|
عناصر منفصمة...5
محمد الإحسايني
الحوار المتمدن-العدد: 1803 - 2007 / 1 / 22 - 12:00
المحور:
الادب والفن
غياب عباس وانعكاسه على الأسرة وال الصحو في مدينة الدارالبيضاء أيام الشتاء: معركة نشبت بين سحب قادمة تحاصر الزرقة من شتى الجهات، تغزو المدينة وتزحف على الفضاء بلون رمادي. قتامة من الزرقة الكئيبة تواجه الصفاء. سكان العمارة المقابلة للكشك يتناوبون في الدخول والخروج، وبشكل مستفز. سيدات أجنبيات كئيبات الملامح، بصحبة أزواجهن الكهول، مواطنات أخريات بصحبة أولادهن أو بمفردهن. الكل ينطلق في مناكب وسط المدينة. خرجت من السجن. لم تستطع إثبات هويتك، عبثاً حاولت أن تجد لك عملاً لدى " عبقادر" والد رابحة، وتاجر الدارجات. تأملك طويلاً، تأهبت لسماع النتيجة؛ وأنت تتمتم في ذلة: - قلت لي عد بعد أيام... بدا لك كهرم ملتوي المسالك، صعب الصعود: قاطعك لأنه لا يريد أن يؤاخذه إنسان بإخلاف الوعد: - سألت عنك، فقيل لي: إنك بلا أب. حاولت اختبار المدخل الأول من المداخل الصعبة: - يا السي عبقادر، أنت ولا شك، سمعت عن غياب والدي، فلن أتولى أي مسألة خطيرة تحتاج إلى ضمانة مالية. قطع عنك كل طريق: - كل قطعة من قطع الغيار هنا يا ولدي بالمال: المسألة ليست بسيطة كما تظن. ازددت خنقاً؛ وأنت تود الحسم بأي ثمن: - المعاملة تقتضي منا التعامل بالجد، حتى مع بني قريظة. أنت تعلم حاجتي إلى العمل. قهقهة إعجاباً بمحاجتك، فقال في حذر، شأن من يبرئ ذمته من المنبوذين: - بما أنك (حرامي) إلى هذا الحد، فهناك عمل، ليس فيه تعقيد. ما أغباك ياكبور ! تشوقت لمعرفة نوع العمل أسرعت تستفسره: - ترى ما هو؟ سكت. وتراءى لك شيئ يشبه الرزانة في جبهته العريضة، ووجهه الملتحي قليلاً، فتنكت: - أنت تعطي وهم يعطون، أنت تعطي وهم يعطون (كل شيء على ظهرك يا كبيبيرة) قطبت حاجبيك، متسائلاً، وأنت لم تدرك مقصده، ثم عاد ينحي عليك باللائمة، إذ كيف غابت عن فطنتك وصعلتك تلميحات محدثك؟ شرح لك، موضحاً: - ظننتك من (الحراميين) الأذكياء (ساعة واترني)... ثم أردف؛ وهو لايزال ممسكاً بأذنك: - ستفرغ شحنات الحبوب في هري بلامين (بالعطش)...قل له: إن عبقادر هو الذي بعثني. لعنت التجار، والحبوب، والدرب، ورابحة، ورشاقة الفتيات ودلالهن. انضم كبور إلى عمال الإفراغ والشحن. تردد كثيراً على مخازن الحبوب والأسمنت والحديد، بعد أن عقد صداقات مع الحمالين، وعمال المرافق التجارية وتردد معهم على بقالة الخمر في الدرب ليجد نفسه يوماً وجهاً لوجه، أمام كشك لبيع الجرائد، يتسلمه من بوشعيب، صديقه في السجن، وكان يتميز برقة القلب، ونبل العاطفة، تنازل له عن الكشك مقابل بضعة آلاف ريال. الكشك، يقيه من البرد، والحر، والتسكع في المدينة. اضطربت أحواله عند غياب عباس يومذاك، هو والوالدة، رغم أن جعيبة دائب الحضورإلى حانوت النعالة، فأصابهما من جراء ذلك، غمة شديدة. لم يعد يطرق سمعهما جرس العربة، ولا صهيل الأدهم، ولا فرقعة السوط، وكل ساعة، وكل دقيقة، ترهف الوالدة سمعها، عسى يطرق أبوه باب الإسطبل. "لم تنل من دنياك إلا الزلاط". ثم وجد نفسه يعرض كل يوم: " لوبوتي ماروكان" و"لا فيجي".