أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - حاسي الفريد / ما يشبه القصّة















المزيد.....

حاسي الفريد / ما يشبه القصّة


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 00:11
المحور: الادب والفن
    


على امتداد طريق ترابيّ متشقّق، يتلوّى كجُرح قديم يتصدّر صحراء حجرية ، تظهر قرية "حاسي الفريد" . بيوت متناثرة ، أشجار مثمرة عجوزة في قلب اراض صخريّة، تحني فروعها كأنّها تسأل عن المّارين، وآبار مغطّاة بالحجارة لعلّ أحدهم يعيد فتحها ذات يوم. في هذا الرّكن المنسيّ، لا تُسمع ضحكة طفل، ولا يُشمّ عطر الخبز السّاخن، ولا يعود الرّعاة مع الغروب. القرية، ببساطة، هجرت نفسها قبل أن يهجرها النّاس.
في الرّيف التونسيّ، لم تكن الحياة ترفا، لكنّها كانت ممكنة. البيوت تُبنى بسيطة مفتوحة دون أسوار . في فصل الشّتاء، يتجمهر الصّغار حول المدفأة الطّينية (الكانون)، يتقاسمون قطعة خبز وزيت زيتون، يروون حكايات الجدّة عن الغولة والنّخلة والجنّ، بينما تهزّ الرّيح أبواب البيت كأنّها تسلّم على ساكنيه.
في تلك الأيام، لم تكن الكهرباء متوفّرة، لكنّ الضوء لم يكن غائبا. كان الحبّ حاضرا في العلاقات، والكرم لا يحتاج إلى مناسبة، والرّزق يُقاس بعدد البيادر لا بحساب البنك. حين تمطر، تُعطى الأرض فرصة جديدة للحياة، وتفرح النّساء لأن النّبع لن تجفّ، وتُصلّى صلاة الشّكر بين الحقول.
كان أهل الرّيف يعرفون الفقر، لكنّهم لم يعرفوا الشّعور بالذلّ. "فقر نظيف"، كما يصفه الحاج بلقاسم، "لا يُخجلك أمام النّاس، لأنّ كلّ من حولك مثلك، وكلّ من حولك معك."
بلقاسم ، في أواخر السّبعين، كان يُلقّب في "حاسي الفريد" بـ"باسي". كان يملك بعض شجرة مثمرة، يعتني بها كما يعتني الرّجل بأبنائه. يرويها من بئر مهجورة أو من ما يمكن أن يحصل عليه من ماء الحنفيّة ريفية عموميّة ، ويطعمها من ماله ووقته.
لكنّه اضطرّ لتركها عندما مرضت ابنته زينب. لم يجد دواء ، ولا سيّارة إسعاف في المستوصف. حملها بنفسه على درّاجته إلى المدينة ، و لم تصل حيّة معه ، ومنذ تلك اللّيلة، لم يعد.
"المدينة لم تكن رغبتي، كانت مخرجي الوحيد"، يقول وهو يجلس أمام محلّ صغير يبيع فيه السّجائر والماء البارد. فقد معظم سمعه من ضجيج السيّارات، وتدهورت صحته بفعل الهواء الثّقيل و الحزن. لكنّه لا يشتكي، بل يتحدّث بنوع من الحياد الحزين: "الزّيتون لا ينمو في شرفات المدن."
أبناءه لا يفهمون حديثه عن الطّين والمحراث. يقول: "سألني ابني: كيف كنتم تعيشون دون كهرباء؟ قلت له: كنّا نعيش ببعضنا. الكهرباء ليست ضوء فقط، هي عزلة صامتة، كلّ في غرفته مع هاتفه."
"الفالحة " كانت تُعرف في الرّيف بخبرتها في تربية الماعز. كانت تغنّي لها وتربطها بأسماء. تعرف كلّ عنزة من مشيتها. تقول: "أحيانا كنت أشعر أنّني أفهمها أكثر من البشر."
لكنّ الجفاف و غلاء الاعلاف قضى على القطيع. مات منها بعض و بيعت ما صمدت منها ، ولم تستطع الحكومة تأمين علف ولا ماء. حين دفنت آخر عنزة بيديها، نظرت إلى الأفق وقالت: "لن أبكي. سأغادر."
في قفصة، وجدت "الفالحة" مكانا في سوق شعبيّة " سوق الفجر "، تبيع الخضار تحت مظلّة من القصدير. لم تعد تغنّي، ولم تعد تسمّي الأشياء. "هنا"، كما تقول، "النّاس لا يسألون عن اسمك. يسألون عن الثّمن فقط."
تفتقد "الفالحة" لأشياء صغيرة: صياح الدّيك عند الفجر، طقوس إعداد الخبز، لمعة الزّيت فوق صحن الفطور. "في الرّيف كنت فقيرة، لكنّني كنت سعيدة. اليوم، أملك مالا أكثر، لكنّني أضحك أقلّ.
في الرّيف، الأخلاق ليست بندا قانونيا، بل عُرفا يُمارَس. الجار يطرق الباب ليعطيك نصف حصاده، لا ليسألك عن نسبك أو حسبك . حين تفرح، يفرحون معك، وحين تحزن، يبكون أمامك لا خلفك. كانت الحشمة سلوكا لا قيدا، والحياء فضيلة تُمدح، لا ضعفا يُعاب.
في المدينة، تتبدّل القيم بتبدّل الأدوار. لا أحد يعرف جاره ، سوى قلّة قليلة، ولا أحد يسأل. كل شيء مشروط: الحبّ مشروط، الاحترام مشروط، وحتى الصّدقة تُلتقط بعدسة كاميرا.
في الرّيف، تُعقد الصّفقات بكلمة شرف. في المدينة، لا تنجو حتّى بعقد موثّق. الكلمة لم تعُد ميثاقا، بل ورقة مهملة في ركام المصلحة. في الرّيف، كان الإنسان مرآة الإنسان. في المدينة، الإنسان ظلّ ظلّه.
المدينة لا ترحم البسطاء. حين يصل الرّيفي إلى المدينة، يصل بلا أدوات: لا لغة المدينة، لا علاقاتها، لا إيقاعها. تُطلب منه سرعة لم يعرفها، ومرونة لا يملكها، وذكاء اجتماعي لا يُكتسب بين الحقول.
كثيرون جاؤوا ليشتغلوا في البناء أو النّظافة أو التوصيل. يعملون من طلوع الشّمس إلى المساء، ولا يكفيهم ما يجمعونه سوى للإيجار والطّعام. يقول محمّد: "كنّا نأكل في الرّيف خبزا وزيتا من صنعنا. اليوم نشتري كلّ شيء، حتّى الهواء." محمّد يحلم بالهجرة إلى إيطاليا، يشتغل عامل بناء و يدخر من قليل أجره للهرب من البلاد ، و للحصول على رخصة سياقة ، بها يمكنه أن يشتغل في تهريب البنزين من الجزائر ، يقول : " للهروب من هذه البلاد مستعد حتى للشّغل في ميدان الممنوعات ، المهم أن اوفر بسرعة المال الذي به يمكنني أن احلّق مع النّوارس للوصول إلى إيطاليا، ياكلني البحر احسن من أن اموت هنا في ركن مهمّش "
المدينة أضافت إلى فقرهم شعورا جديدا: العزلة. في الرّيف، حتّى لو كنت فقيرا، لست وحيدا. في المدينة، قد تكون وسط آلاف النّاس، لكنّ لا أحد يسمعك.
يسأل كثير من الرُّحّل أنفسهم: هل نعود؟ لكن إلى أين؟ البيت انهار، النّبع جفّ، والحقول زحفت عليها صحراء الحجر . حتّى القبور لا تجد من يزور أهلها.
العودة صارت مستحيلة، لأنّ الزّمن تجاوز المكان. حاسي الفريد لم يعُد ينتظر أبناءه، بل تنساهم بصمت. والزّمن، حين يمضي، لا يعود إلى الوراء، بل يترك خلفه بُقعا من الحنين تُؤلم أكثر ممّا تُبهج.
المدينة، بكلّ ما فيها من زحام واستهلاك وعرض وطلب، تنسى أو تتناسى يد من تطعمها. لا يخطر ببال من يشتري خبزه صباحا، أو من يضع في سَلّته حليبا وطماطم، أنّ هذه النّعمة لم تولد في الثلاّجات ولا على رفوف المساحات التّجارية، بل وُلدت على يد امرأة فَلّاحة في ريف الجنوب أو الوسط او الشمال . امرأة قامت في الفجر، مشت في الطّين، قَطفت، وحلبت، وغسلت، ثم عادت محمّلة بصمتها إلى بيت لا يزوره أحد.
