سناء عبد القادر مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 22:47
المحور:
الادارة و الاقتصاد
تحل في هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل استاذنا الدكتور ابراهيم كبة (أبو سلام) في 26 /10 /2004 الذي ترك أثرا لا ينسى ليس علينا نحن طلابه الذين نفتخر بأنه درسنا في الجامعة، بل على كل من قرأ له كتبه التي عددها 14 كتابا ومقالاته وأبحاثه التي تربو علي41 مقالة وبحثاً علمياً.
ترتبط ذاكرتي بأستاذنا الدكتور ابراهيم كبة حينما علمت من أصدقائي الذين سبق ودرسهم في العام الدراسي 1969-1970 بأنه سوف يقوم بتدريسنا مادة تاريخ المذاهب الاقتصادية في السنة الثالثة من قسم الاقتصاد – كلية الادارة والاقتصاد في جامعة بغداد للعام الدراسي 1970-1971 (كلية الاقتصاد والعلوم االسياسية الملغاة). وهذا ما حدا بي أن أقوم بشراء كتاب المادية التاريخية والديالكتيكية لموريس توريز Maurice Thorez (28 April 1900 – 11 July 1964) في صيف العام 1970 وأبذل جهدا في قرائته واستيعابه كي أتمكن من فهم محاضرات الأستاذ كبة.
يمتاز اسلوب تدريسه الأكاديمي بالدقة والتحليل مع طرح الأمثلة المستندة الى شواهد تاريخية علمية عبر العصور المختلفة لتطور تاريخ المذاهب والأفكار الاقتصادية ولذا فهو يأخذك في رحلة فكرية معمقة بالأمثلة الواقعية وحتى يؤدي ذلك على أتم وجه تراه يحتاج الى هدوء تام في قاعة الدرس حيث أكد لنا في أول محاضرة :"بإمكان أي طالب أن يدخل ويخرج من قاعة المحاضرة متى يشاء ولكن يجب أن يكون ذلك بكل هدوء ولا يؤثر على سير المحاضرة" وكما يقول المثل الشعبي العراقي "ترمي الابرة تسمع صوتها". كنا دائما نحرص على أن ندخل القاعة قبل قدومه اليها ونهيء أنفسنا لكتابة كل شيئ يقوله في دفتر أو كشكول بلغت صفحاته في نهاية العام الدراسي السبعمائة صفحة تقريبا.
كانت محاضراته شيقة بحيث تنسى كل شيئ حواليك، تتابع وتدون كل ما يقوله الأستاذ ابراهيم وإلا سوف تضطر بعد المحاضرة الى طلب العون والمساعدة في كتابة ما فاتك من المحاضرة من بقية الزملاء. كان يأخذ الفرصة بعد المحاضرة فهو يستمر في الشرح والتعليق وينسى أن جرس الفرصة قد دق وقاربت على الانتهاء ولذلك فهو يكررعلينا دائما أن ننبهه الى ذلك.
كان من رأيه أن يسمى المساق الذي يدرسه ليس بتاريخ المذاهب الاقتصادية وإنما بتاريخ الفكر الاقتصادي ولهذا تراه قام بتأليف وتدريس كتابه الموسوم: (دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي) الذي يقع في اكثر من 550 صفحة والذي صدر في العام 1970. كان استاذنا الراحل يعتبر أن هذا الكتاب هو تلخيص مكثف لمواضيع مهمة وأساسية في تاريخ الفكر الاقتصادي.
كان من عادتي وضع خطوط حمراء تحت أهم الجمل في الكتاب ولكني وجدت نفسي وعند قراءة كتاب دراسات في تأريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي انني أضع تلك الخطوط تحت جميع الاسطر لأن كل جملة لها موقعها في السياق ولايجوز اهمالها. وهذه الميزة لا تجدها عند أكثر المؤلفين والمفكرين وخاصة العرب في الوقت الحاضر الذين يمتازون بالاطناب والخروج عن صلب الموضوع. اما تركيز الجمل والأفكار فهذا ما نجده عند المؤلفين الاوربيين. وبعد التحاقي في الدراسات العليا في الاتحاد السوفيتي في أواسط سبعينيات القرن الماضي (1974) انتبهت الى أن أسلوب ومنهجية أستاذنا ابراهيم كبة يدلنا على أنه كان يفكر بعقلية ومنهجية علمية أوربية، محاولا الابتعاد عن كل ما له علاقة بالاطالة والجمل الرنانة والشعارات الفارغة التي من شأنها أن تجعل الكتاب أو البحث أوالمقالة ضعيفة وتهمل الهدف الذي صيغت من أجله.
كان استاذنا يجيد عدة لغات منها الفرنسية والانجليزية والألمانية والايطالية والاسبانية وحتى الكردية. فقد حدثني أصدقائي في السنة التي سبقوني 1969-1970 بأنه في أحد الأيام حينما كان الاستاذ ابراهيم كبة منهمكا كعادته في شرح المادة رفع الطالب سامي وهو كردي فيلي يده وقال : أنه لا يفهم ما يقول الاستاذ كبة، فبادرة بأي لغة تريدني أشرح المادة، فأجابه سامي بأنه اذا كان بالامكان شرح الدرس باللغة الكردية. وآنذاك لم يجد الاستاذ كبة صعوبة في شرح الفكرة الصعبة باللغة الكردية.
كان حريصا على أن يفهم طلابه المحاضرة ويوصل المعلومات لهم بأي طريقة ما، باذلا أكبر جهد من أجل ذلك. هذا من جهة ولكن من جهة فهو صارم وشديد تجاه من يحاول اعاقة سير المحاضرة، فقد حدث في ربيع العام 1971 أن قامت طالبتين في شعبة أ (احتفظ بأسميهما عن النشر) بالضحك لسبب ما، فما كان منه إلا وأن قال لهما : "أنتما متخلفتين وعبارة عن أخشاب مسندة على الكراسي... المفروض أن تفهما المادة بشكل جيد من أجل تطوير مجتمعكم في المستقبل" ومن ثم قام بطردهما من القاعة بعد ذلك.
تخرجت من الجامعة في الثلاثين من شهر حزيران سنة 1972 ولا زلت لحد الآن أحتفظ في ذاكرتي بالكثير من شروحاته وأفكاره العلمية التي دونتها في كشكول محاضراته الى جانب كتابه المذكور أعلاه ولم أجد أفضل من تعريفه لعلم الاقتصاد "بأنه ذلك العلم الذي يكتشف قانون ديناميكية وحركة المجتمع الحديث". وبهذا فهو يربط تطور المجتمع بتطور العلاقات الاجتماعية والانتاجية التي هي فيصل التمييز بين المجتمعات المتخلفة والمتطورة. ومن هنا لا بد وأن ندرك أن جوهر أية تنمية اقتصادية يعتمد على تطور العلاقات الانتاجية-الاجتماعية. فإذا كان جوزيف شومبيتر(8 شباط 1883- 8 كانون الأول 1950) قد اعتمد على عنصر الريادة والرائد entrepreneur الذي يطور المجتمع من خلال تفكيره بالنمو الاقتصادي على المدى الطويل. وفي معالجته لقضية مستقبل النظام الرأسمالي نراه يجمع ما بين نظرته الاقتصادية ونظرته الاجتماعية ليقرر اختلافه مع كارل ماركس من حيث أنه لا توجد أسباب اقتصادية تحتم هلاك الرأسمالية كنظام. ولكننا نراه من جهة أخرى يؤمن بأن الرأسمالية سوف تستهلك نفسها بنفسها بسبب نجاحاتها الذاتية وغير الموضوعية لأن التركز الاقتصادي المضاعف يقود إلى ولادة مناخ اجتماعي معادٍ للمؤسسات الاقتصادية الكبيرة بسبب ضعف الطبقة البرجوازية وبروز فئات واسعة من المثقفين الرواد (البرجوازية الصغيرة) كما يسميهم شومبيتر واتحاد نقابات العمال، الذين سوف يقودون عملية التغيير في المجتمع بحسب تعبيره والذي يعتقد بأن هذا سوف يقود الى التطور نحو الاشتراكية. وهنا أتذكر تعليق الأستاذ ابراهيم كبة بهذا الخصوص وبحق شومبيتر حيث قال بالحرف الواحد : "بقي جوزيف شومبيتر الى آخر أيامه يعاني من ازدواجية في االتفكير ، فهو اشتراكي داخل الجامعة ورأسمالي خارجها".
