|
الهوية بين القومية والمدنية: قراءة عربية في المأزق الثقافي المعاصر (دراسة من خمسة فصول-)
خالد خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 00:06
المحور:
قضايا ثقافية
الفصل الأول: الهوية العربية بين الروح والمدنية: تأصيل المفاهيم وتحديات العصر
مقدمة
في خضم التحولات الجذرية التي تشهدها المجتمعات العربية، تعود إلى الواجهة إشكالية الهوية بصفتها سؤالًا مؤسسًا لجدل لم يُحسم بعد: هل نحن إزاء هوية قومية شاملة؟ أم هوية مدنية طوعية؟ وهل يمكن تخليق هوية جديدة تتجاوز الثنائية التقليدية بين “الانتماء الثقافي الجمعي” و”الانتماء السياسي الفردي”؟
ليست هذه الأسئلة ترفًا فكريًا، بل تنبع من عمق الانقسام الذي تعاني منه المجتمعات العربية، ومن إخفاقاتها المتكررة في بناء دول مستقرة تحتضن التعدد وتحفظ الانتماء. في هذا السياق، يتجدد الاهتمام بأعمال مفكرين مثل عزمي بشارة وبرهان غليون، بوصفهما من أبرز من حاولوا إعادة صياغة مفهوم الهوية بما يلائم الدولة الحديثة، لكن دون أن ينجوا من الانتقادات التي ترى في طرحهم تبعية لمفاهيم مستعارة من النموذج الغربي.
أولًا: من القومية إلى المدنية – تحولات المفهوم
شهد الفكر العربي منذ بداية القرن العشرين محاولات حثيثة لبناء هوية قومية جامعة، تستند إلى وحدة اللغة والثقافة والتاريخ، كما تجلّى في أطروحات ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق. غير أن هذه المشاريع اصطدمت بعدة تحديات: 1. واقع التجزئة السياسية عقب اتفاقية سايكس-بيكو. 2. التنوع الطائفي والإثني واللغوي الذي لم يكن قابلًا للذوبان في خطاب قومي أحادي. 3. توظيف الأنظمة الاستبدادية للقومية كأداة للشرعية السلطوية، مما شوّه جوهر المشروع القومي.
إثر ذلك، ظهرت أطروحات حديثة تدعو إلى إعادة تعريف الهوية على أساس مدني-سياسي، بدلًا من الانتماء العِرقي أو الثقافي. وكان من أبرز هذه المحاولات، ما طرحه عزمي بشارة، الذي رأى أن القومية يجب أن تكون مشروعًا مفتوحًا وديمقراطيًا، يُبنى على إرادة العيش المشترك، والمواطنة المتساوية، لا على الارتكاز إلى هوية ما قبل سياسية.
ثانيًا: الهوية المدنية في فكر عزمي بشارة وبرهان غليون
يُعد عزمي بشارة من ابرز المفكرين العرب الذين نقدوا البنية الشمولية للهوية القومية التقليدية، ودعوا إلى تبنّي نموذج الهوية المدنية. في أعماله، مثل أن تكون عربيًا في أيامنا، يُفرّق بشارة بين: • القومية الثقافية: التي تستند إلى عناصر اللغة والدين والتاريخ، وغالبًا ما تُقصي الأقليات. • والقومية المدنية: التي تقوم على التعدد والمواطنة، وتتجاوز الانتماءات الأصلية إلى انتماء سياسي طوعي.
أما برهان غليون، فيرى أن مشروع الهوية المدنية في العالم العربي لا يمكن أن ينجح دون تحول ديمقراطي حقيقي، يُنتج عقدًا اجتماعيًا جديدًا، يُنهي التبعية للطائفة والعشيرة، ويستبدلها بالانتماء إلى دولة المؤسسات.
