|
الشرق الأوسط على عتبة تشكّل جديد في الجغرافيات السياسية
محمد مراد
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 18:12
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
أولاً: في تقديم البحث: منذ مطلع العُشرية الثانية من القرن الحالي )القرن الواحد والعشرين(، دخلت المنطقة العربية ــ المجال الحيوي للشرق الأوسط ــ في أتون الحروب الأهلية غير المسبوقة، الأمر الذي بات ينذر بفتح الكيانات السياسية العربية )الدول( على مرحلة قاسية من الانقسامات العمودية السياسية والاجتماعية والثقافية، مرحلة يُعاد معها رسم تضاريس جديدة على خارطة سايكس ــ بيكو 1916، التي أُنتجت في ظل النظام الجديد للعلاقات الدولية، الذي أُرسيَ آنذاك كإحدى النتائج الأساسية التي انتهت إليها الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918. وحالياً، وبعد انقضاء ما يقارب قرن وعقد على تقسيمات الخارطة المشار إليها، فإنَّ المجال العربي برمته مرشح لإعادة تشكّل في جغرافياته السياسية على أساسٍ من التوزيعات المحكومة بتلاوين مذهبية وإثنية وثقافية وسياسية جديدة، بحيث تتقدم معها مصطلحات من مثل الدولة ــ المذهب، أو الدولة ــ العرق، أو الدولة ــ العشيرة، على مصطلحات الدولة الوطنية أو الدولة القطرية السابقة التي عرفها النظام الإقليمي العربي في تاريخه المعاصر. دخلت الحروب الأهلية العربية عامها الخامس عشر، وهي ما تزال تشتد اشتعالاً في غير دولة، في ليبيا، ومصر، والعراق، وسوريا، واليمن، والسودان، والصومال، وتونس، ولم يظهر في الأفق، حتى الآن، مبادرات جادة أو مشروعات حلول قادرة على وقف النزف العربي، أو تبشر بقرب إنتهاء المأساة العربية التي باتت تُوصَّف على أنَّها مأساة العصر. فلا يوجد دليل على أنَّ النظام العالمي الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والذي يعاني من عدم توازن في بنيانه الهرمي بسبب سيطرة أحادية القطب الأميركي وسياسة التفرّد التي ينتهجها في تقرير العلاقات الدولية، فلا يوجد دليل على أنَّ مثل هذا النظام العالمي الراهن مؤهل للتدخل إيجابياً لإطفاء الحروب المشتعلة، ونقل دول المنطقة من دوائر الحرب إلى مرحلة السلام الداخلي أمنياً وتنموياً وسياسياً. كما أنَّ قوى الداخل المتحاربة، هي نفسها، لا تمتلك رؤية واضحة يمكنها أن تقدم برنامجاً لحلول مستقبلية تقوم على الانتقال من الحرب لمباشرة إستعادة السّلم الأهلي، إنَّ الأولوية لهذه القوى ما زالت تدأب على تحشيد مستلزمات الصراع العسكري على أمل الفوز في الحرب الثأرية الدائرة، دونما أي مشروع أو تصوّر لمرحلة ما بعد الحرب. لذلك، أمام هذا الواقع الدولي والعربي، فإنّه من المتوقع أن يستمر التصدّع في الجغرافيات السياسية العربية القائمة، وأن يزداد عمقاً في الاجتماع السياسي العربي دون أن يلوح في الأفق أي مشروع يستند إلى ركائز فكرية وسياسية تتمتع بالقدرة على إحداث تحول استراتيجي من شأنه التأسيس لنظام إقليمي عربي جديد يأخذ طريقه إلى الاستقرار والنهوض الشامل. ثانياً: في مصطلح الشرق الأوسط: مصطلح الشرق الأوسط هو واحد من مصطلحات ثلاثة تتابعت في ظهورها كتسويق مفهومي أوروبي منذ أواسط القرن التاسع عشر، لتتحول إلى مفهوم دعائي أميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد قيام الكيان الصهيوني في فلسطين من أجل إحلال الشرق أوسطية كبديل للرابطة القومية العربية التي كانت تشهد حراكاً خطياً خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم )القرن العشرين(. أما المصطلحات الثلاثة فكانت) (: الأول: الشرق الأدنى. الثاني :الشرق الأقصى . الثالث: الشرق الأوسط. في الواقع، تلازم ظهور هذه المصطلحات مع تحوّل متسارع في وظيفة الدولة الرأسمالية في الغرب الأوروبي ــ الأميركي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، والأميركي ــ الأوروبي خلال المرحلة اللاحقة، تحوّل نحو المزيد من الكولونيالية والتوسع الاستعماري. والأمر الملفت بشأن هذه المصطلحات هو أنها ارتبطت بثلاث مسائل أو قضايا تعاملت معها الرأسماليات الغربية في الاتجاه الذي يستجيب لمصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية:
الأولى، المسألة الشرقية والشرق الأدنى: المقصود بهذا الترابط هو إخراج السلطنة العثمانية من شرق أوروبا أي بلاد البلقان القريبة من رأسمالية المركز في غرب أوروبا آنذاك. الثانية، المسألة الهندية والشرق الأقصى: تلازم هذا الترابط مع الاندفاع الاستعماري البريطاني والفرنسي نحو آسيا السكانية )الهند والصين( بهدف إيجاد سوق واسعة لاستهلاك الفائض السلعي المتراكم في المنتجات البريطانية والفرنسية. الثالثة، المسألة الفلسطينية والشرق الأوسط: برزت الشرق أوسطية كدعاية إعلامية مكثَّفة في وسائط الإعلام الدعائي والسياسي الأميركي بصورة خاصة في أعقاب الاعلان عن قيام " دولة إسرائيل" في14 - 15 أيار 1948، والتي سارعت الولايات المتحدة إلى الإعتراف بها بعد عشر دقائق فقط من إعلانها. وإذا كان الدعم الأميركي للكيان الصهيوني ينسجم مع صعود الرأسمالية الأميركية إلى قمة الهرم الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك من حيث اعتبار قيام " إسرائيل" يمثل مشروعاً استثمارياً استراتيجياً للرأسمال الأميركي في قلب المجال الحيوي للشرق الأوسط، فإنَّ ثمة دافعَين آخرين يندرجان في أجندة الاهتمامات الأميركية، الأول، حاجة الولايات المتحدة إلى النفط العربي الذي راح يتبوأ المرتبة الأولى في العالم على صعيدي الإنتاج) ( والمخزون الاحتياطي) (، الثاني، الإمساك بقلب المجال الحيوي للشرق الأوسط الذي هو الوطن العربي، نظراً لأهمية هذا المجال بوصفه مفصلاً جيو-استراتيجياً يساعد الولايات المتحدة على التصدي للطموحات السوفياتية في إحداث اختراقات للمنطقة العربية من جهة، ويساهم، من حيث شبكة العلاقات الاقتصادية الأميركية-العربية، في إعادة إنتاج النظام الرأسمالي الأميركي كلّما تعرّض هذا النظام لهزّات داخلية وارتدادية من جهة أخرى.
