أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فنحي مهذب - العين الثالثة















المزيد.....

العين الثالثة


فنحي مهذب

الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 21:43
المحور: الادب والفن
    


العين الثالثة.

كان ( يو) مزيجا مشوشا من الأضداد. جزيرة صغيرة من لحم ودم تعج بالشياطين والملائكة.
كان ينظر في المرآة الصغيرة التي يحتفظ بها كما تحتفظ الأم بطفلها الوحيد.
كان يفحص زوايا عينيه،
يمسح المادة اللزجة التي تتكاثف هناك،
ينظر إلى إصبعه كأنه يعاين دليلا على خيانة كونية.
لم يكن يحب الأماكن المفتوحة.
يحب الوقوف طويلا في المراحيض،مراحيض الغرباء ،والمقاهي ومحطات البنزين،لا لشيء سوى لأن العزلة هناك أشد صفاء من ضجيج الشوارع والثعالب البشرية المتفشية كالفطر في جحيم العالم الخارجي.
اليرابيع التي تطل برؤوسها من هنا وهناك كما لو أنها تتغامز في خيال (يو) وتهمس:
"إنه الإنسان الذي ينفجر في داخله الضوء ولكنه لا يرى"
تنثال كلمات مبهمة من شفتيه المتشققتين مطلقا زفرات ثقيلة..
كأنه ساحر يحاول إخراج حمامة سوداء من قبعته.
إنه يعاني من ألم غامض في العينين.
"ليس ألما جسديا فقط بل ما يشبه وعيا زائدا بالرؤية"
كأن عينيه تنظران إلى ما خلف الجدران،إلى صور الموتى القدامى إلى كلمات لم تكتب بعد.
في ليلة خانقة وقف أمام المرآة ثم همس: "لا بد أن ثمة شيئا خاطئا..في العدسة..أو في الطبيب..أو في هذا العالم".
بدأ مهموما مرفودا بهوس قاتل..
بدأ الإنتظار..
بدأ الشعور بالثأر يأخذ شكل خنجر ملطخ بالدم.
تلك الليلة لم ينم( يو).
إستيقظت العدسات داخل عينيه،تصطك كصفيح ممتلىء بالصدأ،كلما أغمض عينيه يرى وجها واحدا:طبيب العيون صاحب
العين الزجاجية الذي زرع العدستين الملعونتين في عينيه.
يطلق ضحكة ميكانيكية صارمة وفي عينه الزجاجية شهوة ماكرة.
يهمس في أذنه : "سترى بوضوح قد لا تريده".
منذ تلك اللحظة،لم يعد يرى العالم كما هو.
كل الوجوه تحمل عيوبا خفية.
يرى الهالات السوداء وراء الإبتسامات والديدان الصغيرة تتحرك ببطء تحت جلود الناس.
حتى اليرابيع التي في المرحاض لم تعد طبيعية،صارت أشباحا صغيرة تتهامس وأحدها صاح:
"أقتل الطبيب..إقتلع عينه الشريرة.. إقتلع العدسة.."
حدق في المرآة..
رأى نفسه من الداخل.
كان يتذكر ما قال له الطبيب ذو العين الزجاجية:
"لا تقلق يا (يو)..ستبصر ما لم يبصره أحد قبلك"
هذه العدسات..ثورة..رؤية جديدة للعالم."
لم ينس دخوله العيادة القديمة ذات مساء خريفي.
كانت السماء رمادية ممزقة مثل قماش محترق، وصوت الريح كأن أحدا ما يهمس باسمه من سقف العالم.
إستقبله الطبيب ذو العين الزجاجية بابتسامة ميتة.
كانت عينه السليمة تتحرك ببطء بيد أن العين الزجاجية تحدق مباشرة في (يو) كأنها تعرفه أكثر مما يعرف (يو) نفسه.
جلس على الكرسي العتيق الذي يصدر منه صرير يشبه أنين شجرة صرعت للتو.
قال الطبيب: جئت تشكو من رؤى مزعجة ؟أم أنك ترى الحقيقة أخيرا؟
(يو) لم يرد.
كان يحمل مرآته الصغيرة في جيبه وكلما وضعها أمام وجهه..
رأى الطبيب الأعور داخلها يبتسم في الظلام.
حتى قبل أن يدخل الغرفة كان يسمع صوتا وراء الجدار.