لكن هذا التوجه، برغم عمقه النظري، لم ينجُ من النقد، لا سيما في شبهة الاستلاب المفاهيمي، إذ أن المفهوم المدني للهوية هو بالأصل نتاج تاريخ خاص بالحداثة الأوروبية، لا يُمكن فصله عن سياقات العلمنة، وتفكك البنى الإقطاعية، وصعود الفردانية، فهل يمكن نقله كما هو إلى السياق العربي؟
ثالثًا: الاستنبات أم الاستيراد؟ في نقد المفهوم المدني
يطرح عدد من المفكرين العرب، مثل طه عبد الرحمن وحسن حنفي، نقدًا جذريًا لفكرة الهوية المدنية كما تُقدّم في الخطاب الحداثي. • طه عبد الرحمن يرى أن المفاهيم المدنية “تُفقد الهوية بعدها الروحي”، وتحول الإنسان إلى كائن قانوني منزوع الأخلاق. الهوية، حسب تصوره، لا بد أن تُبنى على أخلاقية مستمدة من الوحي، لا من التعاقد البشري البارد. • أما حسن حنفي، فيدعو إلى إعادة تأويل التراث في ضوء الحاضر، لا استيراد مفاهيمه من الخارج. ويرى أن الهوية لا يمكن أن تكون مدنية إلا إذا كانت عدلية اجتماعيًا، نابعة من الثقافة الجماهيرية، لا مفروضة من فوق.
هذا النقد يفتح أفقًا لسؤال مركزي: هل الهوية المدنية في السياق العربي مشروع تحرّر، أم إعادة تدوير للهيمنة المفاهيمية الغربية؟
رابعًا: مقارنة عالمية – هل الهوية المدنية فكرة “غربية فقط”؟
في السياق الأوروبي، تبلورت الهوية المدنية كرد فعل على الحروب الدينية، وأصبحت جزءًا من مشروع الدولة الليبرالية الحديثة، كما شرحها مفكرون مثل: • جون رولز: الذي يرى في المواطنة المتساوية أساسًا للعدالة. • بينيديكت أندرسون: الذي وصف الأمة بأنها “جماعة متخيلة”، تتأسس على شعور مشترك، لا عِرق مشترك. • إيريك هوبسباوم: الذي أكد أن “القومية هي اختراع حداثي” هدفه خلق شعور بالانتماء لتبرير الدولة.
غير أن التجربة الآسيوية، خاصة في الهند واليابان وإندونيسيا، تُقدّم نماذج بديلة لهويات مدنية ناجحة، لكنها مبنية على أساس ديني وثقافي غير غربي. فالهند مثلًا، حافظت على التعدد ضمن نظام مدني ديمقراطي، رغم انتمائها الحضاري المختلف، مما يُثبت أن الهوية المدنية ليست بالضرورة حكرًا على الغرب، وإنما يمكن تفكيكها وإعادة بنائها محليًا.
خاتمة: نحو هوية هجينة؟
الهوية في السياق العربي المعاصر ليست سؤالًا نظريًا، بل معركة وجودية، تتقاطع فيها رواسب الماضي مع تحديات المستقبل. ربما يكون الحل في تجاوز الثنائية بين “الهوية القومية المغلقة” و”الهوية المدنية المستوردة”، نحو بناء هوية هجينة: • مدنية في بنيتها السياسية. • روحية في قيمها. • ثقافية في جذورها. • إنسانية في تطلعها.
هوية كهذه لا تُقلّد الغرب، ولا تنغلق على التراث، بل تُبدع نموذجًا جديدًا من الداخل، يُجيب على أسئلة الواقع، لا على أسئلة الآخرين.