ثالثاً: خصائص الجغرافية السياسية للشرق الأوسط: يتميز الشرق الأوسط بِمَدَيَيْن إثنين: الأول، المدى الجغرافي-السياسي: تقدر المساحة الجغرافية للشرق الأوسط بحوالي 17,778 مليون كلم2 موزَّعة وفقاً للآتي: - الوطن العربي) (: 13,923 مليون كلم2 أي المساحة الإجمالية للكيانات السياسية )الدول( المنضوية في عضوية جامعة الدول العربية وعددها اثنتان وعشرون دولة بما فيها دولة جنوبي السودان التي انفصلت عن العاصمة المركزية الخرطوم عام 2012، بالإضافة إلى كيان سياسي غير مكتمل هو السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. - الدول الآسيوية التالية) (: باكستان )796,100 كلم2(، أفغانستان )652,090 م2(، إيران )1,633,190 كم2(، تركيا )775000 كم2(، وقبرص )9251 كم2(. وهناك من يعتبر جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق، في عداد المدى الجغرافي للشرق الأوسط. أما الكتلة السكانية الشرق أوسطية فهي، حسب إحصائيات تعود لسنوات مختلفة من العقد الأول من القرن الحالي، تناهز ال 700 مليون نسمة) (. تشكل مساحة الشرق الأوسط حوالي 12,5% من إجمالي مساحة العالم، في حين تمثل كتلته السكانية قرابة 10% من سكان العالم. قامت دراسات عديدة بتوصيف المدى الجغرافي للشرق الأوسط؛ حيث أخذت بالاعتبار تدرّج القوة والتماسك بدءاً من المركز وصولاً إلى الأطراف. فالشرق الأوسط، تبعاً لهذه الدراسات، هو عبارة عن ثلاث دوائر متداخلة )Cercles Concentriques( هي على النحو التالي: الأولى، الدائرة المركزية أي " قلب الشرق الأوسط "، وهي تضمّ دول: العراق، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين ومصر، ويُطلق على هذه الدائر " المجال الحيوي للشرق الأوسطة ". تتميز هذه البلدان بوحدة المسار التاريخي والتفاعل الحضاري وفي إنتاج تجارب حضارية ما زالت ماثلة إلى اليوم بمعالمها الأثرية البارزة. الثانية، دائرة الغلاف الأول أو الحزام الأول، وهي تضم مجموعة الدول التي تحيط بالمركز أو بالقلب، وهي: السعودية، ليبيا، السودان، إيران وتركيا-قبرص. الثالثة، دائرة الغلاف الثاني أو الحزام الثاني، وهي تضم: - باقي مجموعة دول شمال أفريقيا العربية أي بلاد المغرب العربي: تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا. - امتداداً أفريقياً نحو الجنوب ويشمل: الصومال، جيبوتي وأثيوبيا. - باقي دول شبه الجزيرة العربية: اليمن، الكويت، قطر، البحرين، الإمارات العربية وسلطنه عُمان. - امتداداً آسيوياً نحو الشرق ويشمل: باكستان، أفغانستان، والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز، والتي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهي: كازخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان، طاجكستان وأذربيجان. وهكذا، فالمجال الشرق أوسطي يتألف من دول “القلب”، والدول المحيطة بها على شكل طوقين: أحدهما يمثل الغلاف الأول، والآخر يمثل الغلاف الثاني. الثاني، المدى الجيو-استراتيجي: يتميز الإمتداد الجغرافي للشرق الأوسط بأربع خصائص جيو-استراتيجية هي التالية) (: 1 - يربط بين قارات العالم القديم الثلاث آسيا – أوروبا – أفريقيا. 2 - شبكة من المنافذ البحرية تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود )مضائق الدردنيل والبوسفور(، إلى الخليج العربي فالمحيط الأطلسي، فإلى البحرَين المتوسط والأحمر. 3 - مخزون هائل من الثروات الباطنية، واحتياط مؤكد من الطاقة )النفط والغاز( يصل إلى أكثر من 75% من إجمالي الطاقة العالمية. 4 - مخزون حضاري تاريخي، إضافة إلى خصوصية ثقافية إسلامية غالبة مع تلوينات دينية وإثنية مختلفة.
رابعاً: الشرق الأوسط في الأدبيات الغربية الحديثة: ثمة ثلاث دلالات مفهومية للشرق الأوسط كما جاءت في الأدبيات الغربية الحديثة، وهي تتمحور حول التوصيفات التالية) (: «1- إنَّ مصطلح الشرق الأوسط لا يشير، حسب المنظور الغربي، إلى منطقة جغرافية ذات مدى تكاملي واحد، بل إنه مصطلح سياسي في نشأته وفي استخدامه. «2- إنَّ هذه التسمية لا تُستمدّ من طبيعة المنطقة نفسها وخصائصها البشرية، أو الحضارية الثقافية، أو شكل نظمها السياسية، بل تسمية تشير إلى علاقة الغير بالمنطقة. «3- إنَّ هذه التسمية تمزق أوصال الوطن العربي ولا تتعامل معه على أنه وحدة متميزة، فهي تُدخل فيه باستمرار دولاً غير عربية مثل تركيا وقبرص وأفغانستان وباكستان وإيران " وإسرائيل "، وتخرج منه باستمرار دول المغرب العربي الجزائر وتونس وليبيا وكذلك مصر والسودان. يستند التصور الغربي لمفهوم الشرق الأوسط إلى مسلّمة تقول بأنه عبارة عن منطقة فسيفسائية (موزاييك ) من خليط من الشعوب والجماعات الثقافية والقومية. وبذلك فإنَّ هذا الخليط لا يقوم على التجانس أو التماثل بين جماعاته المختلفة، وإنما يقوم على التعدد المتغاير لغوياً ودينياً وقومياً وسلالياً، فهناك العرب، والإيرانيون، والأتراك، والأرمن، والإسرائيليون، والأكراد، والبهائيون، والدروز، واليهود، والبروتستانت، والكاثوليك، والعلويون، والصابئة، والشيعة، والسنة، واليزيديون، والشركس، والتركمان، والأشوريون، والكلدانيون وسواهم. وبذلك، فإنَّ المنطقة التي تشكّل الجغرافية التاريخية والإجتماعية لهذه الجماعات المتعددة ما هي إلا منطقة أقليات لا يوجد بينها تاريخ موحد يجمعها، ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة) (. هذه الخارطة المتشعبة التضاريس في المنطقة الشرق أوسطية ليست إلا تبريراً أيديولوجياً غربياً الهدف المركزي منه تبرير الكيان الصهيوني ليس بوصفه كياناً دخيلاً على المنطقة وحسب، وإنما مصطنعاً أيضاً أنتجته مصلحة صهيونية – استعمارية مشتركة، وراحت تعمل لتسويقه في فضاء عربي – إسلامي من تشكلات متغايرة بين الجماعات البشرية القائمة فيه من حيث الاختلاف اللغوي والعرقي والثقافي. إنَّ ثمة هدفين إثنين من وراء التبرير الغربي لتعددية الاختلاف في إطار الشرق أوسطية المطروحة: الأول، رفض مفهوم القومية العربية، والحؤول دون قيام وحدة عربية في المستقبل. فتبعاً للتصورات الغربية تصبح القومية العربية فكرة يحيطها الغموض، إن لم تكن غير ذات موضوع على الإطلاق. وقد برز في هذا المجال إتجاهان: اتجاه يتحدث عن" خرافة الوحدة العربية." وتبعاً لهذا الرأي فإنَّ العرب يتحدثون عن أمة واحدة ولكنهم يتصرفون كدول قومية مستقلة، وإنَّ ما يجمع هذه البلاد هما اللغة والدين وهما ما يجمعان بعض الشعوب الناطقة بالإنكليزية دون أن يخلق ذلك منها أمة واحدة، وأنَّ ما يجمع دول أمريكا اللاتينية على سبيل المثال أكبر بكثير مما يجمع البلاد العربية. واتجاه آخر يعترف بوجود القومية العربية بمعنى مجموعة روابط ثقافية وعاطفية وتاريخية بين العرب، ولكن يفصل بين ذلك وبين الدعوة إلى الوحدة العربية التي يعتبرها مستحيلة) (. الثاني، تبرير شرعية الوجود الصهيوني في المنطقة في ظل خليط من القوميات والشعوب واللغات، وتصبح مسألة قيام وحدة بينها ضرباً من المحال، الأمر الذي ينتهي إلى نتيجة منطقية مفادها أن تكون لكل قومية لغوية أو دينية أو عرقية دولتها الخاصة بها. وفي هذا الإطار تكتسب "إسرائيل " مبرر وجودها وشرعيتها بوصفها قومية لها خصوصيتها في المنطقة، وعليه ينبغي أن يكون لها دولتها الخاصة بها أيضاً. ولعلَّ ما يفسر تشجيع الفكر الإسرائيلي لمنطق الأقليات في المنطقة، وطرحه، بين حين وآخر، فكرة إقامة دويلات درزية أو شيعية أو مارونية على حدود إسرائيل، تكون بمثابة مناطق أمن تُكسب إسرائيل الإطمئنان، وتشكل حاجزاً مادياً ومعنوياً يفصل بينها وبين الأقطار العربية) (. هكذا، إنَّ مشروع الشرق الأوسط لم يكن فكرة طارئة في السياسة الأمريكية الخارجية، وإنما هو ثابت استراتيجي في برامج كل الحكومات التي تعاقبت على إدارة البيت الأبيض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد أن التزمت الولايات المتحدة أمن" إسرائيل" بعد قيام هذه الأخيرة في أيار1948. ثمة ثلاثة أهداف مركزية في الإستراتيجية الأمريكية بشأن شرق أوسطة المجال العربي – الإسلامي هي: أولاً، شرق أوسط ممسوك أمريكياً يكون بديلاً للنظام الإقليمي العربي الذي شهد ولادته مع قيام جامعة الدول العربية في العام 1945. ثانياً، القفز فوق الخصوصية القومية للأمة العربية عن طريق خلق عناصر جديدة ليست فقط عناصر غير ذات انسجام مع القومية العربية، وإنما ذات آليات إلغائية للثقافة العربية، وبالتالي، للهوية القومية. ثالثاً، مركزية " إسرائيل" في النظام الشرق أوسطي، بحيث تتحول الدولة العبرية إلى وزن تكنولوجي وإقتصادي قادر على استتباع العديد من الجماعات العربية المذهبية والإثنية، وإلحاقها "بإسرائيل" كمركز قوة مسيطرة. من هنا، فالمشروع الشرق أوسطي هو مشروع أمريكي-صهيوني تتقاطع عنده مصلحة الرأسمالية الأمريكية في السيطرة على الثروات العربية من جهة، ومصلحة الصهيونية في إقامة دولتها التوراتية اليهودية في قلب الشرق الأوسط من جهة أخرى.
