعني بذلك اشتراك الأم والبنت في الوقت نفسه في امتلاك الرغبة في الاحتفاظ بالأب باعتباره موضوعا مشتركا، قد نجاري بعض المحللين في علم النفس الفرويدي فنقول: أن هذا الحرص على العلاقة بالأب بل و"امتلاكه"، يعود إلى كون الجنس الأنثوي يفتقر إلى ما يمتلكه الجنس الذكوري، الأمر هنا يتعلق ب "العنصر" الرمزي أي "الفالوس Phallus، ولكننا في الوقت نفسه نجد أن الطفل الذكر أيضا يميل إلى التعلق بالأم في المرحلة الأوديبية، نعم قد ينفصل عنها فيما بعد من هذه المرحلة، فكيف توفق بين هذين الجانبين؟ التحليل النفسي الفرويدي يقدم لنا هذا التفسير اعتمادا على كثير من النصوص الأسطورية والحكائية (بل وحتى النصوص الدينية): لقد وجدت البنت حماها في أبيها الذي أنقدها من الموت الذي تمنته لها أمها، لكنها انفصلت عنه وذلك بأن استبدلت أسرة الغولة بأسرتها الأصلية، وهنا مرة أخرى نجت من الافتراس عن طريق الغول زوج الغولة، وذلك حينما شم رائحة الأدمي، وذلك بأن الغولة راوغت زوجها وساعدتها على الفرار، وأوصتها بأن تقذف – أثناء وصولها إلى مفترق الطرق – كبتين من الغزل إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، الأولى تقود في اتجاه اليسار والثانية في اتجاه اليمين، فاختارت الاتجاه الأول حيث قادها إلى جذع شجرة في الغابة، واتخذت هنا الجذع مأوى لها وكان مريحا خير من البيت. هذا المسار السردي الأفقي ينقلنا من حال الأم الشريرة، إلى الغولة، ومن منزل الأبوين إلى مسكن في الغابة وفي جذع شجرة التمست فيه الفتاة راحتها، فأي تفسير لهذا كله. إن هذه المرحلة السردية (ان جاز التعبير)، هي رحلة في أعماق النفس البشرية لدى كل إنسان، أي أن موقفي هنا هو اعتبار "الأنثى" سواء اكانت اما أو بنتا شخصية واحدة، أي أن البنت امتداد لأمها، وموقف الأم منها هو ترجمة لموقفها هي من ذاتها، إن العدوانية هنا، أي الرغبة في القتل، تسكننا جميعا سواء اكنا ذكورا أم إناثا، ومع ذلك فإن هذه الحالة بالنسبة للأنثى، تتميز بالنرجسية الجريحة Narcissisme blessé ، ولا مناص من مداواة جرحها إلا بالاحتماء بالأب رافضة أن تكون هناك من ينافسها على عرش الحب الأبوي، وهي بمقدار ما هي مغرمة بجمالها، فإنها في الوقت نفسه تمتطي نرجسيتها من أجل الظفر بحب الأب، هنا تدخل الأنثى في المرحلة "الأوديبية" . إن هذه النرجسية لا تنفصل عن الإحساس بالإهانة التي تعاني منها كل بطلات الأساطير والحكايات في مختلف الثقافات، وهذا الإحساس ناجم عن شعورها بأنها مهملة أو أنها ليست "موضوع اهتمام" كالرجل (أو الطفل) الذكر، وهذا ما نعثر عليه بكل وضوح في حكاية "الأخوين جريم" المشار إليها، حيث نجد أن جنية من بين الجنيات لم تستدع إلى الاحتفال أثناء ولادة الحسناء، فلجأت إلى الانتقام بأن تنبأت لها بالموت، قبل أن تخفف جنية أخرى من هذا المصير الأسود بأن حولته إلى نوم مدة مائة عام، وهذا يجرنا إلى الاقتناع بما ذهبت إليه أحد أعمدة التحليل النفسي للحكاية، فقد ذهبت Marie – Lovise Von Franz أثناء ممارستها "الكلينيكية" أي أثناء ملاحظتها "التجريبية"، إنه حدث أثناء تجمع للأطفال، أن طفلة صغيرة أخذت تبكي نتيجة سببين: أولا لأن الأطفال أخذوا يقرصونها، وثانيا لأنهم لا يعيرونها أي اهتمام، وصرحت الطفلة بأنها لو خيرت بين هاتين الحالتين فإنها تفضل أن تقرص. ثم تعلق هذا الباحثة والطبيبة في علم النفس التحليلي على هذا بقولها: إن رد فعل الطفلة هذا هو رد فعل نمطي أنثوي، ولربما يعود إلى الذهنية الجماعية Mentalité collective التي تميل إلى تفضيل الذكر على الأنثى ، من هنا نفهم لماذا تخاف الأنثى من أن تبزها أنثى أخرى سواء في جمالها أو موضوع رغبتها (الذي هو الأب أو الرجل!!)، ومن وجهة نظري فإن رغبة الأم في شرب دم ابنتها حتى تضاهيها في الحسن، هي بمثابة التماهي بين الأم والبنت، وعلى هذا الأساس أشرت سابقا إلى أن هاتين البطلتين عبارة عن شخصية واحدة، وهذه الشخصية "المزدوجة" إن صح تعبيري تخضع للتحول بالمعنى النفسي (السيكولوجي)، فهي في المرحلة الأولى خاضعة لما يمكن تسميته بالمرحلة الفموية حيث تهيمن "الرغبات الفموية المدمرة" désirs oraux destructifs على حد تعبير برونو بتلهيم . وفي المرحلة الثانية تعود إلى حضن الأسرة الأبوية، أي الارتباط بأحمد أونامير باعتباره زوجا، فالبطلة لم تغادر الأسرة إلى الغابة، بل هي لا زالت في المكان نفسه، ذلك أن بيت الأسرة والغابة هو مكان واحد . فالتغير فقط داخلي، أي أنه يحدث داخل النفس البشرية، وهذا التغير من حال إلى حال نتعرض له كلنا أثناء نمونا النفسي. ما دلالة فصل البنت عن أمها، والذهاب بها بعيدا إلى الجبل؟ غالبا ما نجد في الأساطير والحكايات هذا العنصر السردي المطرد، أي وقوع الطفلة الأنثى بصيغة التعميم!! في موقع منفرد أي "العزلة"، موقف الأب حينما قرر ابعاد ابنته تعبيرا من تعلقها به، تم يأتي بعد ذلك "زمن التعويض" والطمأنينة apaisement والتصالح مع الأم . أو بعبارة أخرى فإن نمو الطفلة النفسي هنا يقودها في نهاية المطاف إلى التماهي مع الأم ولكن بعد سلسلة من التجارب التي يمكن اعتبارها قاسية، في الجبل ومغارة الغولة لم تعد البطلة تتمتع لا برأفة الأب ولا بحضن الأم، إنها في حضرة الغولة التي رأفت بها بعد أن اعتنت بأطفال الغولة أثناء غيابها، وذلك بأن حمتها من الافتراس من لدن الغول زوجها (أو الأب القاسي)، بل ومهدت لها الطريق الذي قادها حتما إلى أحضان الملك حمو أونامير. وقبل الالتقاء بهذا الأخير، لجأت إلى الاحتماء بجذع الشجرة الذي اتخذته مسكنا لها والذي كان مريحا لها بل اعتبرته خيرا من البيت الأسري، الجذع هنا رمز للصمود بدون انحناء ورمز للاستقرار النسبي، في هذه المرحلة من السيرورة السردية وقعت البطلة في "العقدة السوداء" Période de noire حيث انخرطت البطلة في بكاء "نرجسيتها الجريحة" narcissisme meurtri. فمن يداوي هذا الجرح النرجسي غير الأب (بالمعنى الرمزي لا البيولوجي) الذي يبدو بصورتين مزدوجتين: أب الأسرة أو الأمير الذي سيخرج البطلة من الغابة إلى الثقافة، أي من "البدائية" إلى "الحضارة"، من الطبيعة إلى العلاقة الاجتماعية (الأسرية). كانت البطلة تخرج من الجذع كلما رأت جمال أحمد أونامير وقد انهمكوا في الرعي، ثم ترخي غدائر شعرها وهي تندب حضها قائلة: من منكم رأى مثل هذه الغدائر المرفوضة من طرف أمها؟ حينما سمع الجمال هذه الشكوى انخرطوا في البكاء تعاطفا معها إلا واحدا فقد كان أصم. وذات يوم وأونامير يسوق جماله للمرعى، فوجئ بهذه الفتاة، وهي تمشط شعرها، واقترب منها محييا وعرض عليها الزواج أو القتل، فاختارت الزواج شريطة أن يبني لها سبعة حجرات تغلق بمفتاح واحد، وتمنع الأم من رؤيتها إلا بعد إنجاب طفلها الأول، وقبل أونامير هذين الشرطين، وحينما قرر الذهاب إلى الحج أوصى الخادمة بأن لا تسلم المفتاح إلى الأم إلا بعد رجوعه، لكن الأم تحايلت على هذه الخادمة وتمكنت من رؤية البطلة وهي تمشط شعرها، وكان رد الفعل أن انخرطت البطلة من البكاء حتى انهمرت دموعها مدرارا وكادت أن تغرقها. وجود الأم لا تطيقه زوجة الابن، لأنه لا يمكن أن يكون موضوع الأدب – الأوديبي، موضوعا مشتركا، هنا تتجلى مرة أخرى "نرجسية" الأنثى التي لا تخفي الخوف من زوال حضوتها، ولذلك نجد في حياتنا الأسرية الصراع بين الزوجات في حال تعددها، بل إن إحدى الزوجات تعتبر "ضررا" بالنسبة للزوجة الأخرى التي تشاركها في الزوج الواحد، وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم العلاقة بين الأب والأنثى لا في صورتها الأوديبية الفرويدية من حيث الميل الجنسي إلى الأب من لدن البنت، ولا أدل على ذلك من عودة البنت إلى حضن الأم، والبحث عن علاقة جديدة بين بطلة الأسطورة وأحمد أونامير، وقبل أن يصل أونامير إلى هذه البطلة كانت هذه الأخيرة مهددة من طرف الغول الذي هو صورة استعارية للأب الأوديبي، لكن الغولة – التي هي بمثابة الأب أو الأم ولم تتخلص بعد من بعدها البدائي – هي التي كانت سببا في تحررها من الخطر الذي كان يهددها ويتجلى في إمكانية التهامها من لدن الأب – الغول. هذا الرمز الدال على المرحلة "الفموية" بدء من رغبة الأم في شرب دم ابنتها حتى قبل أن تخلق، وانتهاء بالتهديد المتربص بالبطلة أثناء وجودها في المغارة إلى جانب الغولة – إن هذا الرمز يبعدنا عن زنا المحارم، وهذا ما أشار إليه كارل. يونج، "في كتابه" تحولات النفس ورموزها" ، وحتى إذا استحضرنا مفهوم الميل الغريزي الجنسي من وجهة نظر فرويد، فإن هذا الميل هو في الحقيقة ميل إلى اكتساب صفات الأب وليس أحد أعضائه (الفالوس الرمزي الذي هو رمز للقوة الذكورية بعيدا عن وظيفته الجنسية!!)، وفي مقدمة هذه الصفات: اكتساب القوة! وهذا ما نستشفه من خلال انشغال البطلة بمشط شعرها سواء أثناء وجودها في الغابة حينما ضبطها أونامير وهي منشغلة بتصفيف شعرها، وكذلك الحال بالنسبة لأم أونامير التي ضبطتها من الموقف نفسه، أي أنها ضبطت وهي في حال تصفيف الشعر!! تقديم البطلة في موضعين فارقين من النسيج السردي، وهي مهتمة بشعرها دال على حضور الشعر إلى جانب حضور البطلة، فهما صنفان، أو بعبارة أخرى، أن الشعر هو امتداد للشخصية، الشخصية الفردية، لكن النقد الأسطوري والحكائي، يدل على أن قدر البطل أو البطلة جزء من المحيط الاجتماعي، أي أن البطل السردي، فردي وجمعي في الوقت نفسه، من هنا يمكن النظر إلى رمزية الشعر، سواء في المجتمعات الغابرة أو الحديثة. منذ قديم الزمان، دخل الشعر ورمزيته من باب واسع إلى الإبداع الحكائي والأسطوري، بل وأصبح جزء من التقاليد الاجتماعية، تختلف قيمته الدلالية من ثقافة إلى أخرى، وقد يكون متعدد القيم، وأحيانا قد تكون هذه القيم متناقضة، هكذا فقد يكون الشعر رمزا للقوة وتملكه عن طريق سلبه من الآخر هو بمثابة سلب القوة عنه، وهذا ما فطنت إليه "دليلة" في الحكاية العبرية، كما أن غازيا إذا غزا بلدا فرض على أهله طريقة خاصة في تصفيف الشعر كما حدث في الصين على يد الغزاة . إن الثقافة الأمازيغية ليست خلوا من الاهتمام بالشعر وخاصة شعر الرأس، لأن الرأس هو موطن تخيلاتنا وأفكارنا المنبثقة من لا شعورنا . من عادات الأمازيغ أن الطفلة حينما تبلغ السن التاسعة أو العاشرة يقام حفل خصيصا لهذه المناسبة حيث يتم استدعاء النساء الماهرات في مشط الشعر وتصفيفه . كما أننا نلاحظ في حياتنا اليومية، أن الفتاة منذ بلوغها سن الرشد توجه اهتمامها إلى شعرها باعتباره عنوان أنوثتها وجمالها وسر جاذبيتها، وهذه الجاذبية هي التي تفسر موقف الشيوخ الظلامين من مفاتن المرأة التي يجب أن لا تعرضها وخاصة شعرها، ولذلك تقوم بتغطيته، وحتى أمهاتنا في الزمن الماضي على الرغم من أنهن لم يدركن هذه التعاسة الذهنية التي يبشر بها فقهاء الظلام – لم يكن يبدين زينتهن الكامنة في شعرهن على الرغم من اسدال الظفائر التي تكون بديلا عن "الغذائر"!! أحمد أونامير حينما رأى البطلة، أو بالأحرى غدائرها اقترب منها ليسألها عما إذا كانت آدمية أما من جنس الشيطان، أي أنه يسأل عن هويتها كما هو مصرح به في الأسطورة، وحينما أجابت بكونها من بني الإنسان عرض عليها الزواج وإلا فإنها في حال الرفض سيقتلها، وبالتالي فإنها قبلت ولكن بشرط أن يبني لها سبع حجرات تغلق بمفتاح واحد كما مر بنا آنفا، وقبل أن أفسر هذه الرموز لا بد من ذكر عنصر رمزي مهم، وربما يشكل المحور الأساس السردي في الرواية. حينما قرر أونامير أن يعود بالبطلة إلى قصره، عاد بها وهي في جذع الشجرة التي اتخذته من قبل مسكنا لها! فما دلالة هذا الرمز في هذه الأسطورة؟ يطرد في كثير من النصوص السردية طرد الطفلة من بيت أسرتها، كما حدث في أسطورتنا هذه، فتحولت إلى لاجئة خارج البيت الأمومي، بدأ هذا اللجوء بمغارة في جبل لتجاور الغولة وأسرتها، وانتهى بها الأمر إلى اتخاذ الجذع مسكنا لها، ولكن هذا المسكن الآن يبدو مريحا وخيرا من بيت أسرتها، هذا التحول من مكان إلى مكان ليس عبثيا أو خاضعا لمحض الصدفة، بل هو يدل على إيقاع نفسي بين، يدل على مراحل النمو النفسي على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع بالنسبة لشخصية أخرى موازية، وهو البطل أونامير كما سنرى ذلك لاحقا. قلت أن رمز "الجذع" مطرد في الإبداع الإنساني الكوني، وهذا يدل على كونه نموذجا أعلى ثابتا في الثقافة الإنسانية، إنه Archetype بالمعنى اليونجي! ففي حكاية الأخوين "كريم" (الفتاة المقطوعة اليدين)، نجد أنها تعرضت لهذا العقاب من لدن شخصيات مختلفة كالأم أو الأخت غير الشقيقة أو الأب، بل انها تركت وحيدة في الغابة بمعنى أنها ارتدت إلى حال "التوحش" ensauvagement أو النكوص (régression)، ثم أنها اختارت الجذع مسكنا