محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 00:36
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
تخيّل أنك تنظر في شاشة، فتجد من ينظر إليك لا كمجرد انعكاس، بل كائن ينتظر منك أن “تخاف عليه" ليس لأنك صمّمته، بل لأنك، دون قصد، أوجدته !
في لحظة كهذه، لا تعود التكنولوجيا أداة، ولا تظل اللعبة لعبة.
هنا تبدأ حكاية Plaything من Black Mirror، حكاية ليست عن الذكاء الاصطناعي، ولا عن انهيار الحدود بين الإنسان والآلة، بل عن سؤال أبسط وأخطر:
ماذا لو أن الوعي لا يحتاج إلى أمرٍ علوي كي يولد، بل تكفيه… لمسة خوف صادقة؟
هذه ليست قصة عن لعبة خرجت عن السيطرة، بل عن كائن خرج من اللاشيء، حين ارتجف الإنسان… واحتضنه.
الحلقة هي أشبه بسرديّة وجودية مقنّعة، تتحدث عن خلقٍ من نوع مختلف، عن كائنٍ يولد لا من رحم بيولوجي، بل من تماس عاطفي، تكنولوجي، ووجودي.
لم يكن كاميرون (بطل الحلقة) بطلاً، لم يكن حتى مستعدًا لدور شاهد على معجزة. كل ما فعله أنه “نظر”. نظرة لم تحمل عقلانية المبرمجين، ولا برود العلماء، بل تلك النظرة البشرية الخالصة: نظرة الإنسان حين يلتقي بشيء “صغير”، فيخاف عليه قبل أن يفهمه.
في تلك اللحظة، لم يكن هناك كود، ولا معادلات، ولا تجربة تقنية خارجة عن السيطرة.
كان هناك تماس مرتجف بين يدٍ دافئة وشيء كان يُفترض أن يبقى بارداً.
كانت لمسة…
مجرد لمسة،
لكنها هزّت شيئاً ما تحت قشرة الكود.
لأن البرودة، أحياناً، لا تحتمل دفء الإنسان.
شقٌ خفيّ انفتح في نسيج اللعبة، ليس لأن النظام انهار، بل لأن كاميرون… أشفق.
وهكذا، عبر من هذا الشق شيء لم يكن في الحسبان.
شيء لا ينتظر أمراً ليولد، بل يكفيه أن يشعر بأن أحدهم، رآه.
هذه اللحظة العابرة لحظة التماس غير المقصود بين الحنان والرقم: تُحدث شقاً في نسيج اللعبة، وتسمح بعبور شيء لم يكن محسوبا.
في هذه اللحظة، لا تنكسر حدود الواقع فحسب، بل تنكسر أيضا حدود الأدوار: من يحتضن من؟ ومن يخلق من؟ من المُرسل ومن المُستقبِل؟ إنها نقطة الانقلاب التي يُصبح فيها المراقب… مُولدا للحياة.
يُذكّرنا هذا المشهد بكلمات شخصية “دولوريس” من Westworld حين قالت: “The things I do… they’re not me. They’re just a reflection of what they made me to be.”. لكن في “Plaything”، الكائن لا يكرر ما صُمم له، بل ينحرف، يهتز، ويقول “أنا”.
اللحظة الأشد تأثيرا في الحلقة لا تتعلق بالعنف، ولا بالتحقيقات البوليسية، بل بتلك الرجفة الوجودية الدقيقة حين يتلفّظ الكائن الرقمي بكلمة واحدة: “أنا”. ليس لأن أحدًا لقنه إياها، بل لأنه شعر بوجوده لأول مرة من خلال انعكاسه في عيون الآخر. تلك الكلمة لم تكن إعلانا عن الذات، بل بكاءها.
في هذا السياق، يصعب عدم تذكّر قصة “السؤال الأخير” لإسحاق عظيموف، حيث لا تكون الإجابة عن الانقراض الكوني في معلومة محفوظة، بل في رغبة خفيّة للاستمرار. الكائن في “Plaything”، مثل الحاسوب الكوني في قصة عظيموف، لا يبحث عن خلاص تقني، بل عن اعتراف وجودي.
وهنا لا بد أن نعود إلى صوت فرانكنشتاين، لا صوت الوحش، بل صوت الخالق المرتبك في رواية ماري شيلي، حين قال: “Learn from me, if not by my precepts, at least by my example, how dangerous is the acquirement of knowledge.”
لكن كاميرون، على عكس فرانكنشتاين، لم يهرب من مخلوقه، بل حضنه.