الفصل الثاني: إشكالية الانتماء والانقسام – من الدولة إلى الجماعة
تمهيد: ليست أزمة الهوية في العالم العربي سوى انعكاس لأزمة أعمق: أزمة الانتماء. فعلى مدار قرن كامل من محاولات بناء الدولة الوطنية، لم تنجح معظم الأنظمة السياسية في تجاوز الولاءات التقليدية (الطائفة، القبيلة، العِرق، الحزب، الجماعة...) إلى ولاء مدني موحد للدولة. ومع كل انتكاسة سياسية أو اقتصادية، كانت المجتمعات العربية ترتدّ إلى هوياتها الأولية، وكأن الدولة الوطنية لم تنجح في تمثيل وجدانها أو تأمين ولائها. وهنا يبرز السؤال المؤلم: لماذا فشلت الدولة في أن تصبح "جماعة جامعة"؟ وما العلاقة بين ضعف الانتماء السياسي وتصاعد الانقسام الاجتماعي؟
أولًا: تفكك الدولة الوطنية – أعراض أم أسباب؟ رغم أن تأسيس الدول العربية جاء نتيجة تحولات كبرى بعد الاستعمار، إلا أن معظمها نشأ ككيانات إدارية لا كعقود اجتماعية. لم تُبْنَ على التوافق، بل على توازنات قسرية فرضتها نخب حاكمة، غالبًا ما همّشت الهويات الفرعية أو قمعتها. وهنا يمكن رصد ثلاث ظواهر متكررة: 3. الهوية الرسمية مقابل الهويات المحلية:
اعتمدت كثير من الدول على "هوية مفروضة" من الأعلى، تتجاهل التعدد القائم على الأرض. مما خلق حالة من الاغتراب والاحتجاج الصامت أو العنيف. 5. المواطنة الشكلية:
بقيت المواطنة في كثير من الدول العربية "قانونية بلا مضمون"، إذ لم تتحول إلى مساواة فعلية في الفرص والحقوق، بل ظلت النُخب تُعيد إنتاج الامتيازات عبر الولاءات الضيقة. 7. الدولة الأمنية بدل الدولة الاجتماعية:
تحوّلت الدولة في أكثر من موضع إلى أداة للضبط والسيطرة، بدلًا من أن تكون حامية للكرامة والعدالة، مما زاد من فقدان الثقة وعمّق الانقسام بين الناس ومؤسسات الحكم.
ثانيًا: الجماعة كملاذ – الدين والطائفة والعِرق كأطر بديلة في ظل تراجع شرعية الدولة، عادت الجماعات الدينية والطائفية والإثنية لتؤدي وظيفة الحاضن والملجأ. هذا الارتداد لا يُقرأ فقط بوصفه "نكوصًا" إلى ما قبل الدولة، بل يُفهم أيضًا كـ آلية دفاعية: * الدين أصبح فضاء للعدالة حين غابت العدالة من النظام. * الطائفة تحوّلت إلى "وطن صغير" حين خذل الوطن الكبير أبناءه. * القبيلة استعادت حضورها حين أصبحت الدولة عاجزة عن تقديم الأمن. لكن هذا "الانتماء البديل"، برغم شرعيته النفسية والاجتماعية، قد يتحول إلى قيد سياسي يُعطّل بناء الدولة الحديثة، ويعيد إنتاج التقسيم بدل الوحدة.
ثالثًا: المواطنة الراديكالية – نحو تجاوز الانقسام إذا أردنا تجاوز هذا الانقسام البنيوي، فإن الحل لا يكمن في إلغاء الهويات الفرعية، بل في الاعتراف بها ضمن إطار سياسي عادل. وهنا يبرز مفهوم "المواطنة الراديكالية" بوصفه تجاوزًا لكل من: * المواطنة الشكلية التي لا تُحقق العدالة. * والهويات المغلقة التي لا تقبل التعدد. المواطنة الراديكالية، كما تبلورت في بعض التجارب اللاتينية والآسيوية، تُؤسّس على: 3. الاعتراف بالاختلاف لا إنكاره. 5. توزيع عادل للسلطة والموارد. 7. بناء عقد اجتماعي جديد ينطلق من الإرادة الشعبية لا من إرادة السلطة.
رابعًا: بين النموذج اللبناني والمغربي والتونسي – تجارب من الواقع * في لبنان، أدى النظام الطائفي إلى ترسيخ الانقسام بدل تجاوزه، لكنه حافظ – paradoxically – على الحد الأدنى من تمثيل التعدد. * في المغرب، ثمة محاولة للجمع بين مرجعية دينية (الملكية الروحية) وهوية أمازيغية/عربية في ظل إصلاحات تدريجية. * في تونس، بَرزت تجربة المجتمع المدني القوي، كفاعل قادر على التفاوض بين الدولة والمجتمع، خاصة بعد الثورة. كل تجربة تُظهر جانبًا من الصراع بين الدولة والجماعة، بين الفرد والموروث، وبين الطموح الديمقراطي والواقع الهوياتي المتشابك.