الرّيف اليوم، رغم جراحه، لا يزال يطعم المدينة. أكثر من 60% من الغذاء الأساسي الذي يُستهلك في تونس يأتي من القرى والمزارع: الحبوب، الحليب، الخضر، الغلال، البقول، وحتى الأصواف التي تصنع منها الأغطية في برد المدن و الآجرّ. لكنّ المفارقة المؤلمة أنّ هذا الرّيف، الذي لا يزال يَمنح، لا يُمنَح شيئا في المقابل.
في السّوق، حين يرتفع سعر الزّيت أو البيض أو الحليب أو اللّحم باصنافه ، تشتكي المدينة. تُحمّل الفلاحة المسؤوليّة، وتنسى أنّ من تركوا الأرض هم من تسبّبوا في قلّة الإنتاج. الأرض عطشى، والحقول بلا رجال. الشّباب، خاصة الذّكور، هجروها إلى المقاهي، أو إلى أعمال هشّة في المدن، أو عبروا البحر خلسة نحو شمال أوروبا حالمين بخير وفير ، فحصلوا على استغلال وفير و عنصريّة مزدهرة . لم يعُد العمل الفلاحي شرفا يُحتفى به، بل صار عيبا يهرب منه.
من بقي في الحقول؟ النّساء. هنّ اليوم العمود الفقريّ للعمل الفلاحي. هنّ من يزرعن ويحصدن ويرعين ويقمن بالأعمال الأكثر قسوة تحت الشّمس والبرد والمطر. وفي كلّ صباح، نرى الشّاحنات الصغيرة المحمّلة بهنّ تمرّ كأشباح أمام النّاس، لا تُلفت النّظر إلّا حين تقع كارثة: حادث مرور، أو موت جماعي في طريق العودة ، يطلق عليهنّ تسمية " شهيدات الاسفلت " ، حتّى استشهادهنّ لأجل قوت البلاد لا يذكر .
هؤلاء النّساء لا يظهرن في نشرات الأخبار، ولا في الاحتفالات الوطنيّة، رغم أنهنّ يُطعمن الوطن بأكمله. بأجور بخسة لا تتجاوز بضعة دنانير في اليوم، يعملن في صمت. لا تأمين، لا تغطية صحيّة، لا اعتراف رسميّ، بل تعب موروث يُمرّر من أم إلى ابنة، كما تُمرّر بذور القمح.
إحدى العاملات، وتُدعى "رُقيّة"، تقول: "أنا لا أعرف تونس العاصمة، لكنّني أسمع أنّهم يأكلون أفضل ما نزرعه . نحن نأكل ما لا يأكلون ، وهم يأكلون الفواكه المغلّفة. نحن نعيش في بيوت مهدّدة بالسقوط على رؤوسنا ، وهم يشترون البيوت عبر القروض. ومع ذلك، لا أحد يسأل عنّا."
المفارقة في الرّيف اليوم أن الذّكور هم من هجروا الفأس. يقول العم "عبد المجيد"، وهو فلاّح سابق من جهة قفصة: "أحفادي يضحكون عندما يرونني أحمل المعول. يقولون لي: هذه حياة للبهائم، وليست للبشر!" في نظرهم، العمل اليدويّ ليس فخرا، بل دليلا على الفشل. والمدينة، بما روّجته من وهم الرّفاه، جعلت الفلاحة مرادفًا للتأخّر والجهل."
هذا التحوّل في القيمة الثّقافية للعمل الفلاحي هو أحد أسباب الغلاء. حين يقلّ من يزرع، يقلّ ما يُجنى، ويزيد الاعتماد على الاستيراد. والغذاء حين يُستورد، يصير مرهونا بالدولار لا بالمطر، ويصبح قرارا سياسيا لا زرعا جماعيا.
تونس التي كانت بلد الحبوب منذ قرطاج ، والتي علّمت الرّومان كيف تدار الأرض، أصبحت اليوم تستورد القمح من روسيا، والعدس من كندا، والحليب من إسبانيا و اللّحوم من رومانيا. كيف تحوّلت البلاد من زارعة إلى زبونة؟
كانت الأرض هناك، حيث تُشرق الشّمس بلا ضجيج، وحيث للهواء نكهة التّراب الرّطب، وللجوع طعم الحنّاء والخبّيزة. لم تكن العائلة تملك الكثير، سوى أرضها، وبعض رؤوس الأغنام، وكرامة راسخة في الطّين. كانت الحياة بسيطة نعم، لكنها كاملة. لا حاجة للتّرف، ولا للسّرعة، فقط جدول ماء وبعض الكدّ، كافيان ليملأ المرء بطنه وضميره.
لكن شيئا ما بدأ يتغيّر. الجفاف تكرّر، مواسم لم تعد تجود كما كانت، والمدرسة صارت بعيدة. الطّبيب يزور حاسي الفريد مرتين في الشّهر . ببطء، وبدون صراخ، بدأت المنطقة تفرغ. وهكذا، حين قرّرت العائلة الهجرة إلى المدينة، كانت كأنّها تقتلع نفسها من جذرها.
في المدينة، لم يكن هناك تراب، بل إسفلت ساخن. لم يكن هناك حطب، بل غاز مكلف. لم يكن هناك جيران يعرفون اسم الطّفل، بل اسمنت مسلّح و آجرّ لا يُلقي فيها أحد التّحية. أصبح الوالد حارسا ليليا في شركة، والأم تعمل منظّفة بيوت، والأطفال يتعلمون لغة لا تمتّ بصلة للسّنابل.
لم تكن الحياة أسهل، بل كانت أكثر قسوة، لكن بأدوات مختلفة. الرّيف يفرض مشقّته على الجسد، أمّا المدينة فتنهك الرّوح. هناك تُرهقك الشّمس، وهنا يُرهقك الانتظار.
ورغم أن هذه العائلة فقدت أرضها، إلّا أنّ البلد كلّه خسر أكثر: خسر من يزرع له الخبز، من يربّي له الغنم و الابقار، من يحلب له الحليب. ولولا ما تبقّى من نساء يعملن في صمت، لكانت البلاد أكثر جوعا.
فالمرأة الرّيفية، التي يُطلق عليها خطأ اسم "عاملة فلاحيّة"، ليست مجرّد يد عاملة. إنّها العمود الفقريّ للفلاحة الوطنّية. تعمل في الفجر، وتعود بعد المغيب. لا تأخذ إجازة مرضيّة، ولا تعرف معنى التأمين الاجتماعيّ. ومع ذلك، فهي من توفّر أكثر من 60% من الغذاء الأساسيّ للبلاد: من الحبوب إلى الخضر، من الحليب إلى الغلال، من البقول إلى الصّوف.
والرّجال؟ كثير منهم هجروها. تركوا المعاول والتحقوا بالمقاهي و حضائر البناء أو بالهجرة. الفلاحة لم تعد تجذب الشّباب، لا لقلّة العائد فحسب، بل لأنّ الثّقافة الجديدة تُقنعهم أن العمل في الأرض عيب، وأنّ الفلاحة رمز للفشل، وأنّ النّجاح هو في المدينة.
وبين هذا وذاك، المدينة تزداد غلاء، والرّيف يزداد فراغا. الفارق الأخلاقي بين الفضاءين صار صارخا: في الرّيف، لا تزال قيم التّشارك والحياء والتّعاون حيّة، وإن كانت مثقلة بالبؤس. في المدينة، صارت الفردانيّة والأنانيّة هي اللّغة السّائدة. الجار لا يعرف جاره، والخبز يُلقى قبل أن يُقاسم.
ليس في الرّيف مجرّد تراب وأشجار ومطر. في الرّيف ذاكرة البلاد، وبذرتها، وأوّل صرخة حياة أطلقتها الأمّهات في باحات الطّين. في الرّيف، تتعلّم اليد كيف تصير قلبا، ويتعلّم الجسد كيف يقسو ليعطي، لا ليأخذ. الرّيف ليس مجرّد فضاء سكني، بل هو مدرسة القيم الأولى: الصبر، الكدّ، الكرم، التّضامن، والاعتراف بقيمة العمل اليدويّ. ومع كل خطوة تهجر فيه، نخسر درسا من تلك الدّروس.
لا نسمع في المدن صوت الدّيك، ولا صراخ الحليب الطازج ، ولا نداء النّساء للفجر وهنّ يحملن سلال العشب على رؤوسهنّ. لم نعد نعرف من أين يأتي الخبز، ولا كيف يُنتج اللّوز، ولا كيف تثمر شجرة الفستق. تقطعت السلسلة التي تربط الأرض بالفم، واليد بالعقل، والعرق باللّقمة. المدينة أكلت العالم، لكنّها نسيت أن تشكر من طبخ لها.
