صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 10:33
المحور:
الادب والفن
مقامة التفاهة :
لاحظ ابن قتيبة , قبل أكثر من ألف عام , أن ما يجذب الجماهير ويُغْريهم بالاستماع , إنما هو التافه بالجملة : (( القصاص على قديم الزمان , فإنهم يُمِيلون وجوه العوام إليهم , ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الحديث , ومن شأن العوام القعود عند القاصّ , ما كان حديثه عجيبا , خارجا عن فطر العقول أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون )) (ابن قتيبة , تأويل مختلف الحديث , ص279 , نقلا عن محمد اليوسفي, (فتنة المتخيل) ج2 ص17). وهي ذات المعاني التي ألحَّ عليها ابنُ الجوزي (عاش في القرن السادس الهجري) في كتابه (( تلبيس ابليس)) عندما تحدّث عن (( القُصّاص )) وغرائبهم اللاّمعقولة التي تجذب بتفاهتها وتهافتها الجماهير, ويكون الالتفاف عليهم شديدا بحجم هذه التفاهة , وهو ما يغريهم , أي القصاص , بمزيد من الغرائبية واللامعقولية , لأجتذاب أكبر قدر من الجماهير المسحورة أبدا بالوجداني/ العاطفي واللاّمعقول .
القرن الأول من الألفية الجديدة يمكن وصفه بقرن (( التناقضات )) , بحيث صعدت التناقضات فيه إلى أقصاها , بين صدام الحضارات , بين القيم الغربية والإرهاب الإسلامي , بين الثوريات المصطنعة كما جرى في (( الربيع العربي )) والشباب المتحرر, وبين الدعم المكثف والواعي لإسقاط الأنظمة العربية وتولية (( الحركات الأصولية )) للحكم , كما يمكن وصفه بقرن (( التفاهة الممنهجة )), لقد سيطرت التفاهة على العالم حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضربا من العبث العقلي في العصر الراهن , فالإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير , ولا وقت له لذلك فلقد حاصره التافهون من كل حدب وصوب بالمشاهد , وحاصروه بالصور حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير , وأصبحت الكتابة غريبة في العصر الراهن وغدت الكلمات مشردة تبحث لها عن مأوي بين الأنامل فلا تجد , فقد احتلت الصورة كل المواقع.
يمكن توضيح مظاهر (( التفاهة )) التي سادت في العراق بعد ألأحتلال من خلال مانراه من أمثلة من الخطاب السياسي والإعلامي , والتركيز على التصريحات الشعبوية , والخلافات الشخصية , أو القضايا الهامشية , وانتشار أنماط استهلاكية معينة , وتراجع الاهتمام بالفنون والثقافة الجادة , أو طغيان وسائل التواصل الاجتماعي على النقاشات الهادفة , والتركيز على مشاريع غير ضرورية أو غير مستدامة بدلاً من الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة , أذ يسمح نظام الرداءة والتفاهة لإنسان تافه وجاهل بأن يتاجر في المخدرات , ويعمد إلى تبييض أمواله , فيبني مستشفى يُشغل فيه الأطباء , أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة , أو يُنشئ مقاولة يُوظف فيها مهندسين , فيغدو هذا التافه النكرة رمزا وقدوة في المجتمع , لا بل صاحب الرأي والمشورة والسلطة والقول , أمرا ونهيا , بل ويصبح أيضا صاحب السيادة في الدولة , ويوجه ثقافة المجتمع مع زمرة من الإعلاميين التافهين , حتى يحقق التطبيع بين الفساد والمجتمع , لدرجة تصبح فيه الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب , والخطيئة فضيلة الفضائل , وتغدو الطيبة حمقا , والخبث عبقرية وذكاء.
