أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - الشهبي أحمد - حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر سردية الألم














المزيد.....

حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر سردية الألم


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 08:46
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


أن تبدأ الحديث عن "تزمامارت" وكأنك تتحدث عن كتابٍ عاديٍ هو نوعٌ من الوقاحة. وأن تضعه على رفٍّ بجانب كتب السير الذاتية الأخرى، هو إهانة مزدوجة: للكاتب، وللمأساة التي لا تليق بها تسميات من قبيل "رواية سجون" أو "أدب الاعتقال". "تزمامارت الزنزانة رقم 10" هو أكثر من شهادة، وأكثر من صرخة، وأكثر حتى من عمل أدبي. هو بمثابة محضر إدانة ضد نظامٍ مارس التعذيب لا كأداة، بل كفلسفة، ضد جهازٍ آمن بأن الإبادة المعنوية يمكن أن تتم تحت شعارات الوطن.

حين تقرأ هذا الكتاب، لا تفكر في ما إن كانت الكلمات منمقة أو إن كانت التراكيب قوية، فالمسألة ليست هنا. المسألة أنك تصبح شريكاً في الجريمة، شاهداً جديداً عليها. المرزوقي لا يطلب تعاطفك، بل يفرضه عليك فرضاً، دون أن يبتزك عاطفياً أو يختبئ خلف الكلمات. يفتح جرحه على الصفحة، ويجبرك على النظر إليه دون رمش، حتى تستبصر عمق الوحشية التي قد يصل إليها الإنسان باسم النظام والانضباط.

لم تكن "الزنزانة رقم 10" مجرد أربعة جدران، بل كانت مختبراً للغريزة، لطبائع البشر في أقصى حالاتهم: حين يتجرد الحارس من أوامر قائده ليقدم لك كسرة خبز، أو حين يبكي السجين لأنه تذكر لون السماء. هذه اللحظات الصغيرة، التي يرويها المرزوقي دون تضخيم، هي التي تمنح للنص ثقله الأدبي الحقيقي. لأنها تكشف كيف يمكن للإنسان، وسط الحصار المطلق، أن يحتفظ بجزء من آدميته، ولو على هيئة همسة أو حمامة أو صلاة صامتة.

والأدب هنا ليس زخرفة بل ضرورة. كل جملة كتبت في هذا العمل هي مقاومةٌ لسنوات الصمت، كل استعارة هي خيانةٌ للصمت المفروض، وكل مفردة تصرخ في وجه النسيان. وبهذا، فإن "تزمامارت" لا يُقرأ فقط، بل يُواجه، كما يُواجه المرء ماضيه أو كابوسه. لا يكتفي المرزوقي بسرد الوقائع، بل يغوص في سؤال أعمق: كيف ينجو الإنسان دون أن يفقد ذاته؟ كيف يتأقلم مع العدم دون أن يصبح جزءاً منه؟ كيف يخرج من قبر حيّ وهو ما يزال قادراً على الحكي؟

ولعل هذه القدرة على الحكي هي ما يميز الكتاب، ويضعه في مرتبة النصوص التي لا تُنسى. فالسرد هنا لا يقوم على التشويق، بل على التعرية. لا يبحث عن رضاك كقارئ، بل يسعى إلى صدمك، إلى تفكيك أوهامك عن مؤسسات الدولة، عن العدالة، عن التاريخ نفسه. في تزمامارت، لم تكن الدولة تختبر ولاء جنودها، بل كانت تحاول أن تلغي فكرة الإنسان فيهم. وقد فشلت.

أحد أقسى المشاهد في النص – وربما أكثرها شاعرية في الآن ذاته – هو وداعه لحمامة الزنزانة، "فرج". هذا الطائر الصغير الذي صار رمزاً للحرية والانتماء والرفقة في عالم مسلوب، حين طار بعيداً، لم يأخذ فقط لحظةً من الدفء، بل حمل معه ما تبقى من توازن نفسي داخل السجن. ومن هنا، تتحول الحكاية من مجرد وقائع إلى تأمل وجودي في معنى العزلة، والوفاء، والبقاء. وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا إن أقسى ما في القهر ليس التعذيب، بل خسارة القدرة على التعلّق.

ليس غريباً أن يُمنع هذا النص، أو أن يُهمّش في المناهج الدراسية، أو يُعامل كقصة فردية تخص مجموعة من العسكريين الخارجين عن الطاعة. فمثل هذه النصوص تُربك السردية الرسمية، وتُحدث ثقوباً في جدار الرواية الكبرى التي تريدنا أن نصدّق أن التاريخ نُحت من ذهب. لكنّ "تزمامارت" يذكرنا بأن هناك تاريخاً آخر، مكتوباً بالدم، بالبول، بالعفن، بالحفر على الجدران وبالانتظار المرّ الذي لا ينتهي.

أسلوب المرزوقي يتعالى عن الكراهية، لكنه لا يسامح. يروي، ولا يصرخ، لكنه يوصل الصرخة كاملة إلى قلبك. هذه الموازنة بين الصدق الأدبي والهدوء الأخلاقي نادرة في هذا النوع من الأدب. لا يسقط في فخ البكائيات، ولا يتلبّس دور الضحية الكامل. يكتب كما لو أنه يُفرغ شحنة كهربائية راكمها طوال عشرين سنة في جسده وعقله، وحين كتب، لم يتطهّر، بل حرّرنا نحن.

هذا الكتاب لا ينبغي أن يُقرأ وحيداً. يجب أن يُناقش، أن يُدرّس، أن يُفتح على موائد الحوار. لأنه لا يحكي فقط عن المرزوقي، بل عنك، عني، عن أي مواطن قد يتحوّل في رمشة عين إلى مجرد رقم في زنزانة. وهو بهذا، يخرج من ضيق التجربة الشخصية إلى رحابة المأساة الجماعية.

وأخيراً، فإن اللقاء ومجالسة المرزوقي في مقهى جماعة أورتزاغ بتاونات، كما هو موثق بصورة اسفله، لم انظر إليه كلقاء لكاتب فقط. بل هو تذكير بأن الناجين من الجحيم لا يعيشون بالضرورة في سلام. إنهم يواصلون السير في هذا العالم وهم يحملون رائحة الرطوبة الحديدية في أنوفهم، وذكريات الليالي الطويلة في عيونهم. وبعضهم يكتب، كي لا يُدفن حيًّا مرتين.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشريح الصمت: قراءة نقدية وتحليلية لرواية المريضة الصامتة
- معرض الكتاب... جنازة ثقافية بكاميرات عالية الجودة
- حين تكشف الرقمنة المستور: الأمن السيبراني في عطلة مدفوعة الأ ...
- من أسامة مسلم إلى أحمد آل حمدان: حين يكتب التيك توك الرواية
- من التوقيف الى التصفيق
- الدعم… وقسمة الحظ
- موسم الانتخابات… نُمنح الحق في الحلم من جديد
- الخوف.. البضاعة التي لا تبور
- بين المساواة والنفقة… تضيع العدالة
- رحلة في الطوبيس: من الكرامة إلى الزحام
- المغرب يقود طريق السلام في الصحراء: رؤية تنموية تكشف زيف شعا ...
- خاتم من ورق وقفطان للذِّكرى… العُرس تأجيلٌ جماعي
- المجتمع الذي يربّي بسكين
- أرض النخبة وقوة القاع: رحلة في تفاوتات المغرب الاجتماعية
- صرخة أرفود: دم الأستاذة على جبين الدولة
- الأسرة التي أصبحت الآلة لتفريخ المجرمين بتفوّق
- الطماطم تحكم… والمواطن ينتخب الصبر
- الكرة في ملعبهم… ونحن في قاعة الانتظار
- الإيمان تحت رحمة الجغرافيا
- كاتب رأي... لا صحافي ولا هم يحزنون


المزيد.....




- المجاعة تتفاقم في غزة: أطفال القطاع يعانون سوء التغذية ونقص ...
- العفو الدولية تندد بـ-اعتقالات تعسفية- وتتبعات -جائرة- في ال ...
- اعتقالات وإجراءات أمنية تواكب محاكمة زعيم المعارضة بتنزانيا ...
- نحو 3.7 ملايين.. هذا ما يمنع عودة اللاجئين السوريين في تركيا ...
- الأمن التونسي يستأنف حملة تفكيك خيام المهاجرين بصفاقس
- الوحدة الشعبية يوجه رسائل عدد من اللجان والمنظمات الحقوقية ب ...
- قوات الاحتلال تغتال صحفياً وزوجته وابنته في دير البلح
- الوضع الإنساني بمدينة الفاشر السودانية يزداد سوءا مع اشتداد ...
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات في الضفة الغربية
- كيف أضعف قطع المعونات الأميركية التحقيق بجرائم الحرب في سوري ...


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - الشهبي أحمد - حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر سردية الألم