في خضم الأزمة الاقتصاديّة، يتحدّث السّياسيون عن الاستثمارات، وعن المشاريع الكبرى، وعن العولمة والأسواق. لكنّ أحدا لا يذكر هؤلاء الذين يجنون الطّماطم في الصيف، ويقطفون الزّيتون في الخريف، وينقلون الحليب كل صباح من البقرة إلى الكيس البلاستيكي. هؤلاء لا يدخلون في حسابات الميزانيات، مع أنّهم هم الميزانية الحقيقية للغذاء.
كيف يمكن لبلد أن يحلم بالنّهضة وهو يُهين من يزرع له طعامه؟ كيف نرغب في محاربة الغلاء ونحن نترك الأراضي بُورا، ونهرب من الفلاحة، وننظر بازدراء إلى من يفلحون الأرض؟ كيف نطالب بعدالة اجتماعية بينما نسكت عن أكثر فئات المجتمع تهميشا: نساء الفلاحة؟
إنّ النّهضة الحقيقيّة لا تبدأ من ناطحات السّحاب، ولا من الاستثمارات الأجنبيّة، بل من المِحراث. من اليد التي تزرع، من الماء الذي يُروى، من البذرة التي يعتنى بها. تبدأ النّهضة حين نفهم أن كرامة الإنسان لا تكمن في ما يلبسه أو يركبه أو يسكنه، بل في قدرته على أن ينتج ما يأكله، وعلى أن لا يُذلّ من أجل رغيف خبز.
الرّيف ليس بؤسا ولا تخلّفا، بل هو ذاكرة أخلاقية. فيه تُعلّمك الأم أن تعطي ضيفك آخر قطعة خبز، وأن تستحي من الامتلاء وجارك جائع، وأن تشارك الحصاد قبل أن تحسب الرّبح. أمّا المدينة، فقد أصبحت مرآة لما استوردناه من قيم الاستهلاك والأنانّية والفردانيّة. في الرّيف، الجار أقرب من الأخ. في المدينة، الجار لا يُسلّم حتى في المصعد.
المشكلة ليست في أنّ النّاس هجرت الرّيف فحسب، بل في أنّهم هجروه دون أن يأخذوا معهم أخلاقه. ولو كانت المدينة تحمل في قلبها شيئا من ريفها، لربّما صارت أكثر عدلا، وأقل غلاء، وأقرب إلى الإنسان.
لقد دُفنت الفلاحة في العقل الجماعي كرمز للبؤس، في حين أنّها في جوهرها فعل مقاومة، وامتداد للحياة، وقيمة وجوديّة. أول عمل مارسه الإنسان لم يكن بيع الأسهم ولا تداول العملات، بل كان الزّرع. واليد التي زرعت أوّل قمح، صنعت أوّل حضارة.
الرّيف لا يحتاج فقط إلى مشاريع، بل إلى استرجاع هيبته الرّمزية، إلى أن يُعلّم في المدارس، ويُروى في الأدب، ويُذكر في الإعلام. الرّيف يجب أن يُقدَّم كنموذج للكرامة، لا كمجرد مَنبع للعمالة الرّخيصة. وإذا أردنا فعلا مستقبلا لتونس، فعلينا أن نبدأ من هناك: من المراعي، من الحقول، من خزّانات الحليب، من حظائر الأغنام، من صياح الدّيك، ومن حكايات الجدّات اللّواتي عرفن أن الثّراء ليس ما في الجيب، بل ما في السّنبلة.
علينا أن ننظر إلى المرأة الفلاحة لا كعاملة يوميّة، بل كعمود من أعمدة الأمن الغذائي، وكمواطنة ذات شأن وكرامة، وأن نعيد لأبنائنا الصّورة الحقيقيّة للفلاّح: ذلك الذي إن اختفى، جاعت البلاد كلّها.
وحين نصل إلى ذلك الفهم، سنكون قد خطونا أوّل خطوة في اتّجاه نهضة حقيقيّة: نهضة تزرع ولا تستورد.
الرّيف ليس مجرّد جغرافيّا؛ هو رئة البلد، وإذا اختنق، تختنق المدينة أيضا. اليوم، الغلاء لا ينبع من المؤامرات ولا من السّوق العالميّة وحدها، بل من عطب داخلي: نحن لم نعد ننتج ما نأكل. لم نعد نحترم اليد التي تُطعِم، بل أدرنا لها ظهرنا.
كل امرأة في الرّيف اليوم، هي دولة مصغّرة: تزرع وتطبخ وتربّي وتداوي وتقاوم. ومع ذلك، لا تُحسب في النّاتج القومي، ولا تُذكر في تقارير الاقتصاد. وكأنّ الرّيف غير موجود، إلا حين يأتي الموسم الانتخابي.
إن إعادة الاعتبار للرّيف ليست مجرّد قرار إداري، بل ضرورة وجوديّة. الوطن لا يُبنى من فوق، بل من الجذور. وأقوى الجذور هي تلك التي غُرست في الحقول.
يجب أن نُعيد تعريف الكرامة بوصفها قدرة الإنسان على الأكل ممّا زرع، والعيش ممّا أنتج. لا يكفي أن تُشق الطّرقات، بل يجب أن يُعاد للمعول مكانته، و تعطى للعاملات الفلاحيات حقوقهنّ، وللأرض ماءها، وللقرى صوتها.
لن تستقيم تونس ما لم تستقم فلاحتها، ولن تنهض مدنها ما لم تحيا قراها. فالمدينة مهما ارتفعت، تبقى واقفة على كتفي امرأة فلاحة... مجهولة، متعبة، صامدة.
والأدهى أن هذه القوّة الصامتة التي تقود الاقتصاد الغذائي الوطني تتجسّد اليوم في النّساء: العاملات الفلاحيات اللّواتي يُنهكن أجسادهنّ من أجل استمرار الحياة، وهنّ أكثر من 70% من اليد العاملة في هذا القطاع، يشتغلن في صمت، وفي غياب شبه تام لأيّ حماية اجتماعيّة أو اعتراف قانونيّ أو حتّى رمزي. هؤلاء النّساء، اللّواتي يحملن الوطن على أكتافهنّ المُثقَلة، يُعاملنّ كأنهنّ شبح اقتصادي لا يُرى، ولا يُكافأ.
الرّيف في تونس لم يخسر فقط سكّانه، بل خسر رمزيته. لم يعُد نموذجا للحياة الكريمة البسيطة، بل صار مرادفا للتهميش. والمدينة، رغم ما تقدّمه من فرص، لا تُعطي دون أن تسلب. هي لا تمنح، بل تُقايض: تعطيك فرصة، وتسلب منك الذّاكرة.
هذا التحوّل لا يصيب الأفراد فقط، بل يطال البنية الثّقافية. حين تذبل الأخلاق الجماعية، وتُستبدل بقيم السّوق، يصير الإنسان مُستهلكا حتى في علاقاته.
ما خسرناه في النّزوح من الرّيف لا يمكن تعويضه ببنية تحتيّة أو طريق معبّد. خسرنا مجتمعا كان يعرف كيف يعيش بأقلّ القليل، ويحبّ دون شروط، ويحترم دون مقابل.
اليوم، نحن بحاجة إلى أكثر من مشاريع. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للقرى كفضاءات للكرامة، لا كأماكن للعزلة. إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والأرض، ليس بوصفها موردا فقط، بل ذاكرة وهويّة وجذرا لا يموت.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المركزية الديمقراطية
- عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
- الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
- ملمّ بي
- اسم الهزيمة


المزيد.....




- تحوّل بفعل الناس.. طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا ...
- -السِّت-.. ماذا تحمل الدورة الـ 9 من مهرجان -أسوان لسينما ال ...
- العراق.. مشاركة روسية في مهرجان -بابل- للثقافات والفنون العا ...
- بدايات القرن العشرين في المغرب بريشة الفنان الإسباني ماريانو ...
- اللقاء المسرحي العربي الخامس بهانوفر.. -ماغما- تعيد للفن الع ...
- يرغب بنشر رسالته في -الخلاص- حول العالم.. توصية بالعفو عن نج ...
- أهرمات مصر تشهد حفل زفاف أسطوري لهشام جمال وليلى أحمد زاهر ( ...
- الملتقى الإذاعي والتلفزيوني في الاتحاد يحتفي بالفنان غالب جو ...
- “هتموت من الضحك ” سعرها 150 جنية في السينما .. فيلم سيكو عص ...
- جوائز الدورة الـ 11 من مهرجان -أفلام السعودية-.. القائمة الك ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - حاسي الفريد / ما يشبه القصّة