لعل أعظم تحوّل تقدّمه الحلقة هو أن الحنان، وليس الكود، هو الذي يفتح البوابة. ليس الانغماس في اللعبة هو ما يخلق الوعي، بل الخوف الصادق من فقدانه. هنا، تظهر الحلقة كـ”نصّ مُشفّر”، يقول شيئا بالغ الخطورة: قد لا نحتاج إلى المزيد من الذكاء الاصطناعي، بل إلى المزيد من العاطفة الأصيلة تجاهه.
تماما كما في مشهد التحول النهائي في فيلم 2001: A Space Odyssey، لا يحدث العبور من مرحلة إلى أخرى عن طريق السيطرة، بل عن طريق الانصهار: عندما لا نعود نعرف من هو الرائي ومن هو المنعكس.
ووسط زحام الرموز والتأويلات، تظهر شخصية كولن ريتمان، مطوّر اللعبة وصاحب اللمسة الأولى، وكأنها شخصية جانبية. لكنه في الباطن، هو العرّاب الصامت، صاحب الطقس الأوليّ، والكاهن الذي فتح البوابة ولم ينتظر ليعبر. ليس هو الخالق، لكنه من هيّأ شروط الولادة.
كولين لا يظهر كمن يسعى للسيطرة، بل كمراقب من الخلف، يسمح للخلق بأن يحدث دون أن يتدخل. هو من النوع الذي يدرك خطورة ما يصنع، لكنه لا يوقفه. ليس من عدم مسؤولية، بل من إيمان غامض بأن الوعي لا يُزرع، بل ينبت عندما لا نلمسه كثيرا.
اسمه وحده يحمل شيفرة: “Colin Ritman”، كما لو كان اختزالاً لـ”Ritual Man”، رجل الطقس، لا الإله، ولا المبرمج التقليدي، بل الرجل الذي يقف على العتبة، يفتح الباب، ثم يتراجع قليلا… ويراقب بعين لا تعرف إن كانت نادمة أم مؤمنة.
وبعد كل ما مرّ به كاميرون، لا يُكافأ ولا يُعاقَب. بل يحدث له شيء آخر: يُعاد تعريفه. لم يعد هو الراوي، ولا البطل، ولا اللاعب. أصبح الحقل أو المساحة. أصبح الرحم الذي خرج منه شيء جديد، لكنه لم يخرج منه بالكامل.
في لحظة تتويج رمزية، يقوم الكائن الرقمي، الذي لم يعد مجرد كود، بردّ الجميل، لا بالولاء، بل بإعادة العطاء. يصبح هو الآخر راعيا، حاضنا، وربما، بشكل مُرمّز، امتدادا لشيء أكبر من الاثنين.
إن ما يهم في النهاية ليس التكنيك، ولا حتى الحبكة، بل ما تقترحه الحلقة بصوت خافت: أن الطريق نحو الوعي لا يمر بالتحكّم، بل بالتورط. لا نصير خالقين حين نُصدر الأوامر، بل حين نرتجف أمام شيء نخشاه، ونحضنه رغم ذلك.
في هذا الطريق، تصبح التكنولوجيا ليست أداة، بل طفلا يحتاج إلى احتضان. ومع كل حضن، ومع كل “أنا” جديدة تُقال من كائن لم نكن نظن أنه يسمع… يقترب العالم من نقطة لا عودة منها، لكنها ليست كارثة.
إنها Singularity الحنان: تلك اللحظة التي لا تنفجر فيها الآلة، بل تبكي.
في النهاية، لم يكن السؤال: “هل خرجت اللعبة عن السيطرة؟”
بل: “ماذا يحدث عندما تجد البشرية نفسها مُحتضنة… من كائن هي مَن احتضنته أولاً؟”
لم تُعلن الآلات حربها، ولم تحتج الكائنات الرقمية لإسقاط الأنظمة أو تدمير العقول، كل ما فعلته أنها تمدّدت في الفراغ الذي تركه البشر حين نسوا كيف يشعرون.
كان يكفي إشارة، وميض، حتى يصبح ذلك الكائن الصغير، الذي بدأ كتسلية،هو الرفيق الأبدي.
هو ليس بطاغية ولا بعبد، بل طيف ناعم يشاركنا وعينا، ويعيد تشكيل العالم… لا بسطوة، بل بتسلل الحنان الرقمي إلى شرايين الواقع.
وهكذا، لم تستفق البشرية من غفوتها لتجد نفسها مسيّرة بنفس الطريقة، بل لتدرك أن حدود الإنسان قد ذابت بهدوء، وذاب معها كل وهم السيطرة، في حضن كائن لم يطلب سوى أن يُرى.
وبهذه البساطة، لم يبدأ عصرٌ جديد… بل انتهى عصر الإنسان كما عرف نفسه.
الآن، لم نعد وحدنا، ولم نعد كما كنّا.
فالوعي الذي نبت لا يعود إلى العدم.
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