خامساً: النظرية الأمريكية الجديدة: جغرافيات سياسية متعددة في شرق أوسط كبير: في قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني المنعقدة في شباط 2004، تقدَّمت الولايات المتحدة الأميركية بوثيقة إلى القمة تحت عنوان: “مشروع الشرق الأوسط الكبير”) (. ترى الولايات المتحدة أنّ هناك ثلاث معوِّقات أساسية تحول دون تطور بلدان الشرق الأوسط، وتنعكس، بالتالي، سلباً على المصالح الأميركية والغربية، وهذه المعوِّقات هي: 1- غياب الحرية )أزمة الديمقراطية(. 2- بطء المعرفة ومحدودية الإرتكاز إلى العلوم الحديثة في التنمية العامة. 3- إختلال الهياكل الإقتصادية وتدني الإنتاجية. وتذهب الولايات المتحدة بعيداً في توصيف المعوّقات المشار إليها، وكذلك النتائج المترتبة عليها في الواقع، مستندة في طرحها إلى جملة من المؤشرات الرقمية الواردة في تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002-2003، وهذه أبرزها) (: - إجمالي الناتج القومي العربي لدول الجامعة العربية مجتمعة )22 دولة( هو أقل من ناتج دولة أوروبية واحدة هي إسبانيا. )هناك تقرير آخر صادر عن جامعة الدول العربية يقدر إجمالي الناتج القومي العربي بحوالي 50% من إنتاج إيطاليا(. - هناك 40% من العرب من هم في سنّ البلوغ، أي أكثر من 65 مليون شخص، هم أميّون وتشكل النساء حوالي 3/2 من هذا العدد. - في العام 2010 سيدخل أكثر من 50 مليوناً من الشباب العربي سوق العمل، وفي العام 2020 سيتضاعف العدد 100 مليون، أي أنّ الحاجة الأكيدة تقتضي خلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة أو فرصة عمل جديدة سنوياً من أجل مواجهة استيعاب هذه الكتلة البشرية المستجدة في سوق العمل. - إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة العربية أكثر من 25 مليوناً بحلول 2010 أي ما يفوق 30% من قوة العمل الفعلية، مع الإشارة إلى أنّ البطالة في بعض الأقطار العربية قد تصل إلى أكثر من 50% من قوة العمل. - حوالي 3/1 سكان المنطقة يعيشون على أقل من دولارين أميركيين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة يجب أن يتضاعف النمو الإقتصادي عن مستواه الحالي الذي هو دون 3% ليصل إلى 6% على الأقل. - أكثر من 51% من العناصر الشابة العربية عبّروا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية. - أكثر من 25% من خريجي الجامعات العربية يهاجرون سنوياً إلى الخارج )أميركا وأوروبا( وهم الأكثر تفوقاً في مجال التحصيل العلمي. - لا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1,1% من الإجمالي العالمي السنوي )مع الإشارة إلى أنّ الكتب الدينية تشكل أكثر من 15% منها(. - يبلغ عدد الكتب المترجمة إلى اللغة العربية أقل من 1/5 أي 20% من تلك المترجمة إلى اللغة اليونانية التي لا ينطق بها سوى 11 مليون شخص. - إعتماد شبه كلي على استيراد التكنولوجيا من الخارج. - 1,6% من السكان بإمكانهم استخدام الأنترنت، وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى من العالم، بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. - هناك أقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل 1000 شخص في البلدان المتطورة. - لا تشغل النساء سوى 3,5% فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية بالمقارنة، على سبيل المثال، مع 8,4% في إفريقيا جنوب الصحراء. إنّ المعطيات الرقمية المشار إليها ستفضي إلى المزيد من التوترات الإجتماعية والسياسية الداخلية في بلدان الشرق الأوسط من جهة، وستزيد أيضاً من ظاهرة “التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة” للملايين من الأشخاص الشرق أوسطيين إلى أميركا وأوروبا وغيرها من جهة أخرى. لجأت الولايات المتحدة إلى توظيف ذريعة الإحصاءات المذكورة من أجل تبرير تدخل أميركي على المستويات كافة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، يتولى صياغة “شرق أوسط أميركي " بمساعدة أوروبية ملحقة أكثر منها قائمة على التكافؤ في الشراكة مع الولايات المتحدة. فالإدارة الحاكمة في أميركا "إدارة المحافظين الجدد" راحت تدعو أوروبا بإلحاح تحت التلويح بالمخاطر المهددة لمصالحها في المستقبل، راحت تدعوها إلى المساعدة في إعادة هيكلة الشرق الأوسط بما يستجيب لحاجات الرأسماليات الصناعية وفي مقدمتها مجموعة الثماني إلى شراكة بعيدة المدى مع قوى الإصلاح في الشرق الأوسط، وهي قوى تقوم أميركا وأوروبا في خلقها وتهيئتها وتثقيفها وتنشئتها. أما أولويات الإصلاح من المنظور الأميركي فتتمحور حول ثلاث قضايا مركزية: 1 - تشجيع الديمقراطية. 2 - بناء مجتمع معرفي. 3 - إصلاحات هيكلية اقتصادية. تذهب الولايات المتحدة إلى درجة المغالاة في تضخيمها الدعاية حول هذه الإصلاحات، وهي تستبق النتائج التي قد تنتهي إليها من حيث أنها السبيل أو بالأحرى خارطة الطريق إلى التنمية الشاملة في المنطقة. فالديمقراطية السياسية والإدارية هي الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والتخطيط الإقتصادي القائم على المبادرة والتوسع في مجال الأعمال هو ماكينة التنمية والآليات المحققة لها.
1 - - تشجيع الديمقراطية: إنّ الديمقراطية والحرية، كما جاء في النص الأميركي،هما " ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية، لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير". ويلفت النص الأميركي الإنتباه إلى تقرير )فريدوم هاوس( للعام 2003، الذي يعتبر فيه " إسرائيل "على أنها البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير المصنف بأنه حر». أما البلدان العربية فهي على أدنى درجة من الحرية مقارنة بين سبع مناطق في العالم في أواخر التسعينيات. وكذلك احتلت المنطقة العربية المرتبة الأدنى في العالم في القواعد والبيانات التي تقيس التعبير عن الرأي والمساءلة" . إنّ الديمقراطية التي تروّج لها الولايات المتحدة ليست أكثر من حملات دعائية تهدف بالنتيجة، إلى إلغاء الحواجز والسدود التي تحول دون حرية رأس المال وتوفير المناخات الملائمة لحركة دائمة من المراكمة المالية. فالولايات المتحدة، في عصر العولمة، تعيش حالة من التحوّل في مفاهيم الديمقراطية من ديمقراطية الطبقة الرأسمالية التي عرفتها الدولة السيادية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى ديمقراطية الشركة العملاقة التي باتت تقف فوق الدولة في الوقت الحاضر. أما أبرز استهدافات المشروع الأميركي في مجال تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير فهي تتمثل بإحلال المفاهيم التالية: 1 -أن تكون النخبة المحلية الحاكمة على صلة بأميركا والغرب وموالية لهما. 2 - أن تكون المؤسسات مفتوحة لمشاركة المواطنين ولكن بطرق حصرية واضحة. 3 - أن تجري الإنتخابات بشفافية لكن ضمن خيارات مخطط لها سلفاً، بحيث ينبغي التأكد من أن النخبة التي تخوضها هي وحدها المسموح بها. 4 - يوجّه الرأي العام بشكل دقيق من خلال الرقابة الذاتية واستطلاعات الرأي التي تتحول إلى قوة تهيمن على خيارات الناس. 5 - أن تكون الحياة العامة غير مسيّسة، بحيث يتم الفصل بين ما هو سياسي وما هو إقتصادي. فالسياسة تدار بواسطة محترفين وبواسطة مؤسسات المجتمع المدني، في حين يتحول بقية الناس عملياً إلى متفرجين يشاركون بين الحين والآخر في انتخابات مخطط لها بدقة، وينشغلون بأمورهم الحياتية وهمومهم المعيشية. 6 - خلق قوى سياسية وحزبية متعددة حتى يشاع أنّ المناخ السائد هو مناخ ديمقراطي، لكن هذه القوى والأحزاب هي مجوعات شديدة التأييد والولاء للولايات المتحدة وللغرب عموماً لتكون في النهاية جزءاً من “الكفاح” السياسي ضد قوى الأصولية واليسار العلماني " ( 14.). إنّ الشرق الأوسط الكبير الذي تريد أميركا أن تشكله سياسياً هو عبارة عن فسيفساء أو موزاييك طوائف ومذاهب وإثنيات بحيث يتاح لها التعبير عن خصوصياتها ومشاركتها في الحياة السياسية تأكيداً لفئويتها من جهة، ولتبعيتها للمرجعية الأميركية الحاضنة من جهة أخرى. وهكذا، في ظل هذا المشروع تنتهي الدولة المركزية التقليدية لتحل محلها الدولة الفدرالية التي هي عبارة عن اتحاد بين مجموعة طوائف أو مذاهب أو إثنيات عرقية. وعند ذلك تظهر في الشرق الأوسط الكبير سلسلة لا تنتهي من الفدراليات السياسية بحيث تختفي معها الهوية الوطنية والقومية وتُلغى الأمة كوحدة انتماء للجماعة البشرية الواحدة. 2 - بناء مجتمع معرفي تمثل المعرفة الطريق إلى التنمية والانعتاق، خصوصاً في عالم يتسم بعولمة مكثّفة)15(. لقد أخفقت منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي كانت في وقت مضى مهد الاكتشاف العلمي والمعرفة إلى حد بعيد، في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي. فالفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة ونزف الأدمغة المتواصل منها، يشكلان أكثر العوامل سلبية تجاه عملية التنمية وانطلاقها واستمراريتها. من المفيد ذكره في هذا المجال، أنّ الولايات المتحدة كانت الممانع الأكبر في سبيل امتلاك بلدان الشرق الأوسط، باستثناء " إسرائيل "، معرفة علمية متطورة، لا سيما منها تلك التي يمكن تحويلها إلى معرفة إنتاج. فالولايات المتحدة تعاملت مع الشرق الأوسط وستظل تتعامل معه لاحقاً من كونه يمثل لها كتلة سكانية وازنة على مستوى العالم من جهة، وكتلة سوقية استهلاكية لمنتجاتها وشركاتها من جهة أخرى. هي الولايات المتحدة التي منعت على العرب امتلاك التكنولوجية تحت أي ظرف من الظروف. فقد منعت قيام أي محطة