|
عبد الحسين شعبان: سراجُ ضوءٍ لا ينضبُ زيتهُ
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 17:14
المحور:
قضايا ثقافية
البروفيسور ناصر زيدان*
قد يدفعُك بعضُ التفكير الى مجاهِل الوحشة، وقد تنحرفُ الثقافة الى مداركِ الوهن، ويمكن للمضمون الأسود أن يُغلَّفَ بغشاوةٍ ناصعةِ البياض رقيقة، لم لا؟ فحبةُ العلقم تُشبه ثمرةَ التفاح، وشتان بين مرارة الأولى وحلاوة الثانية. وأياً ما زرعت في الأرض تحصُد، فهي ذاتها التي تُنبِت هذه وتلك. وهكذا هي الثقافة؛ يمكن أن تكونَ كالعلقمِ المسموم، او كعوّدِ الغردق، ويمكن لها أن تكون كزهرةِ البيلسان؛ تنفحُ المرارة كما الأولى في مكان، وتبعثُ الحياة والشفاءَ كما الثانية في مكانٍ آخر. عبد الحسين شعبان؛ أرضٌ خصبة لإنتاج الفكر المتنوِّر، أديبٌ ومثقفٌ وفيلسوف، يُزهرُ في كلِ الفصول، ويعقُدُ ثمرهُ مهما اشتدت الرياح على رحيق اللُقاح. نجفيٌ الهوية ثابتُ الهوى ومُتدفق العطاء كجريان النهرين، وأُممي الرؤى، وعربيُ الأصالة، ليس له حدود، تماماً كفلسفة الوجود المطلقة، كلما اعتقدت أنك اقتربت من الوصول الى نهايتها؛ انبسطت أمامك أُفقٌ أوسع. لا يمكن تناول كل جوانب إغناءات عبد الحسين شعبان ومجهوداته الثقافية المتنورة في السياسة كما في القانون والشعر والأدب في محضرٍ واحد، ولا تحتاج الإستحالة الى توضيح أمام مثل هذه النُخبة المُختارة من عشاق الثقافة، أهلُ العلمِ والمعرفةِ او العرفان، لأن جميع الحاضرين يدركون صعوبة تناول كل عناوين الموضوع المطروح في هذه العجالة، ففكرُ شعبان بحرٌ واسع لا تدركه المراكب بوقتٍ قصير، بينما التنوير مساحةً لا حدود لها، وهو سراجُ ضوءٍ لا ينضبُ زيتهُ. عرفت عبد الحسين شعبان قبل أن اتعرَّف عليه، فكان حاضراً بقوة في مساحةِ حاضرةِ الفكرِ والأدب، وكيفما اتجهت في مسالك الأبحاث، ترى أمامك أدراجاً رصفها شعبان لكي يعبرُ فوقها التواقون للولوج الى فضاءاتٍ علمية وفكرية وفلسفية أوسع، وهي معينٌ لكل طالبِ إرتقاء من دركِ عتمةِ الجهلِ الى فضاءِ النورِ الأرفع. كتبَ في القانونِ وفي السياسةِ وفي الشعرِ وفي الأدبِ وفي النقدِ وفي الثناء - كي لا نقولَ في المديح - وفاضت بأفكاره صفحاتُ كتُبهِ الستين، وأغنت مقالاته الصحف والمجلات، وكان لمقابلاته الملفوظة صداً في الأثير البعيد.
