سعاد الراعي
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 20:48
المحور:
الادب والفن
كانت شعلة من نورٍ دافئ، لا تحترق لتُنير، بل تتوهّج حبًا وإيمانًا برسالة التعليم. حضورها لم يكن يستدعي الهيبة بسطوة، بل يغرس الاحترام في القلوب كما يُغرس الحب في الأرض العطشى. لم تكن أستاذة تقف على منصة لتلقّن، بل كانت تنزل إلى أعماق أرواح طلابها، تحادث عقولهم كما تحادث القلوب المرهفة، وتبني معهم جسور ثقة راسخة من ايمانها بان العلم حين يُزرع بالحب، يُثمر وعيًا لا يذبل.
وفي ختام إحدى محاضراتها، وبينما كانت تهمّ بمغادرة القاعة، استوقفتها صورة لا تُنسى: حشد من الطالبات التفّ حول طاولة يتوسّطها صمت ثقيل، في قلبه جلست فاطمة... تلك الطالبة الغامضة، التي لا يُرى منها سوى عيون تغزل الغموض من سواد حجابها الكثيف. كانت تبكي، بصمتٍ يكسّر وقار اللحظة.
تريثت الأستاذة بالمغادرة سعيا منها لمعرفة ما يحدث وانتظرت حتى غادر جميع الطلاب الذكور، راحت تراقب الهمس الذي دار بين الطالبات كأنه لغة لا تُفهم... إشارات مشحونة بعواطف عميقة، لكنها عصية على الإدراك بالنسبة لها. اقتربت برويّة، سحبت كرسياً، وجلست قبالة فاطمة، تنظر إليها بعين أمٍّ رؤوم. مدت يدها بلطف نحو يد فاطمة، علّها تواسيها أو تخفف عما يعصف بروحها، إلا أن فاطمة انتفضت، وانسحبت بجسدها إلى الخلف، وأدارت وجهها نحو الحائط، في رفضٍ صارخٍ لم تَعتَدْه الاستاذة من أيّ من طالباتها. وكأنها تقول بصمتٍ موجع: "ابتعدي... لا تقتربي الآن".
بُهتت الاستاذة من ردّ الفعل الغريب، فطالما أحاطتها طالباتها بالمودة والتقدير والاحترام. لم يكن ذلك مألوفًا لديها. اعتراها قلق خفيّ بأنّها ربّما أساءت دون أن تدري. رفعت رأسها، ونظرت إليهن نظرة استفسار وحيرة، وقالت بصوت امتزج فيه الهدوء بالرجاء:
ــ هل يمكن لاحدكن ان تخبرني ما الذي يحدث هنا؟
لم يجب أحد...
أعادت السؤال، بنبرة أقرب إلى الاستغراب:
ــ هل أنا سبب ما تعانيه؟ هل أخطأت بشيء؟
ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف للحظة، ثم خرج صوت خافت، متردد، لكنه واضح، من إحدى الطالبات:
ــ نعم، يا ست.
اتسعت عينا الاستاذة دهشة، وتقدمت نحوها بثبات:
ــ إذن... أخبريني، كيف ولماذا؟
ردت الطالبة بهمسة تشبه شهقة قلب:
ــ لأنها ببساطة تحبك، يا ست.
تعجّبت الأستاذة من وقع الكلمات، وابتسمت ابتسامة امتزج فيها الذهول بشيء من الحنوّ، وقالت:
ـ وما الغرابة في ذلك؟ أنا أيضاً أحبها، وأحبكم جميعًا، وأحسب أنكم تبادلونني هذا الحب... أليس كذلك؟
لكن صوت النحيب ارتفع، كأنّ تلك العبارة لم تُسكِّن الروح، بل زادت وجعها اشتعالاً. شعرت أن البقاء في مثل هذا الحال سيزيد الموقف حرجًا. آثرت الانسحاب بهدوء. خطت نحو الباب بخطى متثاقلة، وما إن اجتازت عتبة القاعة، حتى تبعتها إحداهن على استحياء، وهمست لها بصوت خافت، كأنه تسلّل خجل من جدار الصمت
ـ فاطمة... فاطمة تعشقك، يا ست
ـ ماذا؟؟!
توقفت الاستاذة في مكانها، كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، وأصابها ذهول مباغت اقشعر له كامل بدنها. راح عقلها يوزن هذا الاعتراف المفاجئ لإحدى طالباتها. كانت الكلمات قليلة، لم تكن في الحسبان، لكنها حملت وراءها عالماً كاملاً من الارتباك والتيه. لم يكن الأمر مجرد بوح عابر من طالبة، بل مسؤولية كبيرة امامها تتطلب المجابهة والحسم..
