ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 21:43
المحور:
الادب والفن
قراءة في رواية "الأفق" للروائي "باتريك موديا نو" ترجمة "توفيق سخان"
تمر الذكريات المعتمة في بال كل منا لأنها تقبع في زوايا المجهول أو ربما في النفس التائهة غير القادرة على النسيان أو حتى على إعادة اللحظة النفسية المصاحبة للحدث الذي احتفظ به الدماغ بصورة غير مرئية، ويصعب تذكرها لأنها مادة مظلمة في نفق يصعب الخروج منها. لأنها في غياهب المجهول أو السريالية التي بدأ بها "باتريك موديا نو" روايته الأفق المترجمة من قبل "توفيق سخان"، إذ تغرق الصور الذهنية في مقدمة الرواية ضمن غرائب النفس المجبولة على النسيان. فهل المادة المظلمة أو النفق هي البقعة الحياتية التي نتمنى نسيانها؟ ربما في نتف الذكريات التي تبقى معاناة تثير الألم الزمني أكثر من حاضرها، لأنها تسيطر على العقل والنفس وتعيد تحليلها لتدرك قيمة الأخطاء التي حدثت، وكأنها تراها عن بعد من جديد، وضمن فكر ناضج ليشعر "بحرج الاختيار بينها". فهل للزمن قيمة في نفس تحاول النسيان، وتتمنى البقاء في المادة المظلمة كي لا ترى الأفق ونوره الساطع، أو بالأحرى الحياة الجديدة التي يبدأها الإنسان بعد كل مرحلة فشل أو وجع أو ألم؟
لا يمكن فهم عمق الحياة وكتلتها الافتراضية التي تنشأ من زمنيات متتابعة أو فترات شبيهة بالمجموعة الكونية التي تركها إيحائيًا "باتريك موديا نو" ضمن السطور الروائية المبنية على فكرة المادة المظلمة الشديدة الحلكة، والتي لا تمتص الضوء ولو سبحت في الأفق المضيء آلاف السنين. وهذه حال الذكريات التي تصبح بعد سنين مادة يصعب تجاهلها. كما يصعب محوها من الذاكرة، لأنها تشكل المادة الافتراضية التي يحتاجها الإنسان ليكمل الحياة. لأن الماضي يطغى على المستقبل، والحاضر هو جزء من تاريخ لا يُمحى إلا بموت الإنسان أو فقدان عقله نهائيًا، ورغم ذلك تبقى الآثار واضحة على السلوك "فإن هذه المادة المظلمة كانت أكبر حجمًا قياسًا بالجزء الظاهر من حياتك. لقد كانت غير محددة. وهو لا يحتفظ في مذكرته سوى بذلك البصيص الذي يومض في جوف هذه الظلمة." فهل من مادة مضيئة في الأفق تمتص قدرة الإنسان على مقاومة سلبيات الحياة وتعرضه إلى نكسات تؤثر على النفس فتجعلها تفقد توازنها ومن ثم تعيد تأهيل ذاتها لتتأقلم مع التناقض الحياتي الذي نعيشه؟
مخافة أن يخبو الوميض إلى الأبد، بدأ بلقب "ميروفي"، إذا لم يعد للاسم من أهمية كبرى عند الخوض في مسيرة الحياة التي يسردها كحكاية تتسارع أحداثها وسط غياب المشهد المتكامل ذهنيًا أو المقتطع من الذاكرة المعتمة، أي بمجهود أفقي متصل بواقعية الزمن المحاكي للصورة المعاصرة للآن. فهو انطلق بواقعية تجسد "الفتاة التي تقطعت بها أسباب الحياة والتي ترتدي رداءً، والتي يوحي مظهرها بأنها إحدى عارضات الأزياء، وقد التقى بها مرات عديدة في أماكن مختلفة." وهذه المرأة هي نقطة الانطلاق الروائية بعد "مورفي" من حيث قدرته على استخراجها من زوايا الذاكرة المظلمة الناشطة في سرد درامي يتجه نحو فلسفة الحياة، وعبثية الوجود والمصطلحات النفسية التحليلية التي تقود الفكر إلى استخراج الجوهر الروائي، وهو الإلحاح القدري الذي يقود الإنسان إلى المجهول، مهما بلغ التخطيط الحياتي من قوة، لأن الخوف من فقدان شخص ما نتعلق به يتسبب في فقدان التوازن الرؤيوي المبني على شدة التعلق بالآخر أو الحب بمختلف مراتبه العشقية، لينقلنا زمنيًا إلى ذلك التاريخ الذي يستخرج تفاصيله الحادة بوجع تسرب إلى وجدان القارئ بتؤدة وحنكة مؤثرة نفسيًا على تتابع السرد الموصول بقناعة: كيف للمرء أن يتحاشى عنف الآخرين؟