و ساهم ابراهيم كبة مع رعيل من الاقتصاديين التقدميين العراقيين في ادارة البلاد بعد نجاح ثورة 14 تموز 1958 في أول حكومة وطنية، اذ تولى حقيبة وزارة الاقتصاد كما تولى ادارة وزارات أخرى بالوكالة مثل وزارتي الاصلاح الزراعي والنفط. ويعود له الفضل في اقامة علاقات صداقة وتعاون اقتصادي مع الدول الاشتراكية- الاتحاد السوفيتي وجمهوريتي الصين الشعبية وألمانيا الديمقراطية. فقد ضمت اتفاقية التعاون الاقتصادي بين العراق والاتحاد السوفيتي التي عقدت في صيف العام 1959 اقامة مشاريع اقتصادية كثيرة في العراق، منها على سبيل المثال لا الحصر: الخط العريض للسكك الحديدية الذي يربط العراق من جنوبه الى شماله مع الدول الأخرى مثل تركيا وسوريا والذي استبدل مع النظام المتري القديم الذي بنته بريطانيا في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، مشاريع استخراج الكبريت في الموصل والفوسفات والزجاج واليورانيوم في الرمادي. وكذلك مشروع الصناعات الثقيلة في مدينة الاسكندرية والنسيج في الناصرية والكوت وكذلك سايلوات الحبوب في البصرة والكوت. كما ضمت الاتفاقية التعاون في مجالات التحري وحصر الموارد الطبيعية في العراق وكذلك في المجالات الزراعية وصناعة النفط والمعادن وأبحاث الطاقة النووية. ولا ننسى البعثات الدراسية الى الاتحاد السوفيتي في مختلف الاختصاصات العلمية وكذلك الى الصين الشعبية وألمانيا الديمقراطية التي أعطت الفرصة لآلاف من الشباب العراقي في تكملة دراستهم بالخارج على حساب الحكومة والاطلاع على التقدم الحضاري والعلمي في تلك الدول.
يملك الأستاذ ابراهيم كبة خزين كبير من العلم والخبرة العملية وتأثير في الوسط العلمي الأكاديمي فقد ترك لنا تراث كبير وغني من الدروس والعبر التي نعتمد عليها في حياتنا العلمية والعملية. لم يساوم ولم يستسلم ولم يتهاون مع الذين يخلون بأبسط حقوق الانسان والديمقراطية والكادحين وناضل بصلابة من أجل خلو العراق من الهيمنة والاستغلال بجميع أشكالهما. فلم يطمع في المناصب الادارية والوزارية ولكن لم ينثني عزمه في النضال من أجل الكلمة الحقة وتصحيح مسار ثورة 14 تموز 1958 في دفاعه أمام المحكمة العسكرية في العام 1963، الذي نشر فيما بعد في كتابه الموسوم (هذا هو طريق 14 تموز - دفاع ابراهيم كبة امام محكمة الثورة). وقد حكم عليه بالسجن 10 سنوات مع الاشغال الشاقة ومن ثم اطلق سراحه في العام 1965 في عفو من رئاسة الجمهورية.
كما أنه لا يغير رأيه في قضية مؤمن بعدالتها ولذلك فهو كان شديد في موقفه أمام الذين لم يقيموه بحق. فعندما لم يرقى الى درجة الاستاذية في العالم 1968 بعد اعادته الى التدريس الجامعي، أرسل برقية الى رئيس جامعة بغداد نصها التالي :" فهمت مضمون قراركم ... عذركم جهلكم". ومن طريف الصدف حينما كنت في زيارة لعميد كلية الادارة بجامعة مؤتة في الأردن في ربيع العام 2012، الدكتور فيصل الشواورة الذي بادرني بالسؤال بعد أن رحب بي: هل سمعت بالعبارة التالية - فهمت مضمون قراركم ... عذركم جهلكم، فجاوبته وكيف لا وأنا من طلاب الاستاذ الدكتور ابراهيم كبة الذي درسني مادة تاريخ الفكر الاقتصادي في سنة 1970/1971 في جامعة بغداد- كلية الادارة والاقتصاد. فكرت حينها بأنه مهما يمر الزمن تبقى ذاكرة أستاذنا أبو سلام عطرة تتناقلها الأجيال ليس في وطنه فقط ولكن في بقية الأوطان فلا تستطيع سلطة أو حكومة مسحها من أذهان الناس، فنم أيها العالم الجليل قرير العين في ثراء الوطن الذي أفنيت حياتك من أجله وفي محبة الكادحين الذين ناضلت من أجلهم وأنت المتألق دائما بين العلماء برصانة أفكارك وعلمك ووطنيتك الأصيلة.
#سناء_عبد_القادر_مصطفى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