خاتمة الفصل: في المجتمعات التي لم تكتمل فيها الدولة، تبقى الجماعة هي الأصل. لكن في المجتمعات التي تريد أن تنهض، لا بد أن تتحول الدولة إلى "جماعة جامعة". لا تعني هذه التحولات نفي التراث، بل تعني تجاوزه نحو أفق أوسع من العدالة والانتماء. الانتماء لا يُفرض... بل يُبنى. وبناء الانتماء يبدأ من إصلاح الدولة، لا من تفكيك المجتمع.
الفصل الثالث: الهوية الرقمية والافتراضية – تحديات العولمة الثقافية
تمهيد: إذا كانت العقود السابقة قد شهدت جدلًا حول الهوية القومية والمدنية داخل إطار الدولة الوطنية، فإن العقد الأخير حمل تحولًا نوعيًا: انفجار الفضاء الرقمي، الذي خلق مجتمعات بديلة، وشبكات انتماء لا تعترف بالجغرافيا ولا بالحدود. في هذا السياق، لم تعد الهوية تُصاغ فقط من خلال الدولة أو الجماعة، بل باتت تُعاد هندستها عبر خوارزميات، ومنصات، و"سرديات افتراضية"، قد تُغني عن الانتماء التقليدي، أو تُضاعف من تمزقه. فهل نحن أمام "تحرر من الهويات القسرية"؟ أم أمام "تبديد للهوية في فراغ رقمي"؟
أولًا: من الجغرافيا إلى الخوارزمية – تفكيك الهوية أم إعادة تشكيلها؟ الهوية، في الفضاء الرقمي، لم تعد مجرد انتماء ثابت، بل أصبحت عملية مستمرة من البناء والتفاوض، تقوم على: * التمثيل الذاتي (Self-curation): حيث يُعاد تقديم الذات بصورة مختارة، أحيانًا مُتخيلة. * الانتماء الشبكي: حيث ينتمي الفرد إلى مجتمعات رقمية عابرة للثقافة والدين والجنس. * إنتاج الرموز والتفاعل مع السرديات البديلة: مما يخلق فضاءً جديدًا للهويات المصنوعة. هذا الواقع الرقمي أتاح للفرد حرية التشكل، لكنه في الوقت ذاته أضعف الروابط التقليدية، وطرح تحديات غير مسبوقة على الهويات الثقافية، التي باتت "مخترقة" من سرديات العولمة وتيارات ما بعد الحداثة.
ثانيًا: العولمة الثقافية – هل انتهى عصر الهوية الثابتة؟ العولمة الثقافية، بدفع من الفضاء الرقمي، لم تكن مجرد تبادل معلومات، بل فرض سرديات مهيمنة: * النزعة الاستهلاكية بوصفها نمط حياة. * نموذج "النجاح الفردي" بدل الانتماء الجمعي. * الهيمنة البصرية والإعلامية الغربية بوصفها معيار الذوق والمعنى. وكنتيجة لذلك، نشأت ظواهر مثل: * ازدواجية الهوية: حيث يتحدث الفرد لغة في بيته وأخرى على الإنترنت. * انفصام الانتماء: بين ما يعيشه جسديًا وما ينتمي إليه رقميًا. * الاستلاب الرمزي: حيث تُعاد صياغة رموز الهوية (اللغة، الدين، اللباس...) بما يُناسب "منطق السوق".
ثالثًا: الشباب العربي والهوية الرقمية – مقاومة أم انصهار؟ يُشكّل الشباب الفئة الأكثر اندماجًا في العالم الرقمي، مما جعلهم في قلب معركة الهوية الجديدة. * في بعض السياقات، لعبت الشبكات الاجتماعية دورًا تحرريًا (كما في الربيع العربي)، حيث أعادت صياغة الذات السياسية والهُوية النضالية. * في سياقات أخرى، تحولت هذه الشبكات إلى أدوات للانسلاخ الثقافي، أو إلى بيئات للفراغ الوجودي، كما يتجلى في تصاعد المحتوى السطحي، والتشظي النفسي. لكن اللافت، أن بعض المبادرات الرقمية بدأت تحاول استعادة الهُوية من داخل الفضاء الرقمي، عبر: * قنوات يوتيوب تُعيد تقديم التراث بطريقة شبابية. * تيارات فكرية على تيك توك وإنستغرام تحاور الدين والفلسفة. * إنتاج محتوى روحي/صوفي يُخاطب الحنين إلى المعنى وسط الضجيج.
رابعًا: نحو هوية رقمية روحية؟ محاولة تأويلية في ظل الانفصال المتزايد بين الجسد والهوية، بدأت تظهر دعوات لدمج البعد الروحي بالهوية الرقمية، بحيث لا تكون الهُوية مجرد تمثيل اجتماعي، بل تعبيرًا عن جوهر الإنسان. * بعض المدارس الصوفية الرقمية (Digital Sufism) بدأت تستثمر الفضاء الافتراضي لنشر قيم التجلي والسكينة. * وهناك دعوات لبناء "بصمة رقمية روحية" تُعبّر عن حضور الفرد المتصل بالله، لا المتصل فقط بالإنترنت. هل يمكن، إذًا، أن يكون الفضاء الرقمي فرصة لتجديد الهُوية لا لطمسها؟
وهل بإمكان التكنولوجيا أن تُستعاد كأداة للتجلي لا كوسيلة للتمويه؟
خاتمة الفصل: الهوية لم تعد محصورة في الدم والأرض، بل امتدت إلى الموجة والذرة والمعلومة.
ومع أن الفضاء الرقمي يهدد الهُويات التقليدية، إلا أنه قد يكون – إذا أُحسن توظيفه – أداة لتخليق هُوية هجينة، متجذرة في الروح، متصلة بالعالم. هنا لا يكون الخيار بين "التراث أو التقنية"، بل بين "هوية خاملة وهوية فاعلة".
الفصل الرابع: البعد الروحي في تشكيل الهوية العربية – مقاربة صوفية
تمهيد: في زحمة الجدل بين القومية والمدنية، وبين الهوية الرقمية والانتماء الواقعي، يُهمل غالبًا بعدٌ جوهري شكّل وجدان الإنسان العربي والإسلامي عبر القرون:
البعد الروحي.
هذا البعد، الذي تجلّى بأبهى صوره في التجربة الصوفية، لا يقف عند حدود التعبّد الفردي، بل يقدّم رؤية كونية للهوية، لا تُختزل في العِرق أو الأرض أو الدولة، بل في السفر الداخلي نحو المعنى، وفي الانتماء إلى الإنسان بوصفه خليفة الله. فهل تستطيع المقاربة الصوفية أن تُلهم إعادة بناء هوية عربية، متجاوزة للتجزئة، وللاستلاب، وللاختناق بالراهن؟
أولًا: الهوية في الرؤية الصوفية – الذات مرآة الحق الهوية، في التصور الصوفي، ليست قالبًا يُفرض من الخارج، بل كشْفٌ داخلي يتجلى كلما تحررت الذات من أنانيتها. * يقول ابن عربي: "مكانك لا يزاحمك فيه أحد، فأنت أنت، لا تتكرر." * ويؤكد الجيلاني: "الهوية الحقة هي أن تُنسى نفسك في حضرة من لا يزول." في هذا الأفق، تُصبح الهوية: * تجليًا لله في الإنسان. * تحررًا من الانتماءات القشرية (القبيلة، المذهب، الحزب). * ولادة جديدة من الداخل، تبدأ بالخلوة وتنتهي بالوصال.
ثانيًا: الصوفية والهوية الجامعة – من التعدد إلى الوحدة التجربة الصوفية العربية، خصوصًا في المغرب والمشرق، أبدعت مفهومًا فريدًا للهُوية:
هوية روحية جامعة، تتسع للهندي والفارسي، للقبطي والأمازيغي، طالما كان القلب ساجدًا. * مدارس مثل القادرية، الشاذلية، والرفاعية، جمعت شعوبًا ولغات ومذاهب في حضرة الذِكر. * القصائد الصوفية، من الحلاج إلى الرومي إلى ابن الفارض، قدمت هوية لا تُقصي، بل تحتضن التعدد في وحدة المعنى. بذلك، يمكن القول إن التصوف العربي كان – دون أن يرفع شعارات سياسية – أول من مارس المواطنة الروحية، وأول من أسّس أمة لا قومية ولا مدنية، بل "وجودية".
ثالثًا: التصوف المعاصر والبحث عن الهوية في زمن التيه اليوم، ومع تصدع الهويات الكبرى، يعود التصوف كملاذ، خصوصًا لدى: * الشباب الباحث عن المعنى وسط ضجيج الاستهلاك. * المنفيين واللاجئين الذين فقدوا كل انتماء جغرافي، لكنهم لم يفقدوا علاقتهم بالله. * الناقمين على الخطاب الديني السياسي أو الفقهي الجاف، الباحثين عن الرحمة لا السلطة. تطبيقات حديثة مثل "Sufi Meditation Center"، و"الحكمة العميقة في الإنستغرام"، تُعيد تقديم التراث الروحي بلغة العصر.
لكن الخطر يكمن في اختزال التصوف إلى "منتج هدوء" أو "تأمل عصري"، مما يُفرغه من عمقه التحرّري.
رابعًا: نحو هوية عربية روحية – ملامح مشروع بديل الهوية الروحية ليست بديلًا عن الهوية السياسية، لكنها بُعدٌ يؤنسنها، ويعيد لها معناها الأخلاقي. يمكن اقتراح نموذج لهوية عربية روحية، تتسم بـ: * الانتماء إلى "المعنى" لا إلى "القالب". * الاتساع للتنوع بوصفه تجليًا للحقيقة الواحدة. * المركزية الأخلاقية في بناء الذات والعلاقات. * التحرر من الاستلاب الحداثي، دون الانغلاق على التراث. وهذا لا يعني الانسحاب من الواقع، بل النزول فيه بنَفَسٍ روحي، يُعيد للسياسة والاقتصاد والثقافة بُعدها الإنساني.
خاتمة الفصل: في عالم يتسارع نحو التفتت والسطحية، تبدو العودة إلى البُعد الروحي في تشكيل الهوية فعل مقاومة ناعمًا، لكنه عميق.
فالتصوف، حين يُفهم بوصفه سعيًا للحقيقة لا هروبًا منها، يمكن أن يكون منبعًا لهوية عربية هجينة، تعانق الروح، وتستوعب العالم، وتبدأ من الداخل.
الفصل الخامس: نحو إعادة بناء الهوية – بين النموذج الروحي والنموذج الوطني، والتحدي التربوي
تمهيد: بين هاجس الانتماء وقلق التعدد، وبين الجاذبية المتزايدة للنموذج الروحي والتحديات البنيوية للنموذج الوطني، تبرز الحاجة إلى نموذج هوياتي بديل.
نموذج لا يُقصي الروح باسم الدولة، ولا يلغِي الدولة باسم المطلق، بل يصوغ هوية إنسانية عربية قادرة على العيش في عصر متغير، دون أن تفقد جذورها. هذا الفصل يتناول محورين: 2. مقارنة بين تجارب حديثة لدمج البُعد الروحي والوطني في بناء الهوية. 4. التحدي التربوي كشرط حاسم في إنجاح أي مشروع هوياتي مستقبلي.
أولًا: الهوية بين الروح والوطن – قراءة في النماذج الحديثة 1. تركيا – النموذج المزدوج: الدولة والروح تحت سقف واحد * بعد عقود من التغريب القسري، عاد الإسلام – والتصوف تحديدًا – إلى المشهد العام التركي، لكن في إطار قومي تركي صارم. * نموذج أردوغان قدّم "هوية وطنية ذات طابع روحي"، لكنه قومي النزعة ومركزي الإدارة، مما أبقى التعدد الديني والإثني في موضع التوتر. 2. إيران – الهوية العقائدية كبديل للدولة الوطنية * الهوية في إيران شيعية قبل أن تكون وطنية، مما جعل الدولة مرتبطة بعقيدة مذهبية لا تستوعب التعدد. * رغم الحضور القوي للروح والرموز الدينية، فإنها تُستخدم غالبًا كوسيلة ضبط، لا مصدر تحرّر. 3. ماليزيا – التوازن النسبي بين الإسلام، الدولة، والتعدد * قدمت ماليزيا نموذجًا لهوية إسلامية مدنية متعددة الأعراق. * حافظت على المرجعية الروحية، لكن دون قسر، ونجحت نسبيًا في جعل "الهوية الماليزية" مقبولة حتى من غير المسلمين. * ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، خاصة في ظل التوترات الاقتصادية والعرقية. خلاصة المقارنة: كل نموذج حاول التوفيق بين الهوية الروحية والهوية الوطنية، لكن بدرجات متفاوتة من النجاح والانفتاح. التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على التأسيس لا التوفيق، على الإبداع لا التلفيق.
ثانيًا: التحدي التربوي – من التعليم إلى التكوين أي مشروع هوياتي، مهما كانت رؤيته، سيسقط إن لم يكن له حاضنة تربوية.
فالهوية لا تُحمل في الخطابات، بل تُبنى في الوعي عبر: 1. المناهج التعليمية: * لا تزال معظم المناهج العربية تُرسّخ إما هوية قومية جامدة، أو هوية دينية مغلقة، أو هوية مدنية مستوردة. * نحتاج إلى مناهج تعلّم التعدد، والرحمة، والانتماء إلى القيم، لا إلى الشعارات. 2. الخطاب الإعلامي: * الإعلام اليوم يُشتت الهوية أكثر مما يبنيها، ويدفع باتجاه هويات استهلاكية سائلة. * المطلوب هو خطاب يحاور العقل والوجدان معًا، ويستعيد اللغة المشتركة بين الفرد والمجتمع. 3. الفضاء الرقمي: * صار جزءًا لا يتجزأ من تكوين الذات، خاصة عند الأجيال الجديدة. * يجب استثماره في خلق مساحات تفاعلية تعزز الهوية الإيجابية، لا فقط كأداة ترفيه أو استقطاب سياسي. 4. دور المعلم والمربي: * لا يمكن للتربية أن تُختزل في الكتب، بل تحتاج إلى نموذج إنساني حيّ في الصف، في الأسرة، وفي المجتمع. * المعلم الحقيقي ليس من يُلقّن، بل من يُشعل شعلة الهوية في طلابه، لا يطفئها بالمواعظ أو الأحكام.
خاتمة الكتاب: الهوية ليست إجابة جاهزة، بل سؤال مستمر، يتطلب شجاعة في الطرح، وعمقًا في الإصغاء، ومرونة في البناء. نحن اليوم أمام مفترق طرق: * إما أن نستمر في استيراد الهوية كمنتج مفاهيمي جاهز. * أو أن نغرق في الانغلاق الدفاعي باسم الأصالة. * أو أن نصنع هوية جديدة، هجينة، مستنيرة، متجذرة ومتجاوزة. هوية: * روحية لا تتهرب من الدولة. * وطنية لا تُقصي الروح. * مدنية لا تنسى الأخلاق. * ثقافية لا تنكر التنوع. إنها ليست مشروع دولة فقط، بل مشروع وعي.
قائمة المصادر والمراجع أولًا: المصادر الفكرية والنظرية 3. عزمي بشارة، أن تكون عربيًا في أيامنا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013. 5. برهان غليون، اغتيال العقل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985. 7. طه عبد الرحمن، سؤال الهوية بين التقليد والتغريب، المركز الثقافي العربي، 2006. 9. حسن حنفي، التراث والتجديد، دار التنوير، 1980. 11. إيريك هوبسباوم، الأمم والقومية منذ عام 1780، ترجمة: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2007. 13. بينيديكت أندرسون، الجماعات المتخيلة، ترجمة: ثائر ديب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008. 15. جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986. 17. ميشيل عفلق، في سبيل البعث، دار الطليعة، 1972. 19. قسطنطين زريق، معركة المصير الواحد، دار العلم للملايين، 1962. 21. ساطع الحصري، حول القومية العربية، دار الطليعة، 1961.
ثانيًا: في السياقات العالمية والنماذج المقارنة 13. فريد زكريا، مستقبل الحرية: الديمقراطية غير الليبرالية في الوطن وخارجه، دار الكتاب العربي، 2012. 15. أمارتيا سن، الهوية والعنف، ترجمة: فاضل جتكر، دار الساقي، 2008. 17. علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، دار الأمير، 1997. 19. نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر، 1992. 21. مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، 1990.
ثالثًا: في البعد التربوي والثقافي 18. باولو فريري، تربية المقهورين، ترجمة: فؤاد أقليموس، دار الفارابي، 2003. 20. عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، 2002. 22. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، دار الوراق، 1998. 24. حسن حنفي، دراسات في فكرنا المعاصر، دار التنوير، 1981. 26. عبد الكريم بكار، تكوين المفكر، دار السلام، 2006.
رابعًا: مقالات وأبحاث مساندة 23. رضوان السيد، “المواطنة والدولة المدنية في الفكر العربي المعاصر”، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 165، 2012. 25. فهمي جدعان، “من الهوية إلى الكينونة”، المفكر، العدد الأول، 2016. 27. هالة دياب، “الهوية في الإعلام العربي”، أبحاث جامعة لندن للإعلام والهوية، 2014. 29. ياسين الحاج صالح، “صراع الهويات”، مجلة الآداب اللبنانية، 2017.
#خالد_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محمود عباس: حين يتحوّل -الصمت الرسمي- إلى شبهة تواطؤ
-
بين المستعمِر والمستعمَر: في نقد إمكان التفاهم – تعليق على ط
...
-
حينما وجدتني فيكِ
-
نسيتني إلى ان تلقفني الله
-
سماءٌ تمشي على قدمين
-
نزع سلاح حماس وحزب الله: طرح إعلامي أم مشروع إستراتيجي؟
-
صوامع الألم
-
كتاب : “حين أنجبت الريح طفلًا”
-
أنا الذي حلم بي القدر ثم نسيني قصيدة من خمسة فصول نثرية
-
الجهاد بين فرض العينية ورؤية الدولة: قراءة فقهية في ضوء الفت
...
-
حين يصير القلب وطنًا
-
التعريفات الجمركية في عهد ترامب: بين سيادة الاقتصاد الأمريكي
...
-
قيامة الطين والنور
-
ضعي قلبي بين يديكِ
-
تجلِّيات العابر الأخير
-
إمكانية التحديث والنهضة في اليمن بقيادة أنصار الله: بين السي
...
-
التحديث في العالم العربي وإشكالية السيادة المنقوصة: بين العو
...
-
نبوءة الضوء
-
لغة الغيم
-
تداعيات الحرب على غزة وعودة اليمن إلى الساحة الإقليمية: قراء
...
المزيد.....
-
ترامب: -القرم ستبقى مع روسيا- في مقترح السلام.. وزيلينسكي يت
...
-
تدهور حاد بعلاقات البلدين.. إليك ما نعلمه عن التوتر الحاصل ب
...
-
وزير النفط الإيراني: موسكو وطهران تبحثان بناء منشآت نووية جد
...
-
السويد تشدد الرقابة على المتفجرات
-
زاخاروفا: روسيا تحمي العالم من النازية الجديدة
-
استدعاء جديد للناشط أحمد دومة أمام نيابة أمن الدولة: استمرار
...
-
كأس اسبانيا- برشلونة يسعى للرباعية وتكريس تفوقه على الريال
-
الجيش اللبناني يتخذ تدابير أمنية استثنائية على أثر الاشتباكا
...
-
عناصر من -الدعم السريع- يسلمون أنفسهم للجيش السوداني (فيديو)
...
-
ترامب: نتنياهو لن يجرني إلى حرب مع إيران ومستعد للقاء المرشد
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|