رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 21:58
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
إن مراجعة مجلّة الشّغل ليست مجرّد إصلاح تقني للقوانين، بل هي تعبير عن ميزان القوى في الصّراع الطّبقي بين رأس المال والعمل. ففي ظلّ هيمنة النيوليبرالية على السّياسات الاقتصادية، تُستخدم التعديلات القانونية كأدوات لإعادة تشكيل علاقات الإنتاج بما يخدم مصالح رأس المال، عبر تكريس الهشاشة التشغيلية، وتفكيك أيّ ضمانات اجتماعية تحمي العمّال من البطالة والفقر.
أولًا: مشروع القانون – خدمة الرأسمال على حساب استقرار العمال.
يقدّم مشروع القانون بوصفه خطوة نحو تنظيم سوق الشّغل، لكنّه في جوهره محاولة لتوسيع هامش استغلال العمّال وتقنين التسريح السّريع، ممّا يحوّل الأجير إلى سلعة قابلة للتبديل في أي لحظة.
1. من ضرب الترسيم إلى تقنين هشاشة التشغيل:
قبل هذا التعديل، كان رأس المال يلتفّ على القوانين عبر تشغيل العمّال بعقود محدّدة المدّة لأربع سنوات كحدّ اقصى ، ثمّ يتخلّص منهم قبل أن يحصلوا على حق الترسيم حسب قانون الشّغل السّاري المفعول . أمّا الآن، بموجب هذا المشروع ، أصبحت عمليّة التسريح أكثر سرعة ومرونة، حيث يكفي عام واحد فقط (فترة التجربة) لإنهاء عقد العامل دون أيّ التزامات.
هذا التعديل ليس إلّا تحويل التّشغيل من علاقة تعاقدية شبه مستقرة إلى علاقة تعاقدية هشّة و غير مستقّرة بالمرّة، تجعل من العامل مجرّد رقم في حسابات المشغل، يتمّ استبداله بمجرد انخفاض الطّلب أو تحقيق المؤسسة لأقصى قدر من الأرباح.
2. منع المناولة: خطوة فارغة دون ضمانات حقيقية.
يبدو منع مناولة اليد العاملة كإجراء تقدّمي، لكنّه في الحقيقة لا يقدم ضمانات واضحة تحمي العمّال من الأشكال الأخرى للاستغلال، مثل عقود إسداء الخدمات، التي قد تتحوّل إلى مناولة مقنّعة. ففي ظل غياب رقابة صارمة، سيجد رأس المال دائما وسائل للتحايل على أي نص قانوني يمنع التشغيل الهشّ، ممّا يعني أنّ هذه الخطوة قد تبقى شكليّة إذا لم تُرفق بآليات صارمة تضمن اندماج العمّال المسرّحين في وظائف مستقرّة ودائمة.
3. الغياب التّام للحماية الاجتماعيّة: دليل على انحياز الدولة لرأس المال
أخطر ما في مشروع القانون هو أنّه يسهّل تسريح العمّال دون تقديم أي ضمانات اجتماعية لهم. فمن يُسرّح اليوم يجد نفسه في مواجهة البطالة دون أي دعم من الدّولة، ممّا يعكس جوهر الرّؤية النيوليبرالية التي ترى في الدّولة مجرّد خادم لرأس المال، بدلا من أن تكون أداة لحماية الفئات الشعبيّة.
إن أي إصلاح جاد يجب أن يتضمن:
-إقرار منحة بطالة للعامل المسرّح، تضمن له الحدّ الأدنى من العيش الكريم حتى يجد عملا جديدا.
-توفير التّغطية الصحيّة المجانية للعاطلين وأسرهم، إذ أن فقدان العمل لا يجب أن يعني فقدان الحقّ في العلاج في المشافي العمومية.
إنشاء برامج تأهيل مجانيّة للعاطلين، لضمان إعادة إدماجهم في سوق الشّغل.
إن غياب هذه الضّمانات يجعل من مشروع القانون وسيلة لتدمير ما تبقى من الأمان الوظيفي، ودفع العمّال نحو قبول أيّ شروط عمل مجحفة، خوفا من فقدان مصدر رزقهم دون أي شبكة أمان.
ثانيًا: الاتّحاد العام التّونسي للشّغل – مقاومة التوجّه النيوليبرالي للدّولة.
في مواجهة هذا الهجوم على حقوق العمّال، يدافع الاتّحاد العام التونسي للشّغل عن رؤية أكثر انسجاما مع مصالح الطّبقة العاملة، ترتكز على رفض التّشغيل الهشّ، وتكريس الحماية الاجتماعيّة، وتعزيز دور النّقابات كحائط صدّ ضد تغوّل رأس المال.
1. رفض تمديد الهشاشة عبر العقود قصيرة المدى.
يدرك الاتّحاد أن تشغيل العمّال بعقود مؤقّتة ليس مجرّد مسألة إدارية، بل هو تكتيك رأسمالي لضرب أيّ إمكانية لتنظيم الطّبقة العاملة. فالعامل الذي يخشى فقدان وظيفته في أيّ لحظة لا يستطيع الانخراط في العمل النّقابي، ولا يملك القوّة للمطالبة بحقوقه.
لهذا السّبب، يرفض الاتّحاد تمديد فترة التّجربة ، و دمجها لعقد شغل ، إلى عام، ويدعو إلى ضبطها ضمن معايير واضحة تحمي العامل من التّسريح التعسّفي.
كما يدعو إلى إلغاء العقود محدّدة المدّة إلا في حالات استثنائية، وإجبار المؤسسات على منح العمال استقرارا وظيفيا.
2. تعزيز الحقوق النّقابية لمواجهة تغوّل رأس المال.
إن تفكيك الضّمانات القانونيّة للعامل يرافقه دائما هجوما على الحقّ النقابي، ولهذا يشدّد الاتحاد على ضرورة:
-حماية النّقابيين من أي تضييقات أو تسريح تعسّفي.
-تكريس الحقّ في الإضراب باعتباره سلاحا أساسيا في مواجهة قرارات التشغيل المجحفة.
-فرض التفاوض الاجماعي كآلية ملزمة للمشغّلين، لضمان توزيع أكثر عدالة للثّروة داخل المؤسّسة.
ثالثًا: الصّراع الطّبقي في خلفية مشروع القانون – أي مستقبل للطّبقة العاملة؟.
إن المقارنة بين مشروع القانون وقراءة الاتّحاد العام التّونسي للشّغل تكشف عن تباين جوهري في الرؤية:
الدّولة، تحت ضغط المؤسّسات المالية الدّولية، تتّجه نحو تكريس سياسات التّشغيل المرن، التي تخدم المشغّلين وتضعف العمّال.
الاتّحاد يدافع عن استقرار العمّال وحقوقهم الاجتماعيّة، في مواجهة موجة الليبرالية المتوحّشة التي تحاول تحويلهم إلى أدوات إنتاج بلا حقوق.
السّؤال الحقيقي هنا ليس مجرد مراجعة مجلّة الشّغل، بل يتعلّق بمستقبل علاقات العمل في تونس:
هل نريد سوق عمل قائما على التّشغيل الدّائم والاستقرار، حيث يملك العامل القدرة على التّخطيط لحياته والمساهمة في الاقتصاد بشكل مستدام؟
أم نريد سوق عمل نيوليبرالي، حيث يُعامل العمّال كسلع قابلة للاستبدال، دون أيّ ضمانات اجتماعيّة؟.
إنّ الرّهان اليوم هو بين نموذجين متناقضين:
-نموذج نيوليبرالي يُحوّل العامل إلى كائن هشّ، يعيش تحت تهديد دائم بفقدان وظيفته، دون أيّ حماية اجتماعيّة.
-ونموذج اشتراكي ديمقراطي، يضع الحماية الاجتماعيّة كأولويّة، ويرى في التشغيل المستقر حقا وليس امتيازا.
في ظلّ هذا الصّراع، يصبح دور النّقابات والقوى التقدّمية محوريا في مواجهة هذا التوجّه، ليس فقط عبر رفض تعديلات مجلّة الشّغل، بل عبر المطالبة بإعادة هيكلة الاقتصاد بشكل يخدم مصالح الطّبقات الشعبيّة، بدل أن يكون مجرد امتداد لهيمنة رأس المال.
إنّ أيّ حديث عن إصلاح مجلّة الشّغل يظلّ ناقصا إذا لم يتضمن:
-إقرار منحة بطالة للعاطلين، لمنع تدهور أوضاعهم المعيشيّة.
-تغطية صحيّة مجانية للعاطلين وعائلاتهم، لضمان الحقّ في العلاج.
-سياسات تشغيل قائمة على الاستقرار وليس العقود قصيرة المدى.
إن تجاهل هذه النقاط يكشف أن ما يُسمّى "إصلاحا" ليس إلا مشروعا لتسليع العمل وضرب مكتسبات العمّال. إنّ الدّفاع عن حقوق الطّبقة العاملة اليوم ليس مجرّد مطلب نقابي، بل هو معركة سياسيّة ضدّ التوجّه النيوليبرالي الذي يسعى لتحويل تونس إلى سوق عمل مفتوح، حيث يصبح الإنسان مجرّد رقم في معادلة الرّبح والخسارة.
إن الحماية الاجتماعيّة ليست مِنّة، بل هي حقّ، والنّضال من أجلها يجب أن يكون في صلب كلّ معركة ضد الرأسمالية المتوحشة.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