التقينا في حلقةِ نقاش حول كتاب "الحكيم الموحِّد كمال جنبلاط في تجلياته الهندية" واستمتعنا لاحقاً مع كوكبةٍ من النُخب لمطالعته التبريرية الشيقة لدوافع كتابته عن "رحلة البنفسج" لشاعر البلاغة والعامية والصور الجميلة مظفّر النواب، وشدَّتنا إليه جواهر كتاب "جدلية الشعر والحياة" لمحمد مهدي الجواهري، وأخذنا بعيداً؛ من معالجتهِ للرقةِ ولرفعةِ الشعرِ والأدبِ وحقوق الإنسان، الى خشونةِ السياسةِ ومكائدِها في كتابه عن ثعلبين ماكرين في تاريخ السياسة الأميركية هما: هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجينسكي، ولا تخففُ من خشونتها رقة تسمية كتابه الأخير "ترست الأدمغة في الاستراتيجية الأميركية" لكننا غفرنا له إتعابَنا بموضوعٍ شائكٍ ومُعقَّد، لأنه أشار الى أن الفكر أكبر من التحزُّب ومن العقائد الثابتة، وهو يتعايش مع كل الرؤى ومع المستجدات والعصور، ينقضُها ويُثريها حيثُ تدعو الحاجة. لم يتقبل كثيرين مقاربات شعبان الفكرية. والخبثُ، او الحشريةُ، دفعت قسماً منهم الى خربشةِ المكائد على صورته الناصعة. ولم يرقَ تنوعِها لبعض الحاسدين، او للذين يمتهنون محاصرة الأفكار المستنيرة بستائر مُسدَلة، بإعتقادهم أنها تخفي الذخائر والدُرر، كما لو أنهم يغلفون سندويشات الطعام تعفُفاً قبل أن يلتهموا ما بداخلها بشراهة. ولم يستوعب هؤلاء؛ كيف لقائدٍ يساري، او ماركسي، ان يحاضرَ في الفقهِ وفي نهجِ البلاغةِ، وكيف له أن ينادي بالتحرَّر والاستقلال، ويتعمَّق في دراسة البراعة البراغماتية – او الماكيافيلية - للسياسة الأميركية، وكيف له أن يكون قومياً عربياً من الطراز الرفيع، ويحصل في ذات الوقت على أرفع وسام للصداقة العربية – الكردية، وكيف له أن يكون محامياً وحقوقياً واستاذاً جامعياً، ويرندحُ الشعرَ ويغفوا على رقة الأدب في آن. لهؤلاء أعذارَ تخفيفية، لأن الشحّ الثقافي حجبَ عنهم إدراك الترابط بين مُندرجات العلم على اختلافها، وفي أن العقل البشري يمتدُ الى الحدود الخمس؛ أربعة منها في الأرض وواحدٌ في السماء. حركة التنوير الثقافي في الماضي؛ خلَّصتِ البشريةُ من مظالمِ المعتقداتِ الواهية التي شوَّهت انسانية وعدالة المسيحية السمحاء، وأنهت الإستبداد باسم الدين، وأعادت الحق لإرادة الشعوب بتقرير مصيرها، دون أن يكون حكمُها قدراً منزلاً، كما روَّج له اباطرة التجبُّر والإضطهاد. والفكرُ النيّرُ اليوم؛ مُطالبٌ بتسليطِ الضوءِ على الإنحرافاتِ الهائلة في بعض مسالك الدينِ وفي بعضِ معاجمِ العلم. هناك مَن يقتل الأبرياء باسم الرب او بإسمِ الوصايا التوراتية المُحرَّفة، بينما رسول اللهِ والسابقينَ له، اعتبروا أن: من قتل نفساً بغير حق كأنهُ قتل الناس أجمعين. وهناك مَن يكفِّر مَن يخالفه الرأي، او لأنه يطَّلع على ثقافاتٍ ومسالكَ مُتعددة، بينما الرسول الكريم قال: اطلبوا العلم ولو في الصين، وإمامهُ المُبدع علي بن أبي طالب قال: للحقيقة ألفُ وجه، ومن البلاغةِ أن تخاطبَ كُل قومٍ حسبما يفهمون. التطور التقني والسيبراني أغنى العالم، وجعله قرية كونية واحدة، واختصر الجهد والمسافات، وهو نتاجُ العلمِ ومن صنعِ الإنسان، ولكنهُ في الوقتِ ذاتهِ قد يُهدِّدُ مُستقبلَ الآدمية، وقد يُفني البشرية؛ إذا لم يضبطهُ التنوير الثقافي الذي يحدِّد ما هي المقاربات التي تحمي أشرف المخلوقات؛ فالإنسان هو غاية أي عمل او مؤسسة بشريين كما قال كمال جنبلاط. وسماعُ صياحِ الديك غيرُ اللحاقِ به. يعيش البعض تحت أضواءٍ باهرة، ولكنهم في ظلمةٍ معرفيةٍ قاتلة، بينما يعيشُ بعضٌ آخر في عتمةٍ مُوحشة، فيها قهرٌ وفقر، ولكنهم في الظلمة المُنيرة. بعض المُعتقدات والميثولوجيات والممارسات، فيها حقٌ ويرادُ بها باطل، وتجاهلُ التراكم الفكري والثقافي الصائبين؛ جهلٌ ما بعده جهل، فالخير الوحيد في هذا العالم هو: المعرفة وفقاً لتعبير البيرت أينشتاين. واللطيف دائمٌ وهو سابقٌ على الكثيف الزائل، ويقول سقراط الحكيم: تكلَّم كي أراك، فصوتك يُعبرُ عن وجودك. أما زهير بن أبي سُلمى، فقال في معلقتهِ وهو في سنّ الثمانيِّن: لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده... وما تبقى صورةُ اللحمِ والدمِ. لن نسترسل، لضيق الوقت المُخصص لنا من "جلادي" الإنتظام، القيمينَ على هذه الندوة الكرام، لكن الجلاّد يمكن أن يكون على حق احياناً، فالنظام ثروة في معراجِ التقدم، وجلدتهُ تُكسِبُ الأجرَ. والحمد لله على ما خصصوه لنا من وقتٍ ضيق، فهم جنّبونا الدخول في مأزقٍ مُحتَّم؛ فهل نسترسل ومالكٌ شعبانيٌ في المدينة؟ وهو القائل: نغمةٌ في العشقِ تكفي... نقطةٌ حبرٍ تكفي، فلا تُكثِر عليك الأقلام والورق. أطال الله بعمرك مع دوام الصحة يا عبد الحسين شعبان، وانشاء لله يكون عمرك مكتوب مئة سنة وأكثر كما يقول تُقاة الموحدين الدروز، والعمرُ صحة وليس سنوات، كما سرَدَ لنا المثلث الرحمة البطريرك نصر الله صفير إبان أحد زياراتنا له وكان في عامه الرابع بعد التسعين. فوجودك أيها المفكر المُبدع قيمةٌ مُضافة في الحياة الدنيا، وأمام عطائكَ متسعٌ لا حدود له. شكراً لمنظمي الاحتفال وللحاضرات والحاضرين جميعاً.
-مداخلة د. ناصر زيدان في ندوة "الثقافة والتنوير" تكريماً للدكتور عبد الحسين شعبان في بلدة عيناب في 5 نيسان / أبريل 2025
*البروفيسور ناصر زيدان أستاذ للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، رئيس وحدة الدراسات السياسية والاستراتيجية في المعهد العالمي للتجديد العربي، مستشار رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، الأستاذ تيمور جنبلاط - لبنان
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد الحسين شعبان.. صوت العقل والحرية والإنسان
-
حوافر القراءة الإرتجاعية ومخالبها: معاينة في كتاب د.عبدالحسي
...
-
-ومضةٌ من رحلة شعبان مع الجواهري-
-
مظفر النواب وعبد الحسين شعبان و رحلة البنفسج
-
النجف تحتضن ابنها البار المفكر عبدالحسين شعبان
-
عام التنابذ الطائفي: قراءة في خطاب الدكتور عبد الحسين شعبان
-
الدكتور عبد الحسين شعبان: أنموذج للمفكر الحر
-
عبد الحسين شعبان... المثقف النقدي والمشروع الثقافي
-
وطن التغابن -الى د. عبد الحسين شعبان-
-
تحديات بناء الدولة
-
الشعبانية في الواقع والمآل
-
النجف تكرّم مبدعيها - للمفكر شعبان ولدوحة آل سميسم وللنجف ال
...
-
عبد الحسين شعبان: عطاء مميّز في شتى حقول الفكر والمعرفة
-
عبد الحسين شعبان في ثمانينيته
-
فم مفتوح .. فم مغلق - النجف تحتفي بإبنها
-
النجف تكرم مبدعيها: عبد الحسين شعبان انموذجاً
-
طائر في سماء الحرية وهب نفسه للفكر والحياة
-
رائد التجديد والفكر الحر
-
عرفاناً وتثميناً بذخائر ومأثر منجزاته ونبل مواقفه النجف الأش
...
-
الشرق الأوسط وعواصف الجيوبوليتك
المزيد.....
-
السعودية.. -الأمير النائم- بعد 21 عاما في الغيبوبة يثير تفاع
...
-
دراسة تكشف العلاقة بين توقيت النوم وذكاء المراهقين
-
أبرز مواصفات الهاتف المنتظر من هواوي
-
-خطر صامت- يتسلل إلى الشرايين ويهددنا بجلطات قاتلة
-
علاج واعد يستهدف السبب الكامن وراء آلام أسفل الظهر المزمنة
-
الولايات المتحدة تستعد للأخطر
-
مباحثات روسيا وعُمان خطوةٌ في الاتجاه السليم
-
كيف نجحت روسيا في أن تصبح لاعبًا رئيسيًا في سوق الأسمدة العا
...
-
بكين تكشف أوراقها في إفريقيا
-
هل ينسحب ترامب من لعبته مع موسكو وكييف؟
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|