"أقتله قبل أن تذوب عدستك في دماغك."
يداه ترتجفان والمرآة تحترق من الداخل.
عاد (يو) إلى بيته محموما .
العدسة اليسرى ترفرف في عينه مثل جناح حشرة.
أما العين اليمنى فقد صارت مرآة تنعكس فيها مشاهد لا يراها غير
الطبيب الأعور.
وجه (يو) يتحول إلى وجه آخر،وجه الطبيب نفسه.
أغلق النوافذ وأطفأ الأضواء ثم جلس في قلب الحمام حيث كانت اليرابيع تقف في دائرة كاملة،تنظر إليه نظرات حارقة..
أحدها تقدم وتحدث:
"العدسة ليست إلا شظية من مرآة الجحيم".
تذكر شيئا آخر.
لحظة قصيرة في غرفة العمليات..
الطبيب ذو العين الزجاجية همس في أذنه قبل أن يغيب عن الوعي:
"أردت أن ترى الحقيقة؟..هذا وعد.."
(يو ) تلبسته سحابة كثيفة من الشك مرات عديدة..
لا يعرف من هو..
هل هو الطبيب؟
أم هو الضحية ؟
هل هو مجرد انعكاس في العدسة؟
فجأة وجد نفسه أمام المرآة الكبيرة في الصالة.
لم تكن تعكس صورته.
بل صورة العيادة ،والطبيب،والمرضى،
وكلهم كانوا يبتسمون..
بعد أن أقتلعت أعينهم.
في منتصف الليل،إستيقظ( يو)
ليجد نفسه داخل عينيه.
كان يمشي في ممر ضيق مبني من لحم شفاف.
الدم يسيل على الجدران.
كل خطوة يخطوها كانت تصدر صوتا معدنيا كأنه يسير داخل حنجرة آلة تبكي.
في نهاية الممر باب من ورائه تسمع همسات.
"نحن الرؤى التي لم تشأ أن تراها"
"نحن جثث النظرات المدفونة"
-ثمة من ينتظرك يا( يو)..
فتح الباب .
رأى الطبيب جالسا فوق كرسي من العظام وحوله آلاف العيون..
معلقة على الأشجار..
تتنفس..تبكي..تضحك..
حاول (يو) أن يصرخ غير أن صوته زرب من عينيه فقط..
رأى صراخه يرتطم بجدار العدسة ويرتد إليه على شكل ضحكة مرآوية.
رفع الطبيب يده مشيرا إلى عينه الزجاجية وقال:"خذها ..إنها لك..لكن لن ترى إلا ما يخيفك."
(يو ) مد يده المرتجفة والتقط العين.
وما إن لامسها حتى انشقت الأرض وسقط في ظلام ليس له قرار.
إستفاق (يو) على الباردة،
كانت عيناه مفتوحتين إلى أقصى اتساع وجسده يرتجف،لكن الضوء لا يدخل.
نهش بتثاقل كمن خرج من قبر، نظر في المرآة..لكن لم يجد وجهه بل وجد وجه الطبيب.
لم يكن انعكاسا،كان هناك داخل الزجاج يحدق فيه ثم يبتسم.
"ألم أقل لك إنك سترى؟"
صرخ(يو)
لكن الصوت خرج من المرآة.
رفع يده ليلمس وجهه،إذ وجد شيئا يتحرك داخل جلده..
شيئا ناعما دائريا يشبه عينا ثالثة.
فتح فمه فانسكبت رؤى الآخرين منه :
أسرار ،كوابيس،نظرات مختلسة من الغرباء.صار يرى ما لم يرد أحد رؤيته.
صار يرى ما لا ينبغي أن يرى.
ثم أتى إليه صوت ناعم من أعماق الحمام،
صدى يقول: "إقتلعها..إقتلعها الآن..قبل أن ترى النهاية."
لكن (يو )صرخ قائلا :لا أريد أن أراها كاملة.
مع توالي الأيام تغيرت حياة (يو) كثيرا. إمتلأت حياته بالجرائم المرعبة.
يكفي أن ينظر في عينيك حتى تنفجر أعماقك،وتظهر أسرارك على شكل دخان أسود.
أولى جرائمه حدثت في الحافلة.
حيث جلس خلف إمرأة كانت تهاتف أحدا ما ضاحكة،
نظر (يو) في مرآة صغيرة موجها إياها نحو عينيه،
تجمدت عينا المرأة ثم بدأتا تنزفان ببطء.
ثم في المصعد طفل صغير يصرخ دون سبب.
كان (يو )يبتسم ويعد العيون التي يمكن سرقتها.
الرؤية أصبحت مرضا معديا.
كل من نظر في وجهه يرى:
أطراف موتى،غرف عمليات،الطبيب الأعور يتكاثر،وعين واحدة ترمش ببطء في السماء.
ثم يكتب بخطه المرتبك على الحائط:
لا أحد ينجو من الرؤية.
إنها ليست نعمة..إنها القتل في أنقى حالاته.
تحركت الشرطة ،
لكن الكاميرات لم تلتقط شيئا.
كل الصور كانت ضبابية.كأن العين ترفض أن تراه.
(يو )إختفى.
لكنه مازال هناك.
وربما الآن هو خلفك..
ينظر إليك من خلال الكلمات.
مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأى فيها الطبيب الأعور .
إعتقد( يو) أنه إختفى إلى الأبد،
لكنه كان مخطئا.
في كل ليلة صار( يو ) يتسلل إلى منزل الطبيب بخطى صامتة كما لو أنه يمشي بقدمين من الضوء الخالص،
يستبدل أدويته، يبدل عدساته،يرش قطرات حارقة في قناني التقطير المخصصة للعيون، تاركا رسالة صغيرة على مكتبه الفخم.
"الضوء كذبة،أيها الأعور..
الرؤية تبدأ حيث تنتهي عيناك."
طفق الطبيب ذو العين الزجاجية يشك في الواقع.
يرى أطياف( يو) في زجاج النوافذ..
عيون معلقة في سقف غرفة الجراحة.
وساوره الشك في عيني زوجته:
هل تنتميان لها حقا؟
في إحدى الليالي ،
وجد ظرفا بريديا على عتبة بابه يحوي عينا بشرية حقيقية،وفي الورقة المرفقة ما يلي:
"من قال إنك كنت ترى؟"
إنهار الطبيب تماما، مزق الكتب الطبية،كسر مرايا الحمام ،
ثم بدأ يخدش جفنه الأيسر بشفرة جراحة.
حتى طرق( يو) الباب بلطف مثل صديق أثير.
أصغ إلي جيدا.
"العدسة الأخيرة في القبو".
ستكتشف حقائق جديدة تخفى على كبار الأطباء النطاسيين،
قالها (يو) بابتسامة تبطن في تضاعيفها شيئا ما.
"رؤية كاملة...ولكن للأقوياء فقط."
قاده الطبيب المرتعش إلى أسفل القبو،وهناك وسط طقوس ضبابية وأصوات تنزف من الجدران ،
رأى( يو) تابوتا زجاجيا.
قال له: بلهجة الواثق من نفسه
"أدخل ودع العدسة ترى من خلالك"
دخل الطبيب واستلقى.
أغلق( يو ) الغطاء بسرعة جنونية.
صب عليه مادة شفافة تثبته إلى الأبد.
ثم أشعل شمعة،ونظر في عين الطبيب.
قال بصوت مشروخ:
أنت الآن ترى كل شيء..
بما في ذلك موتك المكرور.
خرج( يو) مغلقا القبو بالمرايا.
منذ ذلك اليوم يسمع كل من غشي المكان أنينا من تحت الأرض ولكن ليس أنينا عاديا،
بل أنينا يرى.

فتحي مهذب.
تونس.

--



#فنحي_مهذب (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “هتموت من الضحك ” سعرها 150 جنية في السينما .. فيلم سيكو عص ...
- جوائز الدورة الـ 11 من مهرجان -أفلام السعودية-.. القائمة الك ...
- ما الذي نعرفه عن العقيدة الكاثوليكية؟
- روسيا ترفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لأفغانستان لدى موسكو
- فيلم Conclave يحقق فقزة هائلة بنسب المشاهدة بعد وفاة البابا ...
- -تسنيم-: السبت تنطلق المفاوضات الفنية على مستوى الخبراء تليه ...
- مصر.. الحكم على نجل فنان شهير بالحبس في واقعة قتل ومخدرات
- -فخّ الهويّات-.. حسن أوريد يحذّر من تحول الهويات لسلاح إقصاء ...
- -هيئة الأدب- تدشن جناح مدينة الرياض بمعرض بوينس آيرس الدولي ...
- وزارة الثقافة الروسية: فرق موسيقية روسية ستقدم عروضا في العا ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فنحي مهذب - العين الثالثة