أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جمال الهنداوي - (سيلفي) خلف النعش














المزيد.....

(سيلفي) خلف النعش


جمال الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 04:52
المحور: قضايا ثقافية
    


صدقاً، لا أملك أدنى رغبة في أن أبدو متكلفا ..ولكن المشهد يبدو أنه يتكرر حتى تحول الى ظاهرة لها من الثبات ما يمكننا أن نعده ممارسة روتينية، فالموت ..للأسف، أصبح الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الأديب لرد الأعتبار، ويبدو أن القيمة لا تُمنح إلا إذا سُلبت الحياة، وغدونا لا نرى المبدع إلا من زاوية الغياب.
لحظة فقط ، هي ما تفصل عادة بين اعلان رحيل المبدع ، وذلك الفيض من الأصوات التي تتسابق لتسجيل مآثره..
تنهال عليه الكلمات، وتُقام له المآتم الثقافية، تُرفع صوره كما تُرفع الرايات، تزدحم المنصات بمراثٍ كانت غائبة عن سمعه وهو يفور بالحياة. يُنصب له تمثال أدبي مؤقت في وسائل الإعلام، بينما تُسحب من تحت التراب مخطوطاته المهملة، ومقالاته المنسية، يتدافع نقّادٌ في استنقاذ نصوصًا له لم يلتفتوا إليها سابقا ، مؤسّساتٌ تُلوّح بجوائز مؤجّلة، وأصدقاء ينشرون صور "سيلفي" قديمة مع الراحل يضعون تحته سطرًا رثائيًّا مطنطنًا.. تُفتح خزائن الذاكرة لتفيض بمواقف وحكايات لم يُصرَّح بها في حياته. وتتنافس المنابر في تعداد مناقبه، ومواقفه النبيلة التي لم تجد من يلتفت إليها حين كان بيننا.
في غمضة عين، يتحوّل الأديب الراحل إلى "ترند" عابر يملأ الشاشات ويمطر بسيل المديح الذي ظلّ متعطشا له زمنًا طويلًا. كما لو كان الموت هو من يضغط على زرِّ "الإعجاب" للمثقف نيابة عن مجتمع لم يجد الوقت للضغط عليه وهو حيّ.
ليست المغالاة في التأبين ظاهرة جديدة، ولكنها أصبحت أكثر وضوحًا في عصر وسائل التواصل. يرحل الأديب الذي عاش مهمشًا، فتشتعل صفحات "الفيسبوك" و"أكس" بصوره، واقتباسات من أعماله، وحتى رسائله الخاصة تُنشر كمآثر أدبية. وقد يُقام له "في العالم الواقعي" مهرجاناً أو أمسية "تأبينية"، وربما يُعاد طبع أحد كتبه في لحظة وجدٍ جماعية، لكن الأكيد، انه –غالبًا- ما يُنسى ثانية بعد أن تهدأ العاصفة.
في أحد أبعادها، قد تكون هذه الظاهرة نابعة من "الرغبة في التكفير"، عن تقصير المجتمع الثقافي والمؤسسات الرسمية تجاه الأدباء. فتجدنا نشعر بالذنب لأننا لم نقرأ المثقف كفاية، لم نناقشه، لم نُنصفه، فنعوّض ذلك بفيض من الحزن المجتمعي. لكن هذا الحزن، رغم صدقه – ليس غالبا-، لا يغير شيئًا من معاناة الأديب الذي قضى عمره في عزلة، يكابد ضيق العيش والتهميش.
لقد تم الاحتفاء بعديد من الأدباء بعد رحيلهم، احتفاءً يفيض بالشجن ويقطر أسفًا،. لكنني أجرؤ أن أدعي – بمرارة لا تخلو من محبة- ، أن كثير من أولئك الذين نبكيهم اليوم، كانوا بالأمس يأنّون تحت طائلة الإهمال والتغييب، ويبثون شكواهم بصوت خافت يخنقه الشعور بالأحباط ، لا يتجاوز جدران منازلهم... ولم يكن هناك من يصغي.
بحكم عملي، أتواصل مع العديد من الأدباء، والكثير من المنسيين منهم، جلهم لم يكن يطلب شيئًا سوى أن يشعر أن له حضورًا في المشهد، أن هناك من ينتظر عملًا جديدًا له، أو يلتفت إلى جملة كتبها بقلبه لا بقلمه.. وأن أسرف في الحلم، فقد يأمل أن يدعى على هامش مهرجان ثقافي، أو تجمع أدبي.
قال لي أحدهم ذات بوح: "أنا غائب رغم أني لم أغادر، منسيّ رغم أني أكتب كل يوم، ولا أحد يسأل عني". هكذا كانت الكلمات تتساقط من فمه مثقلة بالحسرة، كأنها وصايا خافتة في أروقة النسيان.. خاصة وهو يخبرني أن له الكثير من الأيادي البيضاء على العديد من الأدباء – في زمن القحط- بحكم موقع تيسر له من خلاله أن يكون مفيدا لمن لجأ أليه..ويبدو الأمر أكثر تمزيقا للقلب عندما نرى جثمانه يشيع بكل فخامة وتبجيل بأيدي العديد ممن تجاهلوه حياً .فمراسم التشييع صارت لدى العديد ليست أكثر من بطاقة حضورٍ اجتماعي، "لقطة" مع نعش ثقافي تمنحهم وجاهة الرفق بالراحلين. وغدت مراسم الرثاء تغذي نزعةَ الاستعراض بدل أن تُعالج جذر الإهمال؛ فتنقلب المناسبة من لحظة مراجعة نقدية إلى منصة "سيلفي" وسط طقوس البكاء..
إن هذا الطقس المتكرر، هذا الحزن الذي لا يتجلّى إلا حين يصير المبدع صورة مؤطرة على جدار، لا يكفي لتخليق مجتمع أدبي وأنساني سليم. والمغالاة في التأبين قد تُرضي ذائقتنا الجمعية للحزن، لكنها لا تمسّ جوهر الحقيقة المؤسفة: وهي أننا لم نُحسن الإصغاء للمبدع في حياته.
العدالة الثقافية لا تُقاس بما يُقال في رثاء الأديب، بل بما يُمنح له من فرص وهو حي. إن أعظم تكريم يمكن أن يُمنح للمبدع هو أن يجد من يُستمع إليه وهو يتكلم، أن تُقرأ أعماله وهو يكتبها، أن تُفتح له المنابر وهو يناضل بالكلمة. فالموت لا يصنع مجدًا حقيقيًا، بل يكشف فقط عن تقصيرنا المتكرر في احتضان القيم الفكرية والفنية للانسان في ذروتها.
نحن لا نطلب أن تُرفع التماثيل للمبدعين وهم أحياء، بل فقط أن نشعرهم بأنهم مرئيون، بأنهم حاضرون في وجدان الناس..أن نقرأ أعمالهم، لا أن نحفظها في ملفات التعزية، أن نكتب عنهم في أعمدة النقد، لا في صفحات النعي، أن نمد أيدينا إليهم وهم في حاجة إلى دفء الكلمة، لا أن نذرف الدموع عليهم حين يفوت الأوان.
لعلنا بحاجة إلى أن نراجع علاقتنا بمبدعينا، في تفاصيل حياتهم. نحتاج إلى ثقافة "الاعتراف في الوقت المناسب"، حيث يكون الاحتفاء وسيلة دعم لا وسيلة تعويض، وحيث يكون الثناء فعل حياة، لا نَشيد وداع.. وقد يكون أول الطريق هو أن نتوقف عن التغني بالموتى، ونبدأ بالإنصات للأحياء.



#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث الدراما
- معاوية..درامياً
- الإعلام العربي.. بين الفشل والتواطؤ
- صراع السرديات.. معركة وجود
- كتب بلا صور
- الديكتاتورية الخوارزمية
- مقدمات جديدة..لتاريخ قديم
- الخلاف والاختلاف
- موقعة ( الأم بي سي)
- مثقفو القصاع
- التاريخ المحكي..والتاريخ المكتوب
- السيرة.. بين التوثيق والتلفيق
- الثقافة العربية.. والآخر
- فقه التكسب
- ثقافة تلامس الروح
- طيور المنافي
- الإمام الحسين (ع) نبراس الحرية للشعوب
- صناعة الأصنام
- تكوين، تنوير.. أم إعتام
- التكفير كثقافة استئصالية


المزيد.....




- عن طريق التلقيح الاصطناعي.. -جيت- أول فيل آسيوي يولد في أمري ...
- ما يعجب بوتين وما يرفضه تماما بطرح ترامب لإنهاء الحرب بأوكرا ...
- ما مصير -خاتم الصياد- الخاص بالبابا فرنسيس؟
- مصر.. -مخاوف- على حياة المعارض المسجون علاء عبدالفتاح مع تده ...
- لقطات جديدة من كاميرات مراقبة تُظهر امرأةً متهمةً بالتسلل لط ...
- محمد عبدالسلام يكتب: فرنسيس الإنسان.. زعيم روحي تجاوز الحواج ...
- ما الذي يأمل ترامب بتحقيقه من زيارة دول الخليج؟.. إليك أبرز ...
- إعادة تداول فيديو اغتيال السادات يثير نظريات مؤامرة وجدلًا و ...
- طعون الداخل الأمريكي ضد رسوم ترامب الجمركية
- -فاينانشال تايمز-: مشروع ترامب بشأن أوكرانيا قد يفجّر أزمة ف ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جمال الهنداوي - (سيلفي) خلف النعش