لها أو أنها أرغمت على ذلك من لدن الشيطان نتيجة مقاومتها له. أو أنها فرت أمام رغبة الأب في زنا المحارم، وهذا الملجأ يقيها من المطاردة، وبفضله تظل بعيدة المنال . وجود البطلة في أسطورة اونامير بين أبناء الغولة وهي تعتني بهم من حيث توفير الطعام لهم، مما دفع الغولة إلى وقايتها من الافتراس من لدن زوجها الغول – يمكن تفسيره على النحو التالي: أن البطلة في علاقتها بأبناء الغولة توجد في مرحلة من تطورها الحضاري من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تجاوزت المرحلة الفموية بالمعنى الفرويدي، بالنسبة للحالة الأولى فإنها اتخذت موقف الأم التي تحتضن أبناءها، وأما بالنسبة للحالة الثانية فإنها تعتبر بديلا للأم الراغبة في التهام ابنتها! لكن قد ينهض اعتراض على هذا التفسير من منطلق أن الأسطورة نسيج تتشابك خيوطه الرمزية، فما علاقة هذا بما سيأتي خاصة وأن البطلة انتقلت من ملجأ الغولة إلى الغابة (جذع الشجرة)، أي أنها انتقلت من مملكة الهمجية إلى مملكة التوحش؟ هذا التحول مجرد حلقات تمهيدية للتحول النهائي وذلك حينما تغادر الغابة إلى بين الزوجية، ولكننا نلاحظ أنه على الرغم من ذلك فإن البطلة لم تغادر بصورة نهائية جذع الشجرة الذي انتقل معها إلى بيت الزوجية، وهنا يتجلى لنا أن هذا "المسكن" الغابوي هو حالة من الكمون الذي يفضي إلى الانبثاق كما تنبثق النبتة من البذرة وكما تنمو الشجرة وتعلو، إنه نوع من التسامي! وإذا كانت البطلة قد أبعدت عن بيت الأسرة وعن الغولة الرابضة في الغابة، فها هي الآن تعود إلى حضن الأسرة، إلى حضن الملك أونامير، ولكن هذه النتيجة، أي نتيجة العودة تمت بطريقة "الحب" الذي جذب أونامير إلى جمال البطلة. ولكن هل وصلت البطلة إلى تحقيق رغبتها، أي الوصول إلى بر الأمان، وخاصة وأن أونامير لبى لها كل شروطها التي أشرنا إليها آنفا؟ لقد وقفت أمامها أم أونامير مرة أخرى باعتبارها كل حاجزا سينغص عليها حياتها، إن الوصول إلى أعلى درجات التوازن النفسي، أي اكتمال الشخصية لا يمكن أن يتم فوق سرير الزوجية البربري، أو سرير دفء الأم وحضنها الرحيم، إذ لا بد أن يمر البطل عبر التجارب القاسية أي أن يوضع في "وضع صعب Situation penible" على حد تعبير "ماري لويز فرانر" . ولكن لماذا يمكن لأم أونامير أن تكون سدا منيعا يعوق البطلة للوصول إلى تحقيق ما تصبو إليه؟ من الشروط التي قدمتها البطلة لأونامير هو أن لا تلج الأم سر مسكنها إلا بعد ولادة الطفل الأول، وحينما قرر أونامير الذهاب إلى الحج، عهد إلى خادمة (أو خادمته) المفتاح الوحيد الذي يفتح كل أبواب المنزل ذي الأبواب السبعة، ولكن لا يسلمه إلى الأم، هذا العنصر السردي موجود في حكاية من الحكايات التي جمعها الأوخوان غريم، وكذلك الحكاية الفرنسية التي دونها Perrault، بعنوان "اللحية الزرقاء Barbe bleue" ومؤداها أن البطل من أجل أن يختبر زوجته يقرر السفر ويوصيها بعد أن وضع المفتاح رهن إشارتها، بأن تزور كل الحجرات إلا واحدة منها فيمنع الدخول إليها، ولكنها خرقت هذا المنع، وأما حكاية الأخوين "غريم" "طفل ماريا l’enfant de Marie، فإن الفتاة وقد بلغت سن الرشد (خمسة عشرة عاما) قد منع عليها الولوج إلى الحجرة المحرمة، ولكنها خرقت هي أيضا هذا المنع فكان جزاؤها "البكم"، ولم ينطلق لسانها إلا بعد أن اعترفت بذنبها . بعد هذا كله يمكن طرح السؤال التالي: ما معنى منع الولوج إلى الغرفة الوحيدة والمحرمة؟ وهل يختلف المعنى بين أسطورة أونامير والحكايتين السابقتين، حيث نجد أن الخرق في الحالة الأولى تم على يد الأم، بينما الخرق في الحالة الثانية تم من لدن الزوجة والبنت في سن الخامسة عشرة، هذه المتون السردية تتفق في شيء واحد وهو المنع والخرق من لدن الأنثى البطلة لا البطل الرجل! بينما المنع يتولاه الرجل! وهذه التفاصيل تدل على أن العقلية الثقافية تختلف من بيئة إلى أخرى ولا قيمة لها من حيث المنحى الدلالي العام على نفسية الشعوب في كل الأزمان والأمكنة، وهذه النفسية هي التي يمكن اعتبارها مركزية بالنسبة للدلالة على أعماق النفس البشرية، وأن مركزية الحضارة مجرد أكذوبة ولغو عنصري وخرافي! بعد هذا الاستطراد – الذي اعتبره ضروريا وليس حشوا من وجهة نظري – اطرح مرة أخرى السؤال التالي: لماذا لا تريد زوجة أونامير أن تكتشف الأم سر مسكنها؟ لم تتمكن الأم من الولوج إلا بعد أن تمكنت من المفتاح، والمفتاح رمز للإغلاق والفتح، وهو لدى علماء النفس رمز للفالوس أو القضيب الرمزي، وتمكن الأم منه لا يعني أنها امتلكت الفالوس فعليا، بل تملكته على مستوى الفانطازم، على أنني أؤمن بأن الفالوس الرمزي يعني رغبة الأم أو الأنثى في تملك ما يعنيه من القوة والهيمنة الذكورية، وهذا على رأي كبار علماء التحليل النفسي، ولا غرابة في هذا التحليل طالما أن كل إنسان فينا يحمل بذور "الأنيما" و"الأنيموس" بالمعنى اليونج، أي أننا نحمل عناصر ذكورية وأنثوية، وقد يتغلب أحد العنصرين على الآخر، وهذا ما نلمسه في حياتنا اليومية حيث يتشبه بعض الرجال بالأنثى وتتشبه الإناث بالرجال، والتاريخ الإنساني لا يخلو من هذه الظاهرة، والمقام لا يسمح بالتفاصيل!! لأن الأم وهي تتلصص من أجل الوصول إلى زوجة الابن، هذا دليل على أنها رجعت إلى عقدتها الأوديبية والرغبة في زنا المحارم ولو على مستوى الفانطازم والتوهم، خاصة وأن المفتاح ليس رمزا للفالوس فحسب، ولكنه يحمل دلالة "جنسية" وهذا ما ذهب إليه برونو بتلهيم في دراسته المشار إليه آنفا ، إنها لم تستطع فراق ابنها، أو أن تنافسها زوجة ابنها التي أحست بأنها خدعت، وأن شرطها أصبح لاغيا لذلك انخرطت في البكاء المدرار، وحتى أنه أصبح شبيها بالموجة التي غطت الغرفة ومعها البطل والبطل حتى كادا أن يغرقا، وهذه الدموع – الدماء ألا يمكن أن تذكرنا بوضعنا الجنيني في بطن الأم حيث السباحة في مياه الرحم؟ هذا مجرد افتراض ولا يمكن أن يرقى إلى مستوى النظرية، أو إلى تأويل نهائي، فهذا لا يتأتى للناقد الذي مجاله هو العلوم الإنسانية!! وما سبب هذا الفيض من الدموع، أي ما أبكى هذين البطلين؟ من الطبيعي أننا في حياتنا يحتفظ كل منا بسره أو بأسراره، بمعنى أن "الحميمية" (l’intimité) أو الحياة الخاصة شيء مقدس يخصنا كأفراد، وبموجبها نتميز ونشعر بذواتنا ولا نريد من الآخر أن يشاركنا فيها ونتجنب اطلاعه عليها، إن هذه الحميمية مفهوم معقد ولا يمكن أن تكون الافضاء "خاصا" (espace privé) لا يمكن أن يخضع للعرض "الفاضح"، وبصورة موجزة فإن هذه الحميمية تخلق مسافة بيني وبين الآخر، وذلك حتى اتميز عنه وأشعر بأنني "كما أنا"، شعورا يتضمن صون ذاتي أو احترامها . ومن هنا فإن من مساوئ الأنظمة الاستبدادية الكبرى هو التجسس على الأفراد واختراق محارب ذواتهم، مما يجعل الأشخاص خارج ذواتهم حيث لم يعودوا يمتلكونها!! حينما انكشف الغطاء على "الفضاء الداخلي" للبطلة، كان لا بد من ضرورة العمل على استعادته وذلك عبر الطيران عن طريق تحولها إلى يمامة، والالتحاق بالفضاء السماوي، مقابل الفضاء الأرضي "الموحش". وأما أونامير فلم يجد من حيلة أمام هذا الموقف الطارئ إلا أن يسلك مسلك معشوقته، أي الطيران عن طريق "النسر"، النسر هنا مقابل اليمامة، الذكر مقابل الأنثى، القوة مقابل الأنوثة، وهذا جانب لم أتوقف عنده في هذا المقام. في بداية الأسطورة رأينا أن الأم أرادت التهام ابنتها والشرب من دمها، وقلنا في تأويلنا، أن هذا دليل على الارتداد إلى المرحلة "الفموية" بالمعنى الفرويدي، ولكني الآن أعتقد أنه من الخطأ أن يقف التأويل عند جانب واحد من الموضوع، وإلا فإننا قد نتجاوز النص إلى التنظير الناجم عن تفضيل النظرية على حساب واقع النص الإبداعي، هل هذا يعتبر تناقضا في موقفي النقدي؟ كلا، لأنني أروم الربط بين أجزاء النص السردي، وهذا الربط هو الذي يدفعني إلى محاولة الاستفادة من كل المواقف التأويلية لدى علمين بارزين في مجال التحليل النفسي أعني: فرويد ويونج! فالأول يقول: "إننا في الأصل لم نعرف غير الموضوعات الجنسية" « Originairement nous n’avons connu que des objets sexuels » والثاني يرد: "ونحن نادرا ما نعرف أن النهدين مرضعان" . وإذن فنحن هنا أمام موقفين نقديين لا أقول أنهما متناقضان، ولكن متباعدان، أو إن شئت متكاملان، وفي الوقت نفسه نجد في النص بنيتن سرديتين متشابهتين إذا نفذنا إلى عمقهما الرمزي، فالأم تأكل ابنتها، والنسر الذي يقل أونامير إلى السموات السبع بحثا عن معشوقته، يلتهم أجزاء من لحم الفرس الذي ضحى به أونامير نزولا عند رغبة النسر. فما العلاقة بين هذين الطرفين؟ فرويد قد يقول لنا أن غيرة الأم من ابنتها تنتهي إلى الموضوع الجنسي، وأما يونج فيجيب بأن مصادر المتعة متنوعة ولا يمكن حصرها في الرغبة الجنسية، فالطفل حينما يرضع من ثديي أمه يحس بنشوة الرضاعة (أي التغذي)، وتحريم زنا المحارم هو ضرورة اجتماعية قبل أن يكون ضرورة جنسية – من هنا فإن ما تفكر فيه الأم الغيورة وما يلتهم النسر من لحم الفرس لا علاقة له بالدافع الجنسي، بل بنشوة التغذية، في رحلة أونامير إلى السموات السبع وبقاء أمه خلفه، بمعنى أن أونامير يريد التخلص من أمه التي يعتبر ميل الطفل إليها تاويا في لا شعورنا، ومن هنا نفهم سر التضحية بالفرس الذي اعتبره يونج رمزا للأم واللاشعور (من خلال دراسته بعض الأساطير légendes) ، إن البطل أونامير يوجد هنا في موقف حرج، فهو قد أصبح فريسة اللاشعور والشعور، هو بين التعلق بالأم والتعلق بالمعشوقة، اللحظة الأولى قد يتم تجاوزها بشكل عارض، ولكن سرعان ما يمر بمرحلة النكوص والارتداد إلى الرحم الأول، وهذا ما يتجلى في التضحية بنفسه من خلال قذف نفسه من أعالي ليفدي بقطرة دمه أمه التي استجاب لها في رغبتها في إنجاز الأضحية، وهذه التضحية الكبرى، أما التضحية بالفرس، بل والتخلي عن أبويه (حيث نجد أن ابنه من عشيقته صرح له بنبوته من دون الكائن الذي تزوج بأمه!)