عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 00:06
المحور:
الادب والفن
للروائية العراقية منى سعيد الطاهر
السكن الجديد
انتقلت العائلة من مدينة الحلة إلى الكرادة الشرقية في بغداد، درءًا لمخاطر التهديدات السياسية ذات الطبيعة الأمنية. تمنح بغداد الواسعة الوافدين إليها من المدن الأخرى غطاءَ حمايةٍ على الأقل من الناحية النفسية. تتوقف الرواية عند الأهمية التاريخية والجمالية لحي الكرادة الشرقية، الذي يحتضنه نهر دجلة بحنان من ثلاث جهات. هذا الى جانب حافز عائلي وشخصي لمصدر رزق العائلة ـ محمود، الذي سبق له السكن في ذات الحي، قبل إنتقاله الى الحلة. ظلت المنطقة في ذاكرته، بل إختار سكنًا مجاورًا لمسكن آل الشعرباف من ذوي القربى. هذا فضلاً عن تمتين علاقاته مع خيرة المبدعين والباحثين العراقيين في شتى حقول العلم والمعرفة، أمثال: علي جواد الطاهر، عناد غزوان، الشاعر محمد صالح الجعفري، الأديب مهدي المخزومي والشاعر جواد علوش وغيرهم.
بدأت العائلة تنظم شؤونها، خاصة دراسة الأبناء. إنتظمت بلقيس الابنة الكبرى لمحمود في الاعدادية الشرقية للبنات، وصبَّار باعدادية ابن حيان للبنين. كما وجدت الحاجة الكبيرة فسحتها الروحية في مرقد الشيخ إدريس، تشكو له ويشد أزرها. ما أن تجاوزت العائلة انفعالات السكن الجديد والمقارنات بين اليوم والأمس. جاء إنقلاب 8 شباط 1963 ليشكل محطة فاصلة في حياة الأسرة. طالت الإعتقالات من الأبناء كلًا من صبَّار و بلقيس. كان مروعًا ما تعرضا له من تعذيب مع بقية المعتقلين. ألقى الإعتقال كابوس حزن وقلق على العائلة كلها. لكن محمود إستطاع إنقاذهما من قبضة السجن. لم تدم الفرحةُ طويلًا، إذ بعد شهر واحد فقط تم اعتقال محمود نفسه.
فكر محمود بعد إطلاق سراحه بزواج ابنته بلقيس بابن أخيه قاسم. ضمن محاولات ترتيب شؤون العائلة. لكن سليمة كانت ترسم لابنها مصيرًا آخر... بأن تزوجه فتاة من قريتها. ظل قلبها يغلي ويرسم الخطط ضد هذا الزواح. على الرغم من أن قاسم شبه عاطل عن العمل، ولا يملك الخصائص التي تمتلكها بلقيس. ومن بين دسائسها، اقترحت إستقدام خادمة لمساعدة العائلة في خدمات البيت. أعلنت هذا الموقف على أساس، أن بلقيس مشغولة في عملها، وهي باتت إمرأة كبيرة عاجزة عن تقديم المساعدات لمتطلبات العائلة الكبيرة. جرى الترحيب بالفكرة من الجميع. راجعت بلقيس نفسها بعد أن رأت جمال الفتاة وغنجها. توسع العلاقة بين قاسم والخادمة. أثار ذلك غضب بلقيس فطالبت بالإنفصال. أضطر محمود للرضوخ لرغبة ابنته. على الرغم من محبته لقاسم. صعق الجميع بعد حين بخبر هروب قاسم مع الخادمة وعقد قرانهما.
غادر محمود الدنيا حاملاً أفراحها وأتراحها. كبرت وتقدمت العائلة كلها في السن. ليس من السهل التعويض عن مكانة محمود ودوره. تُلزمُ سليمةُ زوجَها حامد بتدبير منزل جديد لها. تنامت سلطتها في البيت دون منافس. أعادت ولدها قاسم وزوجته الخادمة السابقة الى كنفها. تولى حامد أعمال أخيه محمود. عائلة حامد بدأت تسير في طريق الرفاهية وعائلة محمود سارت بطريق الآخر. كان الفتات من نصيب عائلة محمود. تتراكم المصائب حيث عانت الحاجة الكبيرة من تعسف وإذلال المتسلطة سليمة. فأصيبت بحالة من الاكتئاب الخفي المدعوم بالشيخوخة العمرية والنفسية، إلى حين رحيلها الأبدي. بعد أربعينية الحاجة عاد هيثم الأبن الأكبر لمحمود من الخارج. حاول إقتطاع جزء من حديقة البيت الكبير لعائلته لبناء شقق سكنية له وأخوته. بدأ العمال بحفر أسس المبنى. ثم جاءت سليمة من البيت المجاور مهددة بقتل عمهم، إذا واصلوا العمل. صب هذا الموقف لعنات على العائلة لعقود لاحقة.
لا تمهل الأقدار أحدًا، حيث حوَّل رحيل حامد ثم زوجته سليمة، حفلات العائلة الى زيارات أسبوعية لمقبرة وادي السلام. سناء وحمدية ابنتا سليمة تأخرتا في توقيت احدى الزيارات للمقبرة، على الرغم من التحذير بصدد خطر الزيارات عند حلول أو إقتراب المساء. حين أقبل الليل عليهما همّتا بالمغادرة. أدى الإفراط بالحزن إلى أن يضلا طريقهما. سارتا في طريق التيه والقلق. في لحظة غادرة خطف رجال ملثمون سناء تاركين حمدية التي فقدت وعيها. ظلَّ البحثُ عن سناء همًا عائليًا دائمًا. حتى عندما نُثرت قنابل غارات 30 دولة عام 1991 على العراق، قالوا أو تخيلوا: ربما كانت سناء بين الأجساد المتناثرة. كل الأحداث الجسام عند مرورها على العراق، يكون للعائلة فيها نصيب، منها: قصص هجرة 1979، إجتياح لبنان عام 1982، إنعكاسات وحدة اليمن والإلتحاق بقوات الأنصار وغيرها.
فتيات العائلة:
كان القهر الاجتماعي والنفسي أشد وطأة على فتيات العائلة، خاصة عند المقارنة بالفتيان. خلال محاولة تتبع ظهورهن في الرواية. تظهر حمدية صغرى بنات سليمة. وقد تعرضت لصداقة موحشة فيها غدر ظالم. غدر بها شريك حياتها المفترص. تركها وأمها في رعب الحمل والولادة. حمدية ابنة سليمة تراجع نكباتها في التعذيب عام 1963، وكذلك هموم زوجها الذي نضال مع المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان. فَقَدَ احدى عينه وفقد إصبعين في قادسية صدام. تشوهت قدماه في حرب الكويت 1991. كما عانت مع زوجها من الفقر وغدر الزمن.
ألقت التراجعات والانعطافات السياسية بظلال قاتمة على العراق. تصاعد القمع والتنكيل في عام 1979 ضد الشيوعيين بصفة خاصة. كان لأبناء زمردة: هيثم، بلقيس وسميرة نصيب بين الضحايا. إتسم سلوك سميرة بالتمرد والشجاعة مشحونًا بشيء من الرومانسية المندفعة. هربت مع صديقها السوري رائد برًا الى دمشق، وتزوجا هناك. عمل زوجها حمالًا وهي كاشيرة في محل خردة.
بذلت اختها رضوة من جانبها جهودًا واسعة، من أجل العثور عليها. لكن تلك الجهود أوقعتها بمصيبة أشد. لأنها اعتمدت في جهودها على إنسان لا يستحق الثقة. أما هيفاء البنت الصغرى لزمردة، فيطربها صديقها الجامعي عندما يَصفها ويَقارنها بالتفاحة. بلقيس من جانبها خلقت مناظرة فلسفية مع نفسها: يوجد فرق بين الواقع والتوقع. وإن القناعات تنمو وتتطور، كما تنمو و تتراكم الأعوام. هي لا ترفس ماضيها. إنما تحاججه بوعي جديد عصرته الحياة. تحاور ماضيها وحاضرها بإيقاعات العقد السادس من مسيرة العمر.
كانت حياة حوراء بنت زمردة مروعة. فقدت طفلتَها، نتيجة لسرعة السيارة التي تقلها وابنتها وزوجها في أحد المنعطفات. مما أدى الى فتح باب السيارة الخلفي، لتنقذف الطفلة في الشارع. ثم تدهسها سيارة أخرى مسرعة خلفهم. حَمَّلها زوجُها المسؤولية، مما أدى الى الطلاق. أما وردة فقد أعدم زوجها بعد إعتقال دام خمس سنوات وظل مجهول المكان. حصلت وردة في وقت لاحق على عمل في الإمارات ثم في قطر. تزوجت في الدوحة، و لم يدم الزواج طويلا.
وأخيرًا محمد أصغر أبناء سليمة، فقد ترك العراق هربًا من بطش السلطة. تلقفته أيادي المهربين فوجد نفسه في البندقية بإيطاليا، التي أدهشته بجمالها. حصل على فرص عمل بمهن بسيطة: نادل، عامل مخبز، وأخيراً عامل في أحد دور المسنين.
تجلى فيض المرارة بقول بلقيس: "لكن حتى حين قُتلَ أبطالنا لم يُحملوا على الأكتاف، بل لم تكن لهم قبورٌ أو شواهد... لا توجد خيبة، إنما تساؤل يذكي العقل والخيال والمشاعر بكل تناقضاتها وحيويتها" "نحن ملوك على أعمارنا فهل نستطيع الحفاظ على مملكتنا؟!". هذه الحصيلة التي توصلت إليها بلقيس، ربما تكون بلسمًا لعاديات الزمن. تعترف بلقيس بما حَلَّ بالعائلة من مصائب. تجد مبررًا لبعض الحسرة بين الحصيلة وتقويمها، هذا الى جانب التساؤل عن امكانات حماية ما تبقى. لكن بلقيس بالوقت ذاته ترفضُ إيقافَ نبضِ الأمل.
يتبع
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