خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 21:14
المحور:
الادب والفن
وقع سامان في حب دينا من النظرة الأولى، حين كانا طالبين في الجامعة الواقعة في مدينة قريبة من مدينته . في يوم صادف بداية آذار من فصل ربيع تلك السنة ، خرج لتَوّه من إحدى المحاضرات، فإذا بها واقفة صدفة قبالته ، وسط مجموعة من زميلاتها طالبات الصف الثالث،
لمّا التقت عيناه بعينيها، شعر وكأن الزمن قد توقّف. عينان بلون العشب الأخضر المبلّل بندى الصباح، تشعّان نورا أصاب قلبه كسهم ، وأوقد فيه نارا لم يعرفها من قبل. في تلك اللحظة الخاطفة، تبادلا رسالة صامتة، كأنّ قلبيهما تآلفا قبل أن تنطق الشفاه تعبيرا عن حب وُلد من النظرة الأولى ، ساقته إليهما صدفة ومضة من قدر.
نظر إليها بانبهار: قوام ممشوق، وشَعر ذهبيّ تنسدل أطرافه على وجنتيها كأنوار تتزاحم حول نور مقدّس، تزيدها بهاءً وجاذبية، كأنّ ملائكة الحبّ قد نسجت ملامحها خصيصًا له.
في اليوم التالي وفي اول فترة استراحة بين المحاضرات بحث عنها ، وسرعان ما لمحها من بعيد ، و من دون مقدمات أو تردّد ، وجد طريقه إليها ليتعرف عليها. قدم نفسه مرتبكا ، قبل أن يلقي عليها تحية الصباح ، فاجابته باستحياء ، اهلا بصباح د.. ، عفوا انا دينا ، وسرعان ما رد عليها بصوت غاب عنه ارتباكه بعض الشيء: اهلا بصباح سامان. تواعدا بعدها على لقاء في نهاية محاضراتهما لذلك اليوم ، وكان ذلك في إحدى حدائق الجامعة ، تبادلا فيه كلمات الحب الأولى. وتكررت لقاءاتهما في الأيام التالية، لتغدو بعدها طقسا يوميا تعمقت معه مشاعرهم وترسخت ، حدا بات الفراق ليوم واحد عذابا لا يُحتمل.
كان سامان يسبق دينا بعام دراسي واحد في ذات القسم العلمي. تعودا بعد انتهاء المحاضرات ، ان يسرعان إلى نافذة تطل على فسحة تشكل منعطفا جانبيا للممر الرئيسي في الطابق الثاني ، حيث تقع قاعة محاضرات صف دينا في نهايته على مسافة غير قليلة من تلك النافذة التي أصبحت شاهدة على حبهما. نافذه بدت لهما كأنما أُعدّت خصيصا لتكون شاهدا على ما يجمعهما من حب.
نهار يوم من أيام ربيع تلك السنة الدراسية ، كانا يتأملان الحديقة الجانبية الممتدة قبالة تلك النافذة ، بأزهارها المتزاحمة المتعددة الألوان، وهي تتماوج ، بدفعات منعشة من نسيم مشبع برذاذ المطر، تزداد نضارة بما يصلها من نور شمس ذلك النهار التي بدأت رويدا رويدا تملأ الأجواء متجاوزة غيوم بيضاء متفرقة بدت اولا كأنها تزاحمها ، ولكنها سرعان ما تلاشت تحت تأثير حرارتها وذلك النسيم الذي يهب بهدوء ، لترتسم في أجواء المكان لوحة جميلة ، فيما لا تزال قطرات الندى تتلألأ على اوراق الورود والاشجار المتزاحمة في تلك الحديقة.
حينها قال سامان لدينا :
أرأيت حتى الطبيعة بربيعها وسمائها تحتفل معنا مباركة لنا.
نظرت دينا له وبدت كزهرة خجولة تفتّحت في أول سنة من دراستها الجامعية ، وقالت له: ألسنا نحن أيضا أولاد هذه الطبيعة ، التي لا تبخل على أحد بحنانها ومحبتها.
اجابها سامان :
نِعم ما تفوهتِ به ، في الربيع تولد الحياة من جديد، تتفتح الأزهار، وتُغنّي الطيور. كل ولادة تبدأ بالحب. حبنا كان أول ذلك هذا العام ، كأن أيامه انتظرتنا لندشن بدئه ونكتب بشهادته أول سطر من حكاية دفء روحي لا يشبهه دفء آخر .
نَمَت علاقتهما كلّ يوم. كانا يجلسان جنبا إلى جنب على حافة جدار النافذة، أو يقفان متوازيين قبالتها، يتبادلا الحديث في الأوقات التي تسمح لهما من التقاط فرص ليكونا معا ، و يكتفيان احيانا بنظرات طويلة لبعض بما يغنيهما معها عن لغة الكلام. يقرأ كل منهما في وجه الثاني ما يطمئنه على مكانته في قلبه. وكثيرا ما وجدا في تلك النظرات ما يكفيهم ويغنيهم عن الحوار ، وهما يخرجان من محاضراتهم متعبين. صارت الابتسامه المتبادلة تحمل عناوين ومعاني لكلام كثير ، لتصبح وحدها كافية لتزرع في قلب كل منهما فرح و طمأنينة لا توصف ، وأمل يوعد بمستقبل باسم.
هناك، تحت ضوء الشمس المتسلّل عبر الزجاج، كان سامان يعيش لحظات فرح لا تنسى ، وهو ينظر إلى وجه دينا ، ويراه كما لم يره من قبل: روحا شفافة، تحمل في عينيها إشراقة أمل بمستقبل موعد ، لكنّ ملامحه الأولى بدأت ترتسم واقعا ، رغم كونهما مشغولان بدراستهم الجامعية لتأمين مستقبلهم.
مرّت الأيام، وتحوّلت لقاءاتهما إلى طقس يوميّ يحمل قدسيّته الخاصة عندهما.
لم تكن دينا بالنسبة لسامان مجرّد طالبة أحبّها، بل كانت وطنا صغيرا يلوذ به من متاعب الحياة ، ملاذا يجد فيه سكينة قلبه وسط عالم صاخب أصبحت فيه المادة والثروة مقياسا لكل شيء.
وكانت هي الأخرى ترى فيه أكثر من حبيب ، كانت ترى فيه شابا يافعا يجمع بين الوسامة و الأخلاق السامية. وهو اكبر ابناء عائلة متوسطة الوضع المادي او دونه ، لا تغريه ما يجده عند بعض الطلبة من عيش مترف غير مبالين لما حولهم بل حتى لدراستهم ، يقرأون الحياة ويقيمون كل شيء بمقياس مادي. الاهم عندها حاليا ان سامان يفهم صمتها ويقرأ فيه احاديث لا تنتهي من غرام يملا قلبيهما. يقرأ ما تخفيه نظراتها قبل أن تنطق شفاها ، يعانق جراحها دون أن يسأل عن سببها.
وبينما تمرّ الفصول، ظلّت النافذة شاهدة على حبّهما، وعلى أسرار صغيرة لم يعرفها أحد سواهما ، رسائل صامتة تتبادلها العيون، ووعود لم تُنطق، لكنها كُتبت وختمت بارادة قلبين صدقا الحب وتعاهدا عليه ، بحبرٍ لا يُرى إلا لمن أجاد لغة العشق الذي صقلته الأيام والسنين بتجاربها.
ذات يوم، تأخّر سامان عن موعد اللقاء. فقد طالت المحاضرة الأخيرة ، ولم يتمكن من مغادرتها قبل انتهائها ، خشية أن تغادر دينا الجامعة قبل أن تتكحل عيناه برؤيتها. وبمجرّد انتهائها، هرع إليها مسرعا، ليجدها واقفة تنتظره، بعينين امتزج فيهما القلق بعتب لم تتمكن من اخفائه ، فقالت له بصوت هادئ:
هل نسيتني بهذه السرعة؟ لعلّ تلك الطالبة الجميلة في صفّك قد أشغلتك عني؟
ابتسم واقترب منها اكثر ، كأنّه يسير على حافة قلبه، وأجابها:
أيّة طالبة تعنين؟
لا توجد فتاة في حياتي سواكِ. أنتِ الهواء الذي اتنفسه ، والنور الذي ارى فيه الدنيا بجمالها ، وميزان عقلي الذي يمكنني من إتمام دراستي . لولاكِ ، لصُنّفتُ مجنونًا أحمل اسمك ، تماما كمجنون ليلى. الا تقرئي على ملامحي ونظراتي بانني مجنون دينا واقعا ، فكيف يكون المجنون مجنونا بفتاتين، مجنونا مرتبن؟.
ضحكت بخفة، وقالت بهدوء مقرون بجدية مقصودة:
الطالبة الجميلة التي جلست إلى جوارك في المطعم الجامعي ظهرَ أمس، حين كنتُ منشغلة مع زميلاتي باستنساخ المحاضرات. وجدتها تجلس قربك في مقعد مقابل لمقعدك ، تتأمّلك كما لو كنتما مخطوبين ، لا زميلين.
ردّ بتعجّب:
اها… تقصدين جهان ؟
لقد تسرعت في الحكم عليها ، إنها اولا طالبة في كلية اخرى ، و رغم مسحة الجمال التي تميزها كما قلت ، بما جعل الكثير من الطلبة يتمنون أن يحظوا بسلام او نظرة منها ، ولكنها...
قطعت حديثه وتساءلت :
ألم أقل لك إن جمالها قد أوقعك في غرامها؟.
ومن تكون غيرها اليوم استغلت غيابي لساعة عنك ، وملأت وقتك بأحاديثها ونظراتها!.
ابتسم وقال:
جهان ابنة جارنا في الحي السكني بمدينتنا، ذلك الحي الذي وجدنا فيه أنفسنا ، ولا نزال نعيش فيه منذ ولادتنا.
نحن ننظر إلى بعضنا كأخوة ، لا أكثر، وشقيقها صديقي منذ الطفولة ، أوصاني بها منذ قبولنا معا في هذه الجامعة.
بالأمس، غادرت جهان المركز الجامعي مُسرعةً بعد أن تذكرت فجأة أن لديها محاضرة قد لا تصل إليها في الوقت المناسب.
وأثناء وقوفها تودعني، لمحتكِ تعودين من استنساخ محاضراتك وتنادينني. عندها، وجدتها فرصة لأخبرها عنكِ، عن مكانتكِ في قلبي.
أثنت في الحال على جمالكِ، وعلى ذوقي باختياركِ ، وقالت: لولا ضيق وقتي لشرّفتني بمعرفتها، ولكن لا بأس، لعلّ ذلك يتم لاحقا.
حين رأتني في المطعم فرحت برؤيتي ، وكأنها رأت شقيقها. حدثتني عن أخبار الحي وما طرأ فيه من مستجدات، و ابلغتني تحيات شقيقها.
اما انت، يكفيني أن يُذكر اسمك أمامي حتى أبتسم كما يبتسم طفلٌ بقدوم العيد. أنتِ عيدي الذي أحتفل بقدومه كل يوم.
كل طالبات الجامعة شبحٌ باهتٌ أمام نورك. كيف لأيّ طالبة أن تتمكن من سلب انتباهي وأنا غارقٌ في حبكِ حتى آخر حدود العشق؟.
لاحظ على قسمات وجهها
ثم سكت لبرهة، وهو يلاحظ على قسمات وجهها انفراج أساريرها ، وافاد كأنه في محراب عبادة يؤدي قسما مغلّفا باليقين:
أؤمن أن المرأة الحقيقية لا تعبر حياة الرجل إلا مرة واحدة، كما يمر النور الخالص في سمائه مرة يتيمة، فتترك فيه أثرا لا يمحوه الزمن وذلك يكون حين يجمعهما حبا عميق المعنى. إن اللقاء الحقيقي بين روحين هو معجزة نادرة، إذا وقعت مرة، لا تتكرر، بل تظل ذكرى خالدة.
-إذن أدعوك للغداء ، في ذلك المطعم ، الواقع خارج الجامعة المطل على أطراف المدينة ، الذي تناولنا فيه غداءنا قبل أكثر من شهر وتعاهدنا فيه على تحمل أي عقبة تجابهنا في كل ما قد نمر به.
-ولكنك أمام أول عقبة وهمية أظهرت تسرعكِ وعدم تحملكِ ، فكيف يكون الأمر لو كان ذلك حقيقة.
لم تقولي لي بأي مناسبة جاءت دعوة الغداء هذه؟
- الدعوة بمناسبة نجاحك في الامتحان.
- بل قولي بمناسبة اقتناعكِ أخيرا بموقفي تجاه جهان ، وتحرُّر قلبكِ من دوامة الشكوك، أتمنى أن تبقى هذه الثقة راسخة لا تهتزّ.
أخاف عليكِ من أن تظلمي قلبكِ بشكوك أو اوهام لا وجود لها.
الحبّ الحقيقي، يا حبيبتي، يجمع القلوب ولا يفرقها، يبنى على يقينٍ راسخ وقناعة عميقة، لا على مساجلات ومناقشات يومية تُطرح فيها القضايا كما تُطرح في قاعات القضاء.
أخبريني، هل سمعتِ يوما بمحكمة للعشاق؟ بالطبع لا!
العشق ميثاق صامت بين الأرواح، لا يحتاج إلى قاض ولا إلى شهود.
إجابته بضحكة طويلة لم تتمكن من اخفائها:
إفهم سبب دعوتي كما تشاء!، فأنت لي ولي فقط ، ولا اسمح لاي فتاة ان تتجاوز حدود مملكتي.
- علّمتِني الان ، كيف أحوّل الأيام التالية كلها الى دعوات غداء بالمجان ، تدفع ثمنها ملكة!.
- حينها، ستجد نفسك خارج أسوار قلبي ومملكتي، محروما ليس فقط من دعوة غداء، بل من نور نافذتنا تلك، التي أعدّها عندي أسمى مقاما من نوافذ قصور الملكات الحقيقيات.
فرقٌ شاسع بين نافذتي التي تنساب منها همسات العاشقين، ويتسلل عبرها عبير الورود والرياحين، وبين نوافذ القصر التي يُدار فيه كل شيء بحساب.
هناك تخلو النوافذ من زغاريد الطيور وزقزقة العصافير، تنظر إليها كأنها قضبان تحرمها لذّة الحرية والانطلاق ، فتهرب منها.
- وكيف لي بعد كل هذه الرومانسية أن أعيش خارج أسوار قلبك و بعيدا عن نافذتنا؟
اقسم لك ان ابتعدتِ عني ، سيظل بعدك طيفك يرافقني حتى النفس الأخير من الزمن المكتوب. حينها سأكون مجنون دينا واقعا.
- لا تقل ذلك! نحن في بداية اعمارنا وعز شبابنا ، وفي أول فصول سعادتنا، بعد أن غمر قلبينا حبٌّ يفوق حبّ روميو وجولييت.
- دعينا نذهب الى المطعم قبل أن تغيّري رأيك ، لكن اوعديني ان تاتي معي في أقرب فرصة إلى كلية جهان ، لأعرفكِ عليها ، ولتعرفي أية أخلاق وقيم رفيعة تحمل.
- لك ذلك.
مضت سنوات الدراسة كأنّها حلمٌ جميل ، استيقظا منه يوم حفل تخرّج سامان. كانت صورتيهما معا في ذلك اليوم كلوحة لعاشقٍ يحتضن وردةً نادرة ، يقدم لها شهادة تخرجه وفاء لما يجمعهما من حب.
في نهاية الحفل، لمح في عينيها دمعةً مزدوجة: دمعة فرح، ودمعة حزن، دمعة فرح لتجرج سامان ولأمنيةٍ خبأتها في قلبها... أن لا يفترقا. لكنّ تخرّجه بات يعني واقعا ، أنها ستقضي سنتها الأخيرة في الجامعة بدونه ، فذرفت عندها عيناها دمعة حزن سرعان ما مسحها سامان بمنديل ورقي ، وقال لها انها مسألة وقت ، نبقى فيه بين اتصال ولقاء.
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