في تلك اللحظة، بدا كل شيء حولها ساكنًا، الزمن توقف، الأصوات انكمشت. ما سمعته هزّها من الأعماق، هزّ صورة العالم المنظّم داخلها، ذاك الذي لم يحسب يوماً أن يواجه مشهداً كهذا.. شعرت كأنها أُسقطت فجأة في دوامة من الحيرة، تفتّش عن معنى، عن حلّ، عن حدودٍ لهذا الذي لا حدود له.
تجولت في ردهات المعهد كمن يسير داخل كابوس غير مكتمل، حتى حطّت بها الخواطر أمام قاعة المحاضرات من جديد. أغمضت عينيها لبرهة، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت. كان في القاعة بقايا من الدموع معلقة في الهواء، فأشارت بلطف إلى الطالبات بالانصراف، راغبة أن تبقى مع فاطمة وحدها.
جلست أمامها، وبلغة دافئة، قالت:
ـ فاطمة، هل نستطيع أن نتحدث كصديقتين؟
لا جواب! سوى شهقات متقطعة، وأنفاس تتصاعد من صدرٍ مثقل. كانت فاطمة تئنّ بصمتٍ لا ينقصه الوضوح، فتابعت الأستاذة،
بصوت هادئ، يختلط فيه الحنان بالحزم، وقد أومأت برأسها بخفة كأنها تنسج من الكلمات أمانًا خفيف الظل:
ــ نعم، يا فاطمة، أنا أيضاً اودك، وأعتز بكِ كثيرًا... أنتِ طالبة مجتهدة، تتركين أثركِ في النفوس. ولكنك، تدركين تمامًا ما الذي يعنيه ذلك. اليس كذلك؟؟
ثم صمتت قليلًا، قبل أن تتابع بنبرة يغلفها الحذر المشوب بالشفقة:
ــ أظنّك الآن تحت وطأة ضغط كبير، ربّما تجاوز قدرتك على الاحتمال، ولهذا أراكِ واقفة وسط دوامة من مشاعر مضطربة، غائمة، لا شكل لها ولا ملامح. تشوّشٌ عاطفيّ كبير، نعم، لكنه مؤقّت... وأنا على يقين أنّك قادرة على تجاوزه، إن أنتِ أمهلتِ نفسك قليلاً، وأعطيتِ لعقلك مساحةً ليبصر الأشياء كما هي، لا كما تُملِيها العاطفة.
ثم ابتسمت، ابتسامة دافئة فيها من الأمومة ما يسكب الطمأنينة في القلب، وقالت:
ــ ما رأيك أن تزورينا في نهاية هذا الأسبوع؟
تعرفين زوجي، الأستاذ طه، وتعرفين أولادي أيضاً... كلّنا سنكون بانتظارك. ستجدين عندنا فسحة من السكينة والهدوء بعيدًا عن صخبك الداخلي، وبعيدًا عن كل هذا الضجيج.
رفّت عينا فاطمة بتردد، كأنها لم تصدق أن الحديث لم يكن لومًا قاسيًا او عتابًا مؤلما، بل رحمة. نظرت إلى طالبتها، وقد بدأ شيء من الأمان يعود إلى ملامحها. ابتسمت الاستاذة في صمت، وقد شعرت بأن شيئاً ثقيلاً بدأ بالانزياح عن كاهلها..
انقطعت فاطمة عن الحضور، كأنها اختارت أن تختبئ عن كل العيون التي ألفتها.
مرّت الأيام الأولى على غيابها، مشوبة بالقلق والتساؤلات. سألت عنها الأستاذة، بعفويتها المعهودة واهتمامها الصادق، فجاءها الجواب خافتًا من بعض الطالبات: "إنها مريضة، يا ست."
تمنّت لها الشفاء، ودعت طالباتها الى زيارتها والاطمئنان عليها، علّ في الزيارة دفئًا يُعيد لفاطمة شيئًا من العافية:
انقضى الأسبوع الثاني ثم الثالث... ولم يظهر لطيف فاطمة أثرٌ في ركن القاعة، ولا سُمِع وقع خطواتها بين الصفوف. ظلّ الباب موصدًا، وكرسيّها خاليًا، ينعى الغياب بصمته الثقيل. أما زميلاتها، فكانت قلوبهن تترقّب عودتها بصمتٍ مشوبٍ بالرجاء... لكنها لم تعد أبدًا. وكان هذا، دون أن يدرك أحد، درسها الأخير..
**
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