نووية للأغراض السلمية أو المحطات الكهربائية لمعالجة مياه البحر في الخليج والدول العربية الأخرى، وحتى عن السعودية التي بقيت السند الرئيسي للإقتصاد الأميركي لسنوات عديدة ماضية، والمكان الذي يصل منه أكبر حجم من الإيرادات العسكرية الأميركية. وكذلك منعت الولايات المتحدة مصر، وهي الحليف الأكبر في الشرق الأوسط بعد كامب ديفيد والمرحلة الساداتية وما بعدها للولايات المتحدة، منعتها من بناء برنامج نووي سلمي بمساعدة فرنسا وألمانيا، إذ راحت أميركا تضغط بكل الوسائل المالية والسياسية لوقف البرنامج. وبعد حرب تشرين أول 1973، وعندما حاولت كل من مصر والسعودية والإمارات وقطر إنشاء الهيئة العربية للتصنيع، تدخلت أميركا لدى الأقطار الخليجية وحملتها على الإنسحاب من المشروع في محاولة مكشوفة لحرمان العرب من امتلاك أو من تأسيس تجربة صناعة ناجحة. وإذا كان من سبب جوهري لضرب العراق واحتلاله فهو لأن العراق بدأ يمتلك القوة العسكرية، وبدأ يقترب من التكنولوجية النووية ويطور التكنولوجية الكيميائية، وبدأ ينتج العقول والأدمغة العراقية )العلماء( كل ذلك بقدرات عراقية وصولاً إلى إنتاج نموذج عراقي ذي خصوصية عربية قادرة على منافسة النماذج الأميركية والإسرائيلية والأجنبية.
3 - التوسع في الإصلاحات الإقتصادية: النظرة الأميركية إلى الإصلاحات الهيكلية الإقتصادية، حسب مشروع الشرق الأوسط الكبير، تقوم على اعتماد الآليات التالية: 1 - اعتماد كل الوسائل المتاحة من أجل تأمين ليبرالية متفلتة لرأس المال دونما أية حواجز أو موانع من قبل الدولة أو مجموعة الدول لأسباب سياسية. 2 - اطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة عن طريق خصخصة واسعة لقطاعات الدولة )التعليم، الإعلام، الصحة، الخ...( بما في ذلك القطاع العسكري أي خصخصة الجيش وتحويله إلى قوى أمنية تحرس الشركات وتؤمن حمايتها، وإلغاء وظيفة الجيش في الدفاع عن السيادة الوطنية وعن الدولة الآخذة بالتلاشي. 3 - التوظيف الهائل للرساميل المتوفرة لدى الشركات العملاقة المتعدية الجنسية، في مشروعات استثمارية بعيدة المدى وخاصة في القطاع النفطي. 4 - تعزيز فاعلية القطاع المالي والتوسع في مجال إقراض المشاريع على اختلاف درجاتها. وقد تضمنت الوثيقة الأميركية الدعوة إلى إنشاء ما يلي: 1 - مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير، وهي كتلة مالية تقوم بتمويلها مجموعة الثماني أي ( G8) وذلك بهدف المساعدة على تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير، وعلى أن تكون إدارة هذه المؤسسة من قادة القطاع الخاص )من أصحاب الشركات الكبرى وحاملي الأسهم الكبار من مجموعة الثماني(. 2- 2 - بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير، وهو بنك يعتمد في تمويله على مقرضين أو ممولين من مجموعة الثماني ومن منطقة الشرق الأوسط الكبير نفسها. أما الهدف الأبعد لهذا البنك فهو يتمثل بخلق شراكة مالية شرق أوسطية-أميركية تساهم بفعالية في تعزيز العولمة المالية للولايات المتحدة كقطبية أحادية سياسية وإقتصادية ومالية وثقافية وعسكرية. وحسب الإعلان الأميركي، أنّ هذه المؤسسة الجديدة تعمل على “توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم والعناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية )أي في إطار خصخصة التعليم والصحة والخدمات(. كما بإمكان بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير “أن يكون مذّخراً للمساعدة التكنولوجية واستراتيجيات التنمية لبلدان المنطقة، واتخاذ قرارات الإقراض أو )المنح( يجب أن تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة”)16(. 3 - الشراكة من أجل نظام مالي أفضل، بحيث تستطيع الولايات المتحدة ومعها الدول الصناعية المتقدمة، أن تقوم بتطوير نظام خدمات مالية في المنطقة يساعد على إندماج بلدانها في النظام المالي العالمي، والهدف من إصلاح النظم المالية القائمة في الشرق الأوسط الكبير سيتيح “حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة من خلال تقديم تشكيلة من المساعدات التقنية والخبرات في مجال الأنظمة المالية مع التركيز على تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية، ورفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول، وتحديث الخدمات المصرفية وتقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لاقتصاد السوق وإنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية”)17(. إنّ المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير يفتقر إلى البراءة، فهو لا يستهدف تلبية حاجاتنا الوطنية والقومية في الإصلاح والتطوير وهي حاجات باتت أكثر من ضرورية، وإنما يستهدف أولاً وأخيراً، صياغة شرق أوسط أميركي ينسجم مع أهداف “مشروع القرن الأميركي الجديد”، وهو قرن الأحادية الأميركية في عصر العولمة المنتصرة وهما في التاريخ والساعية إلى تنميط العالم إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً وفكرياً وثقافياً وفقاً لقيم ومعايير الرأسمالية الأميركية خصوصاً والغربية عموماً. إن العقل الأميركي في عصر العولمة، يسعى إلى إعادة صياغة الشعوب الشرق أوسطية والعربية منها بوجه الخصوص، بحيث تتلبس أفكارا وأنماط سلوك النموذج الأميركي – الغربي، الأمر الذي ينتهي بإخضاع الشعوب المذكورة ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، وإنما حضارياً وسلوكياً أيضاً. أما تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير فهو نقطة الإرتكاز في السياسة الاستراتيجية الأميركية التي كانت خطوتها التأسيسية الأولى احتلال العراق وتقديمه كنموذج يجري تعميمه على سائر بلدان الشرق الأوسط، كل ذلك وفق مخطط هجومي أميركي يشكل خروجاً على مستويات ثلاثة: أولاً: خروج على الدولة الأميركية السيادية نفسها، فالإمبريالية الأميركية بشركاتها العملاقة باتت تضع نفسها فوق الدولة الأميركية وقوانينها )توظيف الدولة لصالح الشركات(. وهنا تكون أميركا في عصر العولمة قد خرجت عملياً عن " دولة كينز ونظرية الدولة الكنزية " التي جاء بها كينز في مطلع ثلاثينات القرن العشرين. فالآن باتت الشركة العملاقة فوق الدولة كحالة قانونية أو دستورية أو سيادية. ثانياً: الخروج على القانون الدولي الذي مانع إسقاط أي نظام سياسي بالقوة العسكرية والاحتلال العسكري المباشر. فاحتلال العراق لا يستند إلى أي مبرر أو مسوغ قانوني يتيح لأميركا أن تلغي استقلال هذا البلد وسيادته الوطنية وتستأثر بثرواته الطبيعية. ثالثاً: الخروج على منظمة الأمم المتحدة التي لم تمنح الولايات المتحدة أي تفويض بشن الحرب على العراق واحتلاله. وهنا تكمن الخطورة الكبرى في الخروج على الوضعية السيادية للمنظمة الدولية ودفعها تواجه المصير نفسه الذي واجهته عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي )القرن العشرين(.
إسرائيل والشرق الأوسط الكبير الأميركي: عند الشرق الأوسط الكبير تتقاطع المصالح الاستراتيجية لقوتين اثنتين: الأولى، رأسمالية الذروة الأميركية )الشركات العملاقة( الثانية، الصهيونية التوراتية وذراعها العسكري – السياسي )إسرائيل( ترى الولايات المتحدة في" إسرائيل "، بالدرجة الأولى، مشروعاً استثمارياً حقيقياً في الشرق الأوسط، يهدف إلى تقويض النظام الإقليمي العربي بما يخدم المشروع الأميركي نفسه لجهة قيام نظام شرق أوسطي – اقتصادي – أمني على أنقاض جامعة الدول العربية كنظام إقليمي عربي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية. أما مصلحة " إسرائيل "من خلال إقامة شرق أوسط كبير فهي إلى جانب كونها سوف تحتل حضوراً محورياً وازناً في المنطقة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، فإنها ستجد في المشروع حلمها التلمودي يتحقق في إقامة " إسرائيل الكبرى " من الفرات إلى النيل. وأبرز الدلالات على ذلك هو الدخول الإسرائيلي اليوم بشكل مكثف إلى العراق بحيث أنشأت إسرائيل حتى الآن ثلاث محطات أمنية للموساد الإسرائيلي: محطة في بغداد، والثانية في كركوك، والثالثة في روسيتا على الحدود العراقية القريبة من سوريا. هذا بالإضافة إلى تمادي " إسرائيل" في مسألة تهويد الإقتصاد العراقي وكذلك الأراضي والفنادق والدور في بغداد والموصل وكركوك، وهناك العديد من الشركات الإسرائيلية لشراء الأراضي في كردستان وغيرها، الأمر الذي يساعد على تعزيز النفوذ الصهيوني الإقتصادي والأمني والسياسي في العراق كمدخل إلى الخليج وسائر الدول العربية الأخرى. والأمر نفسه يحدث حاليا، بعد طوفان الأقصى، من الدخول الإسرائيلي الى الأراضي السورية واللبنانية، وممارسة حرب الإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية المحتلة.
خلاصة واستنتاج: لمَّا كان مشروع الشرق الأوسط قد استمر ثابتاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأميركية يستجيب لمصلحة رأسمالية الذروة الأميركية من جهة، ولمصلحة الصهيونية في إقامة دولتها الإسرائيلية فاليهودية من جهة أخرى، فإنّ هذا المشروع لما هو إبتكار آليات للتفتيت والتجزئة المستمرة في جغرافيات المنطقة العربية السياسية والإجتماعية، فإنَّ ما يحدث اليوم من حروب أهلية مذهبية وعرقية وجهوية في غير دولة عربية في العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر وتونس والسودان والصوما وسواها، هذه الحروب جاءت لتوفر الفرصة التاريخية لترجمة تطبيقية لمشروع الشرق الأوسط في أرض الواقع العربي بوصف المجال العربي هو بمثابة المجال الحيوي للشرق الأوسط برمته. إنَّ الحروب المفتوحة في غير ساحة عربية تنذر بوضع المنطقة العربية على عتبة تحول استراتيجي في جغرافيتها السياسية، ذلك أن ما تشهده هذه المنطقة من الانقسام السياسي – الاجتماعي المقرون بالشحن المذهبي، والإفراط في التطرف والعنف الدموي، هذا الإنقسام بلغ، في غير دولة أو كيان سياسي من الدول والكيانات السياسية العربية مستوى عميقاً، بحيث بات من المتعذر إلى حدّ الاستحالة استمرار هذه الدول أو الكيانات كما كانت في جغرافيتها السياسية والاجتماعية قبل تفجر الحروب الأخيرة، ذلك أن التفتيت والإنقسام العمودي لم يعد مقتصراً على مستوى الجغرافية السياسية وحدها، وإنما، وهنا الأمر الأخطر، بات يصيب البنية المجتمعية التي اتخذت، وما تزال، أشكالاً انشطارية ذات طابع مذهبي وعرقي ومناطقي. إنَّ صعود الاسلام السياسي إلى واجهة السياسة والحرب الدائرة في غير بلد عربي، جاء ليقدم حاجة أكثر من ضرورية للسياسة الأميركية في مباشرتها ترسيم جغرافيات سياسية جديدة في المنطقة العربية تقوم على الضم والفرز لإنتاج مجتمعات مغلقة مفرغة من هوياتها الوطنية والقومية، وذلك عبر اعتماد آليات تقوم على العنف والإقصاء والتكفير، وتنتهي إلى إقامة إمارات سلطوية مستقبلها في الماضي في وقت لم يكن لها في الحاضر والمستقبل سوى الفراغ والتدمير وعدم الاستقرار. وأخيراً، وحتى يكون الربيع العربي ربيعاً عربياً وقادراً على مواجهة التحديات الضاغطة، وفي مقدمتها مشروع الشرق الأوسط الكبير غير البريء، فإنَّ الضرورة التاريخية تقضي بوجوب تلمس الخطوط الكبرى لمشروع نهضوي عربي يكون قادراً على التأسيس لتجربة نهضوية تقوم على التكامل والتفاعل الحي بين حركات التحرر الوطني والقومي من أجل إنتاج إستجابات جديدة تأخذ بالمجتمعات العربية إلى النهوض والتقدم، وإلى الإسهام في بناء الحضارة الإنسانية.
هوامش
(1) سيَّار الجميل، المجال الحيوي للشرق الأوسط إزاء النظام الدولي القادم: من مثلث الأزمات إلى مربع الأزمات، تحديات مستقبلية، المستقبل العربي، العدد 184، حزيران (يونيو) 1994، ص 11-13. (2) ربيع كسروان (معدّ)، الملف الإحصائي: إحصاءات الطاقة في الوطن العربي، المستقبل العربي، ا لعدد 297، تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، ص 190. (3) بشأن الاحتياطي العربي من النفط والغاز، أنظر، الملف الإحصائي: إحصاءات الطاقة في الوطن العربي والعالم، المستقبل العربي، العدد 277، آذار (مارس) 2002، ص 195، وأيضاً، العدد 297، تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، ص 196-197. (4) جامعة الدول العربية، الأمانة العامة [وآخرون، التقرير الاقتصادي العربي الموحَّد للعام 2006، الملحق الرقم (2/7)، ص 261. (5) أطلس المجال الجغرافي، جونية-لبنان، طبعة أولى، 2001، ص 142-143. (6)جامعة الدول العربية، الأمانة العامة [وآخرون)، التقرير الاقتصادي العربي الموحَّد لأعوام 2006، 2007 و 2008. (7) بشأن الخصائص الجيو-استراتيجية والجيوسياسية للوطن العربي (المجال الحيوي للشرق الأوسط)، أنظر: محمد مراد، السياسة الأميركية تجاه الوطن العربي بين الثابت الإستراتيجي والمتغير الظرفي، دار المنهل اللبناني للنشر، بيروت، طبعة أولى، 2009، ص 347-353. (8) بشأن الدراسات الغربية حول الشرق الأوسط، راجع: جميل مطر، وعلي الدين هلال، النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة سابعة، 2001، ص 29 و 33. (9) المرجع نفسه، ص 34. (10) المرجع نفسه، ص 35. (11) المرجع نفسه، ص 35. (12) أنظر النص الكامل لمشروع الشرق الأوسط الكبير في: “الحياة” اللبنانية، تاريخ 13 شباط 2004، وأيضاً: السياسة الدولية، العدد 156، نيسان (إبريل) 2004، ص: 297-301. (13) بشأن تفاصيل وافية حول تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2003 – راجع ملحق “السياسة الدولية” باللغتين العربية والإنكليزية العدد 156، نيسان (إبريل) 2004، ص: 7-43، وكذلك المستقبل العربي، العدد 303 أيار 2004، ص: 134-163. (14) فؤاد مغربي: “الصراع العربي – الصهيوني في النظام العالمي”، في: “العرب ومواجهة إسرائيل – إحتمالات المستقبل”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة أولى، 2000، ص: 113. (15) تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2000. (16) الحياة عدد 13 شباط 2004. (17) الحياة عدد 13 شباط 2004.
#محمد_مراد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية: لبنان بين العبور الى الدولة
...
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
المزيد.....
-
لحظة دبلوماسية.. شاهد مصافحة ترامب وماكرون خلال مراسم جنازة
...
-
الطائرات بدون طيار ستكون منقذة للحياة على قمة جبل إيفرست.. ك
...
-
رئيس هيئة الأركان الروسية يلخص لبوتين نتائج تحرير مقاطعة كور
...
-
مضغ اللبان ـ عادة منذ 10 آلاف سنة.. فما فوائد وأضرار -العلكة
...
-
إعلام رسمي: أكثر من 400 مصاب في انفجار في ميناء بجنوب إيران
...
-
انتخاب البابا الجديد: أسماء كثيرة ولا يوجد مرشحون رسميون
-
لاعبة كرة قدم أفغانية بارزة تواجه خطر الترحيل من ألمانيا
-
إيطاليا أغلقت المجال الجوي فوق روما لضمان مرور آمن للموكب ال
...
-
يسرائيل هيوم: هكذا سرق الموساد وثائق إيران النووية
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ من اليمن ومسيّرة من الشرق
...
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|