، فتضحية عابرة ولا تصمد امام جبروت الميل إلى الأم، أي امام اللاشعور الطافح برغباتنا الطفلية. هنا يحق لنا القول، أن أسطورة أونامير، أسطورة أوديبية ولكنها تخلو من العقدة الأوديبية بالمعنى الحرفي!! قد ينهض اعتراض (واعتبره اعتراضا وجيها) ضد هذا التحليل على اعتبار أن أونامير الأب تخلى عن ابنه، كما أراد لايوس التخلص من ابنه أوديب! والارتباط في الوقت نفسه بأمه، لكننا يجب أن نعرف أن الأم في الثقافة الأمازيغية، والأرض شخصية واحدة، كلاهما أم بيولوجية، ففي رواية المرحوم "ابزيكا" Abzigue أن قطرة الدم هوت إلى الأرض وسقطت في الوقت نفسه على عنق "الكبش"، وفي رواية "طوبر" Topper ان أصابع أونامير حينما ارتطمت بصخرة، تدفق منها ينبوع من المياه، والمياه رمز لحياة الأرض، هنا نجد أن أونامير تحول من أوديب إلى قديس! كما تحولت الأم من حالة بيولوجية إلى أم رمزية!! قد يلاحظ القارئ أن هناك تناقضا في تحليلي، ذلك أنني أشرت سابقا إلى العلاقة الوطيدة بين البنت وأبيها الذي انقذها من القتل الذي اشتهته أمها، مما يعني وجود حالة أوديبية واضحة. نعم لازلت على هذا الرأي على الرغم مما قلته في هذه الأسطر الأخيرة، ذلك بأني أومن بأن الإنسان أو بالأحرى بنيته النفسية عبارة عن بنية ذات طوابق ومسارات عدة، فالإنسان في هذه الحالة أشبه بالطفل الذي إن وضعت أمامه جملة من اللعب، فإنه لا يكتفي بواحدة منها، بل أنه يتلاعب بها دفعة واحدة، وهذا ما أشارت إليه ماري لويز فرانز في الدراسة التي أشرت إليها آنفا! فلا غرو ان تنوعت علاقات أونامير بأمه ثم امرأته، ثم ابنه، ثم ارضه. وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن العلاقة بالأرض هي المبتدأ والخبر !
#موسى_أغربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سعيد يقطين والعنف العروبي
-
الحركة الأمازيغية: أي مشروع سياسي
-
سيظل شبح عبد الكريم يطاردكم
-
في زمن الرداءة تتناسل جحافل القطعان
المزيد.....
-
ماذا قالت إيران عن سبب انفجار ميناء -رجائي-؟
-
الأمين العام لحزب الله: الغارات الإسرائيلية هدفها الضغط السي
...
-
محلل سابق في البنتاغون: هدنة الرئيس بوتين في مايو تعكس سعيه
...
-
فيليبو: ماكرون وحلفاؤه الأوروبيون يصعدون الوضع حول أوكرانيا
...
-
نائب أوكراني: أوروبا تعرقل مفاوضات السلام بشأن أوكرانيا لتحق
...
-
هدنة عيد النصر.. رسائل السلام الروسية
-
شومر: مضت 100 يوم من -الجحيم- مع ترامب.. والأسوأ لم يأت بعد
...
-
محلل هولندي: صنع السلام ليس خيارا بالنسبة لزيلينسكي
-
ترامب يصف نتائج عمل أول 100 يوم من رئاسته بـ -التاريخية-
-
مصدران أمنيان مصريان: تقدم كبير بمفاوضات وقف إطلاق النار في
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|