لو عاد الزمن بالإنسان إلى نقطة البداية، سيعاود رسم تفاصيلها الحادة كما هي، لأن كل شيء يبدأ من الطفولة، فمهما تغيرت الأحداث تبقى الطينة النفسية الأولى هي اللبنة الحقيقية لتكوين الشخصية والسلوك. فالبوح النفسي للبطل يؤكد على نظرية الحس الباحث عن محاسبة النفس عن أخطائها ضمن اختيارات الزمن التي تؤكد على قدرة الإنسان المحدودة في تخطي الصعاب أو الأخطاء التي قد تؤدي إلى الندم ومحاسبة النفس: "حاول عبثًا أن يتذكر في أي كتاب كان قد قرأ بأن كل لقاء أول هو بمثابة جرح. لا بد أنه كان قد طالع ذلك خلال أيام مدرسة رولان الثانوية." فهل ذاكرة الرواية هي الأفق الضوئي الذي تتلاشى فيه المادة المظلمة؟
ما بين السرد الموضوعي والسرد الذاتي، متغيرات تابعها "باتريك موديا نو" بحرفية ديناميكية ضمن المنظور الرؤيوي المتعدد الزوايا، وهو بمثابة البؤرة الفنية الحصرية التي تنضوي على مفاهيم وأساليب ينصاع لها المعنى الإيحائي بواقعية تجمد فيها الزمن ببناء تقني روائي يفرض نفسه عبر تسلسل الذاكرة التي يستنبشها، ليروي من خلالها قصة حب لا تخلو من صراعات إنسانية وبرمزية المرأة والوطن وما يفنى وما يبقى وما يتعرض لازمات وانتكاسات وجروح تبقى في الزوايا المظلمة ونسيجها البنيوي والدلالي لإعطائها البعد التخيلي الزمني، أي من الماضي إلى الحاضر لإثارة الأجواء التعبيرية بشخصيات من حيث أهميتها وتناغمها الإنساني المبني على جمالية الصياغة لاكتساب المعرفة من خلال استدعاء الذاكرة إلى الأفق الروائي المفتوح: "لماذا كان كل الذي أكتبه أسودًا خانقًا؟ ها هنا أسئلة لم يطرحها قط خلال تلك الأثناء."
تماثل في عمليتي الوصف والسرد، وبتداخل موضوعي تتشابك فيه عناصر الوصف الانطباعي لإثراء الصورة عند ارتباطها بالعاطفة والانفعالات، والمشاعر الجمالية الساكنة في الضوء أو في الجانب المضيء من الذاكرة التي تجمع الخيوط المحبوكة لتظهر مكنونها المخبوء، كحالة لا شعورية تعيد سرد الماضي، ليكشف عن ماهية الشخصيات ونفسيتها الداخلية من عاطفية، وعقلانية، ووجدانية. ليدرك القارئ ماهية شخصياته الداخلية قبل الخارجية، لتتكون الصورة المتخيلة عبر الواقع الموصوف بتنوعاته الإنسانية في لحظة انفعالية أو إدراكية واعية وغير واعية: "كان يكتب خلال الزوال في غرفة مارغريتا لوكوز، حيث كان يستجير بغيابها. تطل النافذة التي توجد في العلية على حديقة مهجورة تنتصب وسطها شجرة الزان الأرجوانية. خلال ذلك الشتاء."
"لقد كانت تلك المرأة، حسب سجلات الحالة المدنية، أمه." تعبير جارح لابن لا تعني له الأمومة إلا سجل مدني يربطه بالاسم مع من ولدته. فاللغة الفنية في رواية "الأفق" تتمازج مع الماضي والحاضر والمستقبل الروائي المجهول، ليتقصى البعد النفسي بألوان شعورية ترتبط بالحب لامرأة تخاف من رجل ما، ولنفسه التي تخاف من امرأة ما هي أمه. فالآطر الدرامية في الرواية محكومة بالصِياغة النفسية المحبوكة تحليليًا بما يراعي صيغة الإقناع والتأثير، وبمقدرة تعكس الوعي الزمني الذي يحلل من خلاله مسيرة الشخصية الروائية المظللة بسجل مدني هو شبيه بالمادة المظلمة التي لا يخترقها الضوء: "كان ينتابه اليقين بأنهما يوجدان خارج مدار الزمن."
أحلام فرويدية ومعاني تستهلك من الحدث ما يختصره لتتضح الصورة من خلال الحلم واليقظة والتشابه بينهما وبين الواقع الذي يفقد معناه تدريجيًا مع مرور الزمن لنُعيد رؤيته من خلال الذاكرة فقط، حيث يفقد الزمن قيمته الحقيقية، لأنه أصبح في الأفق ونراه من بعيد. "كل ما نحياه يومًا بعد يوم تطبعه لا يقينيات الحاضر." مع مراعاة مسافات السنين والذكريات وإعادة رواية ما تبقى في مخزون الذاكرة وفق أبعاد الرؤية النفسية وعبثية الحاضر بعد إعادة زوايا الماضي لتتجسد ضمن "حاضر مليء دائمًا باللا يقينيات" للهروب نحو الأفق، ليكمل الزمن تواجده في أماكن الذاكرة الزاخرة التي تلاحق المرء ما بين اليقظة والنوم..
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