عبد النور إدريس
كاتب
(Abdennour Driss)
الحوار المتمدن-العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 08:38
المحور:
الادب والفن
تتناول هذه المقالة ،التحول الذي شهدته المرأة في العصر الرقمي من خلال مقارنة "أنثى التيك توك" بشهرزاد. تستخدم "أنثى التيك توك" أدوات رقمية وسرداً بصرياً قصيراً لمقاومة النسيان وإعادة تشكيل هويتها. بينما كانت شهرزاد تجسد مقاومة نسوية عبر السرد الطويل، فإن "أنثى التيك توك" تمثل صوتاً جمعياً يسيطر على الزمن الرقمي ويعيد صياغة الذات في عالم سريع الإيقاع.
مقدمة: تتشكيل الذات الأنثوية الرقمية:من تقاطعات السرد، الأداء، ونظرية الجندر في فضاء التيك توك اوفي منعطف حاسم من تاريخ السرد الإنساني، حيث تتداخل الوسائط الرقمية مع البنى الاجتماعية والثقافية، تبرز منصة تيك توك كحقل ديناميكي لإعادة تعريف الذات الأنثوية. تستلهم هذه المقالة من التراث السردي العريق لشخصية شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، التي وظفت الحكي وسيلة للبقاء وإعادة تشكيل وعي السلطة الذكورية، ولتقديم قراءة تحليلية معاصرة لظاهرة "أنثى التيك توك". هنا، لا يتعلق الأمر بمجرد امتداد رقمي للسرد التقليدي، بل بتحول جذري في آليات التعبير عن الذات، وتفكيك الصور النمطية للجندر، وإعادة بنائها في فضاء افتراضي تحكمه الخوارزميات وتتشكل ملامحه بتفاعلات المستخدمين.
بالاستناد إلى نظرية الجندر التي ترى أن الجندر ليس مجرد حقيقة بيولوجية بل بناء اجتماعي وثقافي مُركَّب (Butler, 1990 de Beauvoir, 1949)، تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك الكيفية التي يتم بها أداء "الأنوثة" على منصة تيك توك. فمن خلال العدسات الرقمية والفلاتر والموسيقى، لا تقوم المستخدمات بتقديم ذواتهن فحسب، بل يقمن أيضًا بتحدي وإعادة صياغة التمثيلات التقليدية للأنوثة التي طالما هيمنت على الخطابات الثقافية. هذا الأداء الرقمي للذات الأنثوية يتقاطع مع مفاهيم ما بعد الحداثة التي تؤكد على سيولة الهويات وتفكيك الثنائيات البنيوية (Derrida, 1978 Lyotard, 1984)، حيث يصبح الجندر نفسه موضوعًا للأداء والتفكيك وإعادة التركيب المستمر في هذا الفضاء الرقمي. كما أن فكرة "الجندر كأداء" عند جوديث بتلر (Butler, 1990) تجد تجليًا واضحًا في هذه المنصة، حيث يتم إنتاج الهويات الجندرية والحفاظ عليها من خلال سلسلة من الأفعال والعروض المتكررة.
علاوة على ذلك، تستكشف هذه المقالة كيف أن "أنثى التيك توك" لا تعمل في فراغ، بل ضمن ما يمكن تسميته بـ "المصفوفة الافتراضية" (مصطلح مستعار من أعمال بودريار في وصف الواقع الفائق [Baudrillard, 1981])، وهي بنية تكنولوجية واجتماعية وثقافية لها قوانينها الخاصة التي تؤثر بشكل عميق على تشكيل الهويات الجندرية. في هذا السياق، يصبح فهم دور الخوارزميات ليس فقط كأدوات، بل كجهات فاعلة ضمن هذه المصفوفة، أمرًا بالغ الأهمية. فهل تعيد هذه الخوارزميات إنتاج الصور النمطية للجندر أم أنها تفتح آفاقًا جديدة للتعبير عن الذات الأنثوية وتحررها من القيود التقليدية؟ هنا، يمكن الاستعانة بمفهوم "التحديد التكنولوجي" (Technological Determinism) ونقده، لفهم كيف أن التكنولوجيا ليست قوة محايدة بل تتشكل بتفاعلات اجتماعية وثقافية وتؤثر فيها (Winner, 1986).
من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن التساؤلات التالية: كيف تعيد "أنثى التيك توك" صياغة السرد الأنثوي في الفضاء الرقمي؟ ما هي الآليات التي تستخدمها لتفكيك وإعادة بناء الصور النمطية للجندر من خلال أدائها البصري والرقمي؟ كيف يساهم مفهوم "السرد الجمعي" في تشكيل هوية رقمية نسوية جديدة؟ وفي نهاية المطاف، كيف يمكننا فهم هذه الظاهرة في إطار نظريات الجندر المعاصرة والفلسفة النقدية لما بعد الحداثة، بالإضافة إلى فلسفة التكنولوجيا التي تتناول العلاقة المعقدة بين الإنسان والتكنولوجيا وتأثيرها على الوجود والهوية (Heidegger, 1977)? من خلال تحليل هذه التقاطعات، تسعى هذه المقالة إلى تقديم رؤية معمقة لتجليات الأنوثة في العصر الرقمي وتأثيرها على مفاهيمنا التقليدية للجندر والذات.
1. شهرزاد التقليدية: من السرد للخلاص إلى الهيمنة على الزمن كسلطة معرفية
شهرزاد في ألف ليلة وليلة لم تكن مجرد راوية قصص؛ كانت تجسيدًا لمقاومة نسوية استراتيجية. من خلال الحكاية المستمرة، وظفت السرد ليس فقط لتجنب الموت، بل لإعادة تشكيل وعي شهريار الذكوري المتعطش للانتقام. هذه العملية السردية استندت إلى عنصر التشويق والتلاعب الزمني، حيث سيطرت شهرزاد على الزمن من خلال تأجيل النهاية واستدعاء الماضي والحاضر في نسق حكائي متداخل. هذه الهيمنة على الزمن كانت في جوهرها سيطرة على السلطة المعرفية، حيث فرضت منطقها ورؤيتها للعالم على وعي الملك، مما يجسد مفهوم "السلطة والمعرفة" عند ميشيل فوكو (Foucault, 1977)، حيث يتشابك امتلاك المعرفة مع ممارسة السلطة.
2. أنثى التيك توك: إعادة صياغة السرد والذات في مصفوفة رقمية مُشَكِّلة للجندر
في عالم التيك توك، تنطلق "أنثى التيك توك" من دافع مماثل لفرض الذات، لكنها تستخدم أدوات رقمية وسرداً بصرياً قصيراً يندمج مع إيقاع سريع يخضع لقوانين الخوارزمية. هذه الخوارزميات، التي غالبًا ما تُعتبر محايدة تقنيًا، تحمل في طياتها تحيزات ثقافية واجتماعية قد تُعيد إنتاج الصور النمطية للجندر أو حتى تُضخِّمها (O’Neil, 2016). عبر الفلترات، والموسيقى، والتحديات الفيروسية، لا تعيد المرأة الرقمية صياغة ذاتها فحسب، بل تُفكك أيضًا الصورة النمطية للأنوثة في فضاء يُعاد فيه باستمرار تعريف الجندر وتشكيله. هنا، يبرز مفهوم "الفضاء السيبراني والجندر" (Cybergender) كإطار تحليلي لفهم كيف يتم بناء وتفكيك الهويات الجندرية في هذا السياق الرقمي (Stone, 1995).
3. التفكيك وإعادة البناء: من الحكاية اللغوية إلى الأداء البصري الرقمي
كما كانت شهرزاد توظف السرد اللغوي كوسيلة للتأثير على وعي السلطان، فإن "أنثى التيك توك" توظف الأداء الجسدي والبصري، والرقص، والأغنية، والمونتاج السريع، لتجذب انتباه جمهور أوسع بكثير من جمهور شهريار. هذا الأداء لا يقتصر على التعبير عن الذات، بل يمتد ليشمل تحدي الصور النمطية للأنوثة في عالم افتراضي تحكمه الخوارزميات والتفاعل اللحظي. هذا التحول من الحكاية اللغوية إلى الأداء البصري الرقمي يعكس تحولًا في طرق التعبير عن الذات الأنثوية والتواصل مع الآخرين في العصر الرقمي، مؤكدًا على أهمية "الثقافة البصرية" في تشكيل الهويات المعاصرة (Mirzoeff, 1999).
4. من الهيمنة الزمنية إلى الهيمنة الرقمية: وعي نسوي جديد في فضاء معلوماتي سريع التدفق
شهرزاد سيطرت على الزمن السردي لضمان بقائها وتغيير وعي الملك، بينما تسيطر "أنثى التيك توك" على الزمن الرقمي من خلال التحكم في إيقاع الفيديوهات القصيرة واستغلال الانتشار الفيروسي لتحقيق حضور مستمر وتأثير واسع. هذه السيطرة على الزمن الرقمي تعكس وعياً نسوياً جديداً يسعى لفرض الذات في سياق عالمي يهيمن عليه التدفق المعلوماتي السريع. هذا الوعي يتجلى في استخدام المنصة ليس فقط للترفيه، بل للتعبير عن الآراء، ومشاركة الخبرات، وتحدي الأعراف الاجتماعية، مما يشير إلى ظهور "النسوية الرقمية" كحركة اجتماعية وسياسية تستخدم الفضاء الرقمي كأداة للتغيير (Haraway, 1991).
5. السرد الجمعي والهوية الرقمية: نحو نسوية رقمية تفاعلية
بينما كانت شهرزاد صوتاً فردياً، فإن "أنثى التيك توك" غالباً ما تمثل جزءاً من صوت جمعي يتجسد في التحديات الجماعية والمحتوى التفاعلي. هذا التحول من الفردي إلى الجمعي يعكس تطور السرد النسوي في العصر الرقمي، حيث تصبح الهوية الرقمية متشابكة مع المجتمع الافتراضي والمصفوفة الرقمية. هذه التحديات الجماعية يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال "النسوية الرقمية التفاعلية"، حيث تتشارك النساء تجاربهن وتدعمن بعضهن البعض في مواجهة التحديات والصور النمطية، مما يخلق شعورًا بالانتماء و "مجتمعات الممارسة الافتراضية" (Wenger, 1998).
خاتمة: نحو أنوثة رقمية مُتحررة ومُتحدية في فضاء مُعاد تصوره
إذا كانت شهرزاد قد حررت نفسها من الموت عبر السرد، فإن "أنثى التيك توك" تسعى لتحرير ذاتها من القوالب الاجتماعية عبر إعادة بناء هويتها في فضاء افتراضي، حيث تتحول الأنوثة إلى أداء متحرك يتحدى التوقعات المسبقة ويعيد تشكيل الواقع الرقمي. ومع ذلك، يجب أن نكون واعين للمخاطر المحتملة في هذا الفضاء، مثل الاستغلال والتسليع والتحيز الخوارزمي (Zuboff, 2019). إن تحليل تجليات "أنثى التيك توك" في إطار نظريات الجندر المعاصرة والفلسفة النقدية لما بعد الحداثة وفلسفة التكنولوجيا يساعدنا على فهم كيف يتم تفكيك وإعادة بناء مفاهيم الجندر في العصر الرقمي، وكيف يمكن للمرأة أن تستخدم هذه الأدوات ليس فقط للتعبير عن الذات، بل لتحدي الهيمنة الذكورية والمساهمة في تشكيل مستقبل أكثر مساواة في الفضاءين الواقعي والافتراضي على حد سواء.
قائمة المراجع:
* Baudrillard, J. (1981). Simulacra and simulation. University of Michigan Press.
* Butler, J. (1990). Gender trouble: Feminism and the subversion of identity. Routledge.
* De Beauvoir, S. (1949). The second sex. Vintage Books.
* Derrida, J. (1978). Writing and difference. University of Chicago Press.
* Foucault, M. (1977). Discipline and punish: The birth of the prison. Pantheon Books.
* Haraway, D. (1991). Simians, cyborgs, and women: The reinvention of nature. Routledge.
* Heidegger, M. (1977). The question concerning technology. In Basic writings (pp. 311-341). Harper Perennial Modern Classics.
* Lyotard, J.-F. (1984). The postmodern condition: A report on knowledge. University of Minnesota Press.
* Mirzoeff, N. (1999). An introduction to visual culture. Routledge.
* O’Neil, C. (2016). Weapons of math destruction: How big data increases inequality and threatens democracy. Crown.
* Stone, A. R. (1995). The war of desire and technology at the close of the mechanical age. MIT Press.
* Wenger, E. (1998). Communities of practice: Learning, meaning, and identity. Cambridge University Press.
* Winner, L. (1986). The whale and the reactor: A search for-limit-s in an age of high technology. University of Chicago Press.
* Zuboff, S. (2019). The age of surveillance capitalism: The fight for a human future at the new frontier of power. PublicAffairs.
#عبد_النور_إدريس (هاشتاغ)
Abdennour_Driss#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