لم يذهب الوفد الإيراني إلى المفاوضات ممثلاً لطائفة دينية بل ممثلاً لدولة , ولم يذهب لمناقشة المشاكل التي يثيرها فقهاء الإسلام ( السنة والشيعة خاصة ) منذ اكثر من 1400 سنة بل ذهب لمناقشة برنامج ايران النووي , وذهب وفي جعبته خطاباً دبلوماسياً تم انتقاء مفرداته بدقة , يخلو تماماً من مفردات الهجاء التي تعودها الفقهاء وهم يلعنون ابليس ويسبون سارقي خلافة الامام علي , وصارخين في كل مناسباتهم : الموت للشيطان الأكبر , لقد ذهب الوفد الإيراني بلغة دبلوماسية مُنتقاة بدقة , وأعضاؤه يوزعون ابتساماتهم امام الكاميرات , وامام وجوه اعضاء وفد الشيطآن الاكبر دائماً (وهو تقليد خلفته دبلوماسية محمد جواد ظريف ) , ذهب ليمثل دولة , لا طائفة ( فقط التافهون الذين يذهبون إلى اجتماعاتهم الدورية في ايران , وهم يتحدثون باسم احزابهم الطائفية وميليشياتهم , وليس باسم اوطانهم ) , وذهب الوفد الإيراني ليدافع عن مشروع حياتي لا أخروي , دنيوي لا ديني , فما اصغر التافهين الذين يذهبون إلى اجتماعاتهم الدورية في إيران , وليس في جعبتهم مشروعاً وطنياً يدافعون عنه بل يذهبون لتلقي أوامر جديدة , وتعليمات عن كيفية تنفيذها , فما أتفههم .
أن الالتفاف الجماهيري الواسع حول الخرافي واللاهي والتافه والغرائبي والمضحك والمُسَلّي والفوضوي له تاريخه الذي لا يُنْكر, مقابل ضآلة جمهور الجاد والعقلاني والمتسق المنتظم في صيرورة فعل أو قول , ويؤكد المفكر الفرنسي جوستاف لوبون كثيرا ما أكّد (وخاصة في كتابيه: الآراء والمعتقدات , وسيكولوجية الجماهير) على أن الجماهير تنفر من العقلاني , والجِدّي والصادق , وتنجذب بشدة إلى الخرافي واللاّهي والعاطفي والغرائبي والفوضوي, و قديما, قال أبو الطيب المتنبي : (( لولا المَشقّة سَادَ الناسُ كُلُّهم الجُودُ يُفْقِر والإقدامُ قَتَّالُ)) .
تجسد مفهوم ((التفاهة )) , وترسخ , في سياق ما بعد الغزو ألأميركي , وتمظهر في غياب الأولويات الوطنية الحقيقية , مثل التركيز على قضايا سطحية أو خلافات هامشية , بدلاً من التنمية والإعمار والاستقرار , وتسطيح الخطاب العام , من خلال انتشار السطحية في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي , وتراجع النقاشات العميقة والهادفة ,أضافة الى طغيان المصالح الشخصية والفئوية , على حساب المصلحة العامة , والقضايا الوطنية الكبرى , وتراجع الثقافة والفنون الجادة , وبروز أشكال ترفيهية استهلاكية لا تعكس عمق وتاريخ العراق , مما عمم الشعور بالعجز واللامبالاة , كنتيجة للإحباط من الأوضاع السائدة.
لقد ساهم الغزو وما تلاه من أحداث في ظهور وتفاقم هذه (( لتفاهة )) , بسبب تفكيك المؤسسات , وتأثير ذلك على فقدان الهوية الوطنية الجامعة , والتقسيم الطائفي والعرقي , وكيف أدى إلى تشتيت الجهود والتركيز على الولاءات الضيقة , التدخلات الخارجية المستمرة , وتأثيرها على أجندة النقاش العام وصرف الانتباه عن القضايا الداخلية , والفساد المستشري , وتأثيره على فقدان الثقة وتكريس ثقافة الاستهلاك والبحث عن المكاسب السريعة , ضعف التعليم والثقافة , وتأثير ذلك على القدرة على التفكير النقدي والمشاركة الواعية في الشأن العام , وتأثيرالصدمات النفسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب والعنف , وانعكاساتها على الأولويات والقيم.
قال الشاعر : (( ولــكَمْ تَــصَدَّرَ فــي الأنــامِ جَهُولُ سَــمِــجٌ غــبــيٌّ تــافــهٌ مــخــبولُ , مَـــعَ أَنَّـــهُ يَــدري بــأَنَّهُ كــاذبٌ يُــرْغِــي ويــزبدُ لــلحديثِ يُــطِيلُ , وكــــأَنَّــهُ (قِـــسٌّ) وأنَّ كــلامَــهُ حـــقٌ لـــهُ فــي الــعالمين قــبولُ , ويَــظنُّ أنَّ الــناسَ خُــرْقٌ سُــذَّجٌ يــغْــويهمُ الــتَّــزْيِيفُ والــتــضليلُ )) .
صباح الزهيري .
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