في كل يوم، يسأله المواطنون عن الجرائد العربية، فيحيلهم على الأحياء الخلفية، حيث تعرض الجرائد والمجلات الشرقية على الأرض مع الخرذات. اضطرب، حين علم أن حميداً عين باشا في الجنوب. أيام الصبا، لا تكاد العين ترتفع عن مستوى الأقدام الزاحفة بإمعان: عشرات من أحذية الأوروبيين، واليهود مقتني الثياب القديمة، واللحامين، والزّجاجة، تغدو، وتروح أمامه. لم تكن بلاغي العرب الصفر، قابلة للتلميع؛ كانت رائحة الترمس الطازج والبيرة تفوح في أجواء شارع لورين. اليوم فقط، رائحة الدجاج الرومي نصف مشوي تستقبلك مع سيقان المطرودات من المدارس: ثلاث زيجات فاشلة، أكدها الطبيب بورقة لا مجال لدحضها. في السجن، كانوا يضربون إليته بمقلاع صغير، يرمون منه بلية صغيرة: "قل لنا عن أصحابك يا ابن ال... من أعطاك المناشير، ومن أي مطبعة..؟ يصمت. وعندما تصيب البلية إليته يصرخ. وكانت طامو بدورها قد أمضت أسبوعين أول أمرها، في خدمة مدام بيزاردو. وقالت لها بيزاردو، مبهورة أمام أكوام من الغسيل، أنجزتها بدون توقف: "فاتيما: سأعلمك مهنة تقيك مغبة الجوع طوال حياتك" وكانت تفتخر بأن مدام بيزاردو علمتها أكلة تصنع من فتات خبز يابس، مع فضلات لحوم ودهنيات بالطماطم المجفف. وظلت تتكلم في كل مناسبة، مأخوذة بالحياة الأوربية الجديدة بالنسبة إليها. سألها كبور أوان التحاقها ببيزاردو؛ وكان لايزال يومذاك في ريعان شبابه: - أماه، كيف يعيش الأروام؟ - كل شيء عندهم بنظام وميقات. مسح الأحذية يومذاك، اختيار صعب، لكنه مقبول. ثم خفف ذلك على نفسه:"عظائم الأمور، تنشأ من دقائقها". وعاد يؤكد لوالدته: - لعنة الله عليهم، وعلى أعمالهم، ومآكلهم، وتآكلهم، ومدارسهم. وكان قد استهزأ به مدير مدرسة جان دارك، عندما حاول أن ينخرط فيها، التمست له والدته كامل العذر، ثم راحت تطمئنه. وإذ عاد مسيو دجوفاني ليخرج العربة من الاصطبل، تتلقاه بالترحاب؛ وعيناها تلتهمان حذائيه الجلديين اللماعين : - بونجور ميسيو ! ... وينحني دجوفاني على العربة يجهزها. وبمضي الأيام، أصبحت تعيش في ضائقة، قاب قوسين أو أدنى من هاوية سحيقة، سوف تنزلق إليها ومعها كبور، لو لم تتسلح باليقظة والحزم. كادت يومذاك، تستسلم لما توحي به الأشجان، فهي لا تدري كيف يكون بالإمكان، أن تتدارك أحوالها... لكنها أصرت في عزم أن تعمل أي شيء، حاشا أن تمد يدها بالسؤال، تستغيث بالأعاريب من أقاربها.(ما جدوى القربى، وقد انتزع القائد أرضهم ونكل بعبوش؟ لم يتكلم أحد من الأعراب. هناك في العروبية رائحة الشماتة تفوح، أقاويل تتحدث عن عبوش المسكينة التي نزلت بها محنة القائد، وهجرة عباس، عند اقتراب الفجر.) وأمام كبرياء أنثى مثلها، حلت محل تلك الخواطر كلها، إرادة استحوذت على كيانها المتمرد. فكانت تردد في خاطرها ساعة الخلوة:"وددت لو أننى أكتنه آفاق الناس الأخيار." وليس ذلك لنزوة فحسب؛ ولكن لأن الديون قد تراكمت عليها.فجعيبة مع إخلاصه واجتهاده، لم يكن في مستوى عباس من القوة والحزم. ولأن الزبائن، قلما يؤدون، لغلام غير ماهر في الصنعة. إنها تتذكر جيداً ذلك اليوم المشؤوم، حيث أغلق دكان زوجها نهائياً. جاءها زبائن حتى الاصطبل، ولما يئسوا من الخدمة، رجعوا إلى غير حانوت عباس من حوانيت النعالين في المدينة. (مسكين جعيبة !) وإن تنس، لا تنس يوم أخرجوه من الحانوت، أمسك دمعه، وتحمل المفاجأة؛ جرى إليها تواً، وقد أصابه الفزع يحمل إليها الخبر المؤلم، وكأنما الحادث نهايته، ونهاية أسرته، ونهايتها هي أيضا: "سيدتي، حانوت سيدي أخذوه: بوليسيان، ومقدم، وصاحب العقار أخرجوني ! " ما كاد يتم كلامه، حتى أجهش بالبكاء، لقد كان صادق السريرة حقاً، ولم تمض أيام، حتى وقف صاحب الإسطبل بدوره، يطلب تسديد الإيجار، وإلا؛ فالإفراغ ما منه مناص: رجعت إلى كبور تدمدم مولولة: "كم سقط من عرق أبيك على أرض الحانوت: الدق، والنعل، والكي، والمسامير المتلاشية. الأرض والمثمورة، وكل ما نملك، أخذوه في العروبي، فكان يجيبها:(لم أع شيئا عن أرض العروبية، إنما فتحت عيني على زبالة درب عمر، وعلى الذباب، وعقيق قلائد الحداد.) هكذا وجد نفسه أمام أشياء لا تنبني على أية قاعدة واضحة، ولا تكشف إلا عن معان جد غامضة. في رأيه أن (عبوش حلقوا رأسها، رعت غنم القائد. الأرض، قالوا، أخذها القائد... أبوه غائب عن الدرب: "ما معنى كل ذلك؟ صعلوك مثلي، أكثر احتياجاً إلى القوة.". وقررت طامو أن تنتظر حتى تأتيها فرصة سانحة. لكن تقلبت على السرير تحمل ثقلاً يشل كل أطرافها ! كانت تحسبه الموت، أو النوم، أو شيئاً غير هذا ولا ذاك. لما عادت يوماً من المدينة، لم تجد أي أثر لكبور. غادرت الإسطبل بسرعة، ثم عبرت شارع استراسبورغ، صوب زقاق درب بن جدية، توقفت قليلا حتى مر طابور الجنود، ثم ولت وجهها شطر حارة الحمام؛ فإذا بها على وشك خطوات من باب مدام جوفاني. (أحر بمثيلاتها أن يخرجن من بداوة الأعراب !) في وجه دجوفاني، ملامح توحي بالقوة والبأس، وبنظرات مشتعلة بالغيظ، إن وجهه المحتقن، لقريب جدا من هيئة الرومي الذي ملأت به جدتها المرحومة خيالها، حكت لها في الصغر، عن بطش الروم المعتدين، فكان ذلك الخيال الطفولي البعيد في غور نفسها، ينطبق بكليته على دجوفاني، وكثيراً ما كانت تختلس إليه النظرات أثناء إدخال أو إخراج العربة من الإسطبل، لا عن هوى وعشق، وإنما لإذكاء الجزء الأسطوري من نفسها، ذلك الجزء الذي ظل مرتبطا بالملاحم، وقد تبينت فيما بعد، أن وجهه المكفهر، لا يعكس دخيلة نفسه، فربما كان طيباً ورزيناً عكس الجانب الذي يجنح إليه خيالها. وعلى ذلك، ما رأته إلا صادقاً مع نفسه، ثم إنها وجدت أن حالها- وإن ساءت- لأفضل بكثير من حال جانيت اليهودية السمراء، ابنة عم جاكوب؛ إذ خرجت جانيت عن تقاليد الملاح، بذلت جسدها للآخرين، حيرتهم في اللذات، فتورطوا في سمرتها الساحرة؛ وهي، خير بكثير من زهرة الداعرة. كانت تتردد قبل أن تدق باب النصرانية، انتابتها قشعريرة، ثم تغلبت بعد لأي، على كافة إحساساتها، دقت الباب: الاضطراب لم يفارقها، خرجت إليها النصرانية، لكنها لم تتعرف عليها، رغم أن طامو، قد أسفرت عن وجهها، تساءلت مدام دحوفاني: - من أنت؟ - طامو قالت مدام دجوفاني، بعد أن تعرفت عليها: - ادخلي وتقدمت، لأول مرة، منذ اختفاء عباس، تطأ قدماها بيت دجوفاني ، وتتخطيان عتباته. وكان دجوفاني يسرد حديثاً بالإيطالية مخاطباً المدام. ولقد باشر عمله في شرف كحوذي لعربة أجرة، ودر عليه عمله ربحاً لا بأس به... لكن ذلك الربح يعتبر كشيء لا يذكر، إزاء استفحال الغلاء، وفقدان المواد الغذائية من السوق، وازدياد العاطلين... وماهي إلا أيام من إقامته بالمغرب، حتى تجنس بالجنسية الفرنسية، امتثالاً لنصيحة أقربائه، ومعارفه الإيطاليين، الذين حكوا له عن تجربتهم الناجحة مع الفرنسيين، وإن كانت دائماً على حساب الأعراب، أكثر منها على حساب الهوية الإيطالية، رأى بعضهم ذا مركز تجاري مرموق أو عقاري يملك أراضي شاسعة تستغل للزراعة وتربية الحيوانات، من شياه، وخنازير، وديكة، يرعاها الأهالي الأعراب المسخرون، ثم إن التجنيس بالجنسية الفرنسية يجنبه على الأقل، كل المخاطر التي تنتظر أي إيطالي سواء أكان موالياً أو مناوئاً لموسولوني. بذل أقاربه جهداً كبيراً لإغرائه، وعلى رأسهم زوجته يولاندا. وعندما أصبح محاصراً بوجهات نظرهم المتكاثفة في اتجاه واحد، واجههم بحزم: - ماذا تريدون مني؟.. أنا إيطالي، وسأبقى إيطالياً. ليسقط الفاشيون، ولوا عني وجوهكم ! خرج الأصحاب والأقرباء واحداً واحداً مع نسائهم. وحينما التفت حواليه، لم يجد إلا زوجته، وصورة جد الأسرة. تطل عليهما من الحائط المقابل. يومذاك، جرع كأسا من النبيذ، ثم قال مخاطباً زوجته: - حقاً، إن الصورة ليس مكانها هنا، ولكن... عبرت يولاندا عن خيبتها؛ بمزيد من المرارة: - ما عسانا تفعل، لقد أعيانا الطواف؟ جلنا كثيراً ما بين صقلية و جوربة، فتونس العاصمة، لم يستقر لنا مقام، حتى وصلنا عن طريق البحر إلى ميناء كازبلانكا. ولم يكن لينزل في كازابلانكا لولا الأقارب. فلئن ساورته أحلام ورغائب، حول ما يوزع بسخاء، من امتيازات على الفرنسسين و"الاترنجيه" في مناطق النفوذ الفرنسي؛ إنه لم يكن يحسب لذلك المستقبل، أي حساب، حتى أوشك أن يكون على خط القطيعة مع الأقارب. تأملت طامو بيت دجوفاني بفضول أسطوري. (وهاهي تسبر أغوار حياة الروم بحثاً عن نوازع العراك والمساجلة، والإحاطة بمزيد من الشدة، من أي مصدر كانت ! داخلها شك أنها ستصادفها مفاجآت إذ أن في كيانها زاوية يربض فيها التحدي، والبحث عن العقاب). ردت مدام دجوفاني الباب، ثم استدارت إلى طامو تشير عليها بالجلوس، رنت إلى جيد مدام دجوفاني، ركزت بصرها على قلادة العقيق الأسود."لاتزال المدام تتمسك بأذيال شباب غابر، انفلت معظمه منها، كيف يتحمل زوجها هذه العجوز الشمطاء؟"وإذ فطنت المدام إلى أن جيدها يثير انتباه زائرتها، قالت في ارتباك، مشيرة إلى قلادة العقيق: - ابتعتها من ابنك كبور بفرنكين، ثم أضافت: - باع قلائد أخرى للجيران سخرت منها في قرارة نفسها مشيدة بالقلادة: - تستحقين أكثر يامدام. ابتسمت دجوفاني، اعتداداً بذاتها، ثم غابت إلى المطبخ تهيئ العشاء. رفعت طامو رأسها إلى الجدار، ليس هناك إلا الصمت، وصورة الجد الأعلى، وقلادة الموت، تحيط بعنق المدام التي تحب الحياة على ما يبدو، وتخشى المكاره:"هل يضربها زوجها، يركلها بالبوط الجلدي اللماع؟" استفاقت على صوتها: - ألا يزال عباس مختفياً؟ ردت في يئس: - أكثر من ذلك، أخرجوا جعيبة من الحانوت، استولوا على جميع أمتعة النعالة. بدا شيء من التأثر على سحنة يولاندا: "ما تركنا بلدنا، إلا بسبب اشتداد البطالة، وتفاقم الانتقام السياسي...نعم، هناك الشيء الكثير من البوليتيكا..." ثