خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 19:40
المحور:
الادب والفن
عاد سامان إلى مدينته حاملاً ذكريات أيامه الجامعية المليئة بالبساطة والجمال، ليكتشف لاحقاً أن الحياة في المجتمع أشبه بساحة صراع، تختلط فيها الوجوه والأقنعة، مثلما يمتزج الصدق بالرياء. بينما يكفي في الحب قلبان صادقان لينموا. في الحياة كم تتعثر و النفوس الطيبة والأرواح النقية ، وسط الخداع والمصالح. أدرك سامان أن حلم البشرية بحياة مزدهرة وآمنة لا يزال بعيد المنال، لأن السلام الحقيقي يحتاج إلى محبة صافية لا تبنيها إلا الأرواح النقية، وهي نادرة في عالم يطغى عليه الزيف والخذلان.
كان سامان من مدينة، بينما كانت الجامعة التي شهدت ولادة حبهما قائمة في مدينة أخرى، أما دينا فتنحدر من مدينة ثالثة، أكثر بعدا. ثلاثية جغرافية جعلت اللقاء بينهما يتطلب ترتيبات مضنية وجهدًا دؤوبا وإرادة صلبة، في مجتمع لا يمنح القلوب حريتها كما ينبغي، حتى لو كانت تحمل أنقى النوايا.
التحقت دينا في السنة الدراسية اللاحقة بجامعتها، بخطوات ثابتة مليئة بالامل نحو مستقبل واعد ينتظرها ، لكنها لم تشعر بالفرح كما كانت تتوقّع، طالما حبيبها بعيد عنها. أصبح اللقاء بينهما يأتي في كل فصل دراسي مرة او مرتين ، واضحى اللقاء عبر الاتصال بالهاتف المحمول فرصتهم الرئيسة ، بعيدا عن تلك النافذة التي لم تعد عند سامان واقعا سوى ذكرى يتصفح عبر الهاتف النقال صور لها جمعت بينه وبين دينا. ولكن بالنسبة لدينا غدت تلك النافذة مزارا مقدّسًا، تزورها كل ما داهمها الحنين لسامان، وبعدها تجد في زغاريد الطيور وزقزقة العصافير سلوى لها.
وقفت دينا ظهر نهار اول يوم من ايام آذار في الفصل الدراسي الأخير لها قبالة تلك النافذة واتصلت بسامان وقالت له : احزر اين انا واقفة! ، وقبل ان يجاوبها إدارت شاشة هاتفها المحمول باتجاه النافذه ، عندها قالت له بنبرة لا تخلو من الشوق والقلق:
أما زلت تتذكر هذه النافذه وما يعنيه هذا اليوم ، وإذا كان ذلك ، فإنك تتذكرني ولا زلت على عهدك؟.
أجابها:
اسألي النافذة التي تقفين قبالتها ، فقد شهدت سنين على ذلك.ولكن اقول لك ان حبي لك قد تضاعف. اتعرفين ان البعد يحرك المشاعر أكثر و يزيد من لهيب العواطف.
في نهاية تلك السنة الدراسية تخرجت دينا، وحضر سامان حفل تخرجها وقدم لها هدية مناسبة ، عندها نظرت إليه دينا وقالت له إن هديتي الكبرى التي انتظرها هي انت ، يكفيني حضورك الذي جعلني اشعر ان الدنيا كلها تشاركني في فرح تخرجي واقتراب ذلك اليوم الذي نعيش فيه مع بعض.
بدأ سامان بعد تخرّجه رحلة البحث عن عمل دون جدوى ، يطرق الأبواب ويجمع الأمل بين الرفض والانتظار. تمكن بعد سنة من العمل بأجر يومي بسيط في مهنة لا تتناسب مع تخصصه كمهندس ، ولكن قبل بها ، على أمل أن تتوفر فرصة أفضل. بقي في عمله هذا مدة تجاوزت الثلاث سنوات ، لم يتمكن خلالها من توفير أي مبلغ يستطيع به عقد خطوبته ، في وقت ينتظر منه أن يساعد أباه في نفقات معيشة العائلة.
ذات يوم اتصل سامان بدينا ونظر إليها طويلًا عبر شاشة الهاتف، وقال مؤكدا على تساؤل بدر منها :
لو كان الحب يُقاس بالزمن، لكنتُ أحببتك ألف عمر. لكنّ الحب الحقيقي يُقاس بالثبات، وأنا ثابت كجذع شجرة في مهبّ العواصف.
ابتسمت دينا ، لكنها لم تُخفِ قلقها، وأضافت، لتؤكّد ما يختلج في قلبها:
العواصف كثيرة يا سامان : قلة فرص العمل، الأهل، المجتمع، المال، الزمن، العادات والأعراف. ومع أن الحب يتجاوز كل ذلك، فإن كل شيء قد يوظَّف نفسه لمنعه من أن يُثمر.
أجابها بصوت واثق من نفسه يحمل قلقا من عبارتها الاخيرة:
سأصارع كل ما ذكرتِيه من أجلك. لكن إن ضعفتِ أنتِ، فامنحيني فرصة لأسافر إليك، وأُذكّرك أيَّ عاشقين كنّا، ولا زلنا، وبماذا تواعدنا معا ، وإذا كان وعد الحر دين كما يقال ، فوعد العاشقين مرسوم على الجبين ، كما يفترض.
أثناء حديثه معها، انسلت دمعة صامتة على خدّها. مدّ يده لا شعوريا ليمسحها، لكنه ما لبث أن أدوك أنه يراها عبر شاشة هاتفه المحمول.
عندها ارتسمت ابتسامة خفيفة على خدي دينا المبلّلين بالدموع.
وسرعان ما ابتسم هو الآخر ، وقال لها : ابتسمي ، فالبسمة لا تليق الا على قسمات وجهك الوضاء
اجابته بصوت خافت، ولا تزال دمعتها تنساب برقة:
لم نكن مجرد عاشقين... كنّا ولا نزال نعيد اختراع الحب كلّ يوم.
ثم أضافت، بثبات يختلط بالشجن:
لن أضعف... كل ما أريده منك أن تبقى على تواصل معي ، ففي تواصلك يهدأ شوقي ويزداد صبري.
في الأول من كانون الثاني من العام الجديد ، أُتيحت لهما فرصة للقاء. هناك، جدّد عهده لها بالخطوبة، واعدا أن يتم ذلك بمجرد أن تتوفر له فرصة عمل افضل ، تمكنه من توفير مستلزمات ذلك. تكرر اللقاء عند قيامها مع عائلتها بسفرة سياحية لمدة اسبوع تنقلت العائلة خلالها في مختلف مصايف محافظته قبل ان تعود الى احد الفنادق السياحية في مدينته للراحة والمبيت ، عصر كل يوم من أيام هذه السفرة.
دارت الايام ، واحتل الأشرار الدواعش بعد اشهر مدينة دينا ، فاضطُرّت عائلتها إلى الهرب تاركين كل شيء ، لينجوا بحياتهم. استقرّت العائلة في مدينة حبيبها طلبا للأمان، واستأجر والدها شقة سكنية في أحد المجمعات الجديدة ، قبل أن يتمكن والدها من استئجار دارا صغيرا في أحد أحيائها القريبة من سفح الجبل المطل على مجرى الماء الرئيسي المنحدر عبر ذلك الوادي الذي يفصل هذا الجبل عن شقه الثاني. وقع اختيار والدها لهذا الدار لقربه من مدرسة ابتدائية للنازحين ، تمكن ابنه وابنته الصغرى من مباشرة دراستهما فيها دون الحاجة إلى وسيلة نقل ، مثلما نسب نفسه إليها كونه معلما.
كم كانت فرحة سامان كبيرة عندما علم بنجاة دينا وعاىلتها ونزوحهم إلى مدينته. لمست دينا ذلك بوضوح في أول لقاء بينهما، فمازحته قائلة :
من الواضح أن مصائب قوم عند قوم فوائد!
أجابها:
بل هي مصيبتنا جميعا مع الإرهاب. أن الاعتداء الآثم الذي طال الأقليات على أساس الهوية الدينية تجاوز كل القيم والمعايير الإنسانية ، حينما انتهك هؤلاء الأشرار كل المعايير الاخلاقية بسبي النساء.
-يبقى ما ارتكبه هؤلاء الاشرار الدواعش من جرائم وصمة عار لا تمحى من جبينهم، وستظل تلاحق كل من تورط أو أسهم معهم في تلك الفظائع او وقف صامتا متفرجا وبين يديه الكثير ليفعله. وسيسجل التاريخ أن ذلك حدث على أرض وطننا، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
-ألا ترين أن الحياة قد توقفت في مفاصل الدولة من أجل التفرغ لاحتواء الازمة وتحرير مناطقكم ككل من دنس هؤلاء الاشرار، والقضاء عليهم.
إجابته دينا بتنهيدة حزينة:
هذا أملنا جميعا بالخلاص منهم وعودة هذه الأعداد الهائلة من النازحين إلى مناطقها. ولكن متى يكون ذلك!.
اجابها سامان في محاولة منه لتخفيف وقع ما جرى:
ولكن ستبقين انت هنا معي ، بعد ان اتمكن قريبا من توفير مستلزمات عرسنا، ليضمنا عش واحد ، كتلك العصافير التي كانت تتردد على نافذتنا ايام الجامعة ، وتغرد فرحة بنا وبنفسها.
-الاهم عندي حاليا زوال هذه الغيمة السوداء التي أطلقها من يحملون قلوبا متحجره ، بلا رحمة ولا ضمير. يبقى زواجنا مهمتنا الخاصة ويكفينا بياض قلبينا وما تحملانه من محبة صادقة فاضت لتسع كل الطيبين.
ـكيف هو وضع عائلتكم واعذريني انني لم اتمكن من تقديم ما يعينكم على تجاوز الازمة.
ـاقدر وضعك. ان وقع النزوح وتبعاته تركت اثرا كبيرا على صحة والدتي ، واقوم حاليا بكل مهامها البيتية ولولا ذلك ، لبحث انا ايضا عن فرصة عمل ، اعين بها والدي.
هكذا أصبح بمقدور سامان أن يلتقي دينا بين فترة واخرى. وكثيرا ما كان المتنزه القريب من دارها محطّ لقاءاتهما الأسبوعية، حيث تبادلا الغرام، وتجديد آمال زواجهما. كانا يتنقلان في حدائق المنتزه، غير مبالين بنظرات بعض الزوار، التي كانت ،رغم فضول القليل منهم ، محط تقدير واحترام كبيرين من البقية الذين كان اغلبهم أفراد عائلات الدور المجاورة للمتنزه، التي كانت تجد هي الاخرى في المجيء المتنزه ، فرصة لتغيير أجوائها.
غير أن تلك اللقاءات الاسبوعية بدأت تتحول إلى شهرية ، بسبب انشغال سامان بعمله الجديد كمهندس في شركة تعنى ببناء مخيمات للنازحين وتوفير ما يستلزم لذلك من مشاريع ماء وكهرباء وغير ذلك في مناطق كثيرة من محافظته ومحافظات أخرى. بعدها بثلاثة اشهر انتقل إلى شركة ثانية مكلفة بإنشاء مدينة سكنية في إحدى المدن البعيدة عن مدينته. كانت فرصة العمل فيها مغرية ، بأجر شهري جيد جدا لم يحلم به ، رغم ابتعاده عن اهله و دينا و اضطراره للسكن في كرفانات متنقلة أعدّتها تلك الشركة.
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