|
المعرفة والعرب في رواية ثورة القبور علي شلق
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 19:35
المحور:
الادب والفن
تتميز هذه الرواية في حجم المعلومات التي قدمتها، وفي عدد الشخصيات التي وحاورتها، حتى أنه يمكننا القول إنها الرواية العربية الأهم في مجال المعرفة والفكر والتاريخ، وبما أننا نتحدث عن شخصيات تاريخية متباينة، فكان لا بد من إيجاد طريقة يستطيع بها السارد تمرير فكرة وجود هذه الشخصيات، وللقاء معها وفيما بينها، فكانت الفانتازيا "مدينة القبور" التي وجد فيها كل من أراد من المفكرين والفلاسفة والشعراء والقادة العسكريين، والأمراء والخلفاء والملوك والقياصرة، والنساء الملكات والمؤثرات والشاعرات، مما يجعلنا نقول إن رواية "ثورة القبور" تعد أكبر جامع للشخصيات المؤثرة عالميا وعربيا. الخيال بداية سنتوقف عند الفانتازيا التي استخدمها السارد ليوصلنا إلى الشخصيات التي جاءت في الرواية: "حتى لمحت قبرا من تلك القبور تتشقق وظهر منه مارد جبار يخرج من فمه وأنفه دخان كمنافث القطار، ثم بدأت القبور الأخرى تتشقق ويخرج منها مردتها" ص6، بهذا الشكل أوصل لنا السارد مجموعة كبيرة من الشخصيات المؤثرة في العالم، من حمورابي إلى نابليون ووصولا إلى عبد الناصر، ولم تقتصر الفانتازيا على بداية الرواية، بل استمرت أثناء سردها للأحداث وحتى نهايتها التي جاءت بعقد مؤتمر لهؤلاء الشخصيات في بغداد: "ترامي إلى بعض البغداديين أن تجمعا بكائنات غريبة عجيبة يجري في بلدهم بغداد المختارة، إلا أن واحدا منهم ما كان يدور في خلده أن نخبة صانعي التاريخ من سكان العالم الثاني والذين كتبوا بمآثرهم تاريخ العالم، سينفضون قبورهم ويتنادون إلى عقد مؤتمر يرمون من ورائه أن يبدلوا نظام الإنسان، وينقذوا الأرض من خراب مرتقب فيما لو استمرت الأمم في لعبتها المهلكة، وقد اختاروا بلاد الرافدين، لما لها من حرمة في تاريخ الحضارة البشرية" ص131، إذن كان وجود تلك الشخصيات لهدف نبيل/إنساني يتمثل بوقف الحروب والعنف بين الناس، وهذا ا جاء في كلمة "أبو الطيب المتنبي": "فإننا نراه قد عجز عن إيقاف حرب قذرة بين طرفين هزيلين من مكان لبنان... لم يعد الإنسان صالحا ليلاقي الإنسان، ولم تعد الأرض ترضى أن يستمر على سطحها، لذلك أدعوكم دعوة شاملة أن تتوزعوا بين الشعوب والأمم، تمهدوا لثورة شاملة تقلب أوضاع العالم" ص135و136، وهذا ما برر وجود شخصيات من كل بقاع الأرض، وشخصيات من كافة الأزمنة والعصور، فالهدف حماية الأرض، وتخليص الإنسان من القتل والتشرد، وجعله يعيش بسلام وأمان. ونلاحظ دعوة "المتبني" تتماثل مع دعوة المسيح للرسل الذي أرسلهم إلى كافة بقاع الأرض، وليتحدثوا بلسان الأمم والشعوب الأخرى، بعد أن أعطاهم الله القدرة على الحديث بلغاتهم، وهذا ما يجعل دور شخصيات الرواية تتماثل مع دور الرسل الذي بشروا بالمسيحية، وجعلها من أهم الديانات على وجه الأرض. الشخصيات سنتوقف قليلا عند بعض الشخصيات وكيف حاورها السارد، أو تحاورت هي فيما بينها، من هذه الشخصيات "مركس" الذي تحدث عن فلسفته الاقتصادية الطبقية بقوله: "لم نقصد سلب الجاني جناه، ولا الكادح ثمن تعبه، بل أردنا إشاعة العدالة بين الناس، وتوزيع خيرات الأرض، ومنع الاحتكار، وتخفيف القلق عن كواهل المعذبين، وتحديد مكان العمل، واسلوبه، ومقداره لكل فرد" ص61و62، لكن هذه الكلام لم يعجب السارد، فوجد في دعوة "ماركس" عبودية مبطنه تتمثل في: " أخرجتموا الإنسان من عبودية الفرد المستقل إلى عبودية الجماعة والدولة المستغلة، وحددتم مكانه كالمسار في الماكنة" ص62، لكن "ماركس" يرد عليه بقوله: "ولهذا السبب آمن بمبادئنا نصف سكان الأرض، راضين مختارين إذا أعددنا لهم الكرامة، والعمل والتعليم، والعلاج، وحفظنا الطفولة والشيخوخة، فأي مسمارية في الآلة يا فيلسوف الحرية" ص62، نلاحظ الحوار هو الوسيلة التي يستخدمها السارد في إيصال الأفكار، وليس التوجيه المباشر، فهو نقد الماركسية وكيف تعاملت مع الفرد، لكنه أيضا أسمعنا وجهة نظر مؤسسها، وكيف استطاع أن يؤثر في أكبر عدد ممكن من الناس، لأنه يحمل العدالة له، ويحفظ حقوق العمال والكادحين الذي يشكلون أكبر نسبة في العالم. لبنان اللافت في الرواية أن السارد يتحدث عن مأساة لبنان في أكثر من موضع، فقد تناول موضوع لبنان أكثر من شخصية، ومنهم "أبو نواس" الذي قال: "فنحن معشر الشعراء، قد هالنا ما عليه أمور الإنسان اليوم وعلى الأخص بلادنا العربية، فكيف يسكت الشعراء عن فواجع لبنان، ومآسي شعوبهم الكبير؟" ص72، وهذا يعود إلى زمن كتابة الرواية، ففي العقد السابع من القرن الماضي، لم يكن سوى لبنان في ساحة الملعب الدولية، لهذا وجدنا الرواية تهتم به، وجعلته محطتها الأساسية. أما هنيبعل فيقول عن لبنان: "الذي يكلمك الآن هنيبعل هملقار برقة، ويسألك: هل بلغت القحة بكم وانتم أحفادنا في لبنان أن يفتك بعضكم ببعض، بدلا من أن تطردوا محتلي بلادكم؟" ص100، نلاحظ تأنيب لقادة الحرب في لبنان الذين تركوا الجيش الإسرائيلي يسرح ويمرح و(دقوا) ببعضهم. وهذا المشهد ها هو يُعاد الآن في عام 2025، حيث ترك فريقا من اللبنانيين مسألة احتلال خمسة مواقع جديدة في لبنان، وأخذ يطالب بنزع سلاح المقاومة، هذا حال بعض الجهات في لبنان، فهو يخدمون أجندة خارجية، أمريكية غربية صهيونية. العرب العرب أصبحوا مثلا للتخاذل والصمت على ما يجري من أحداث لبنان: "حرب لبنان الأهلية، أو بالأحرى العربية، محتدمة منذ سنة ونصف وأكثر، ولم نسمع للسعودية أو الكويت، أو دويلات الخليج، أو الأردن ومصر صوتا، سوى التمنيات، والابتهالات إلى الله سبحانه وتعالى" ص18، لم يقتصر التخاذل العربي على ما يجري في لبنان فقط، بل طال نواحي أخرى مثل التجزئة وتغني بها وجهلها (إله) يعبد ولا يجوز المساس به: "هذه الدويلات تباركها الدول الغربية، كي تجهز يوما فتكون لقمات سائغة لإسرائيل ومن هم من صنف إسرائيل" ص22، وهذا القراءة للسارد أصبحت حقيقة بعد مضي ما يقارب خمسون سنة على كتابة الرواية، فالدول العربية أصبحت في مهب الريح، منها ن يخضع لإيران ويتبعها على حساب المصالح القومية العربية، وأخرى تتبع لتركيا التي تتحكم فيها، وغيرها تخضع لرب أمريكيا في كل صغيرة وكبيرة، حتى أنها تبدو كولاية أو سفارة أمريكية، ، وطبعا (إسرائيل) لها حصة الأسد، من الأراضي والمال والخدمات والتسهيلات. وعن تعامل الدول العربية مع المفكرين والعارضين، يقول "الفردوسي": "إن جيلكم يقتل المفكرين والمؤلفين ويمثل بهم، ويجد اللذة في التقطيع والتشويه والإحراق والتوزيع" ص76، وهذا يشير إلى ضعف وفساد الدول العربية التي تمارس القمع والقهر ضد كل من يبدع أو يحاول إظهار نواحي الضعف والفساد فيها، فليس بجديد ما نعيشه الآن، إن كان انكسارا أم تخاذلا أم صمتا، أم قمعا أو تفاهة، فهذا حالنا قبل ما يقارب الخمسين عاما. الملوك/الحكام من هنا السارد يكشف حقيقة الحكام الذي يتحكمون في البلاد والعباد، فيقدمهم وهم يلهثون خلف الشهوة، خلف لذة النساء: "بربك يا مرافق صاحب الجلالة، قل لي لماذا يحرك الملوك أنوفهم هكذا؟ فأجابني بلا مبالاة، كي لا تفوت أصحاب الجلالة نفحة عكر انسابت من النساء اللواتي كن هنا في القاعة" ص122، هذا حال ملوكنا وحكامنا، فكيف لهم أن يهتموا بنا أو بحاجاتنا أو مصالحنا!؟ أنهم غارقون في الملذات والشهوات، فأين لهم الوقت لقضايانا ومشاكلنا! العقل يتحاور أكثر من مفكر وفيلسوف في أمور عدة، منها العقل: "بل عدت أنشد تلك المعرفة، لأجد الإيمان بالعقل، والفضيلة" ص39، ويقول "كانط": "العقل أبو الدين، والفن، والفلسفة، وهو المحرك الأول للكون" ص57و58، طبعا هذا الأقوال تمثل حالة طبيعية، تنسجم مع شخصيات الرواية التي تتكون من فلاسفة ومفكرين وعلماء. أسئلة وتطرح الرواية مجموعة أسئلة: "الإنسان وحضوره في الكون، الدين وهل أثر أثره في الناس؟ الأخلاق النابعة من الضمير وهل لها وجود؟ هيئة الأمم، ألها معنى وضرورة؟ جامعة الدول العربية ما جدواها، والدول العربية متى تخرج من الدويلة إلى الأمة؟" ص18و19، أجزم أن هذه الأسئلة ما زالت تُسأل حتى الآن، ونحن في أمس الحاجة إلى التوقف عندها، والإجابة بواقعية عليها، طبعا، هذا إذا اردنا الخروج من واقعنا البائس، وأردنا تغيير حالنا إلى الأفضل، وغير ذلك علينا تجاهلها ونسيانها. الحرب يحاور السارد "دارا" الفارسي الذي غزا اليونان عن سبب الغزو، علما بأن بلاده غنية بالثروات: "يجب "دارا" بقوله: "لأنني إذا لم أغز بلاد اليونان، فإنها ستغزوني، والشاهد طروادة، وزحف الإسكندر بعد ذلك، أفهمت؟" ص97، هذا حقيقة الحروب بين البشر، فلا مجال أمام الأمم إلا أن تتسلح وتكون قوية، حتى لا تكون لقمة سائغة للآخرين، وهذا حال العرب الآن، فهم يتعرضون لاحتلالات عديدة وبأشكال مختلفة. عنوان الرواية وكتابتها يتناول السارد عنوان الرواية من خلال هذا المقطع: " إن جيلكم يقتل المفكرين والمؤلفين ويمثل بهم، ويجد اللذة في التقطيع والتشويه والإحراق والتوزيع، وهذا ما يدفعنا نحن معشر أصحاب القبور، أن نثور لنمحو من الأرض لطخات السوء التي ارتسمت بأيديكم على صفحات التاريخ المخزي" ص76 و77، هذا ما قاله الفردوسي، فرغم أنه ميت، إلا أنه يريد أن يثور ليظهر الأرض من الفاسدين ومن المتخاذلين، وهذا القول يفسر عنوان الرواية التي جاء معظم شخصياتها ممن رحلوا ومضوا من قرون. أما عن وجود كم هائل من الشخصيات في الرواية، فيقول السارد: "كيف يتسنى لي أن أخرق حدود المكان والزمان، وألاقي هذا الجمع الغفير من سكان القبور؟" ص92، هذا السؤال أجاب عليه السارد من خلال أحداث الرواية والشخصيات التي استحضرها من خلال الفانتازيا التي استخدمها وجعلها وسيلة لإظهار الشخصيات يريد تقديمها. ونلاحظ أنه حدد مكان اللقاء في مدينة بغداد من خلال تسميتها "مدينة المأمون" في أكثر من موضع، وهذا يقودنا إلى أيام المأمون، أيام العلم والترجمة والمعرفة، بمعنى أن مكان الرواية تعود بالقارئ إلى تلك الأيام الزاهرة في تاريخنا العربي. الرواية من منشورات دار المسيرة، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى 1980.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنت النبي وهم المنكر في قصيدة -وحدك- أحمد الخطيب
-
الحرب في كتاب -التاريخ فكرا استراتيجيا- باسيل ليد هرت تعريب
...
-
حاجتنا إلى عبقرية لينين
-
إلى أين تذهب المنطقة العربية
-
عقم الثورة في رواية -قصة مدينتين- شتارلز دكنز، ترجمة صوفي عب
...
-
الدبية في غار الإخلاص محمد علي ضناوي
-
الإقطاع في رواية -ميميد الناحل- ياشار كمال، ترجمة إحسان سركي
...
-
الجديد في كتاب -مذكرات الأرقش- ميخائيل نعيمة
-
المكان والإنسان في رواية -عين التينة- صافي صافي
-
المنطقة العربية في كتاب -الوحدة العربية هل لها من سبيل- منيف
...
-
جمالية الشكل والمضمون في كتاب -من حديث أبي الندى- إبراهيم ال
...
-
سورية الجديدة (5) وما أرسلناك إلا قاتلا للسوريين
-
نقد الذات في رواية شامة سوداء أسفل العنق
-
الماضي في رواية جبل التاج لمصطفى القرنة: قراءة نقدية
-
التحدي في -كفاح كفاح- كفاح الخطاب
-
ية والواقع في رواية -العاشق الذي ابتلعته الرواية- أسيد الحوت
...
-
الإنجليز وعملائهم في مذكرات صلاح الدين الصباغ
-
المبدئي والمرتد في مسرحية الدكتاتور جول رومان، ترجمة عبد الم
...
-
فلسفة الكرة وجمال الأدب: قراءة في عالم «الطريق إلى المرمى»
-
بين فلسفة الكرة وجمال الأدب: قراءة في عالم «الطريق إلى المرم
...
المزيد.....
-
مهرجان -بيروت الدولي لسينما المرأة- يكرم هند صبري
-
مهرجان -بيروت لسينما المرأة- يكرم هند صبري
-
إطلاق خريطة لمترو موسكو باللغة العربية
-
الدويري: كمائن غزة ترجمة لتحذيرات الاحتلال من تصعيد ضد قواته
...
-
المكتبات المستقلة في فرنسا قلقة على مستقبلها في ظل هيمنة الم
...
-
نساء حرب فيتنام في السينما.. حضور خجول في هوليود وأدوار رئيس
...
-
-ذا سينرز-.. درس في تحويل فيلم رعب إلى صرخة سياسية
-
عاجل | وزير الثقافة العراقي: سلمنا الرئيس السوري أحمد الشرع
...
-
معرض أبو ظبي للكتاب ينطلق تحت شعار -مجتمع المعرفة.. معرفة ال
...
-
الدورة الـ30 من معرض الكتاب الدولي بالرباط تحتفي بالشاعر الم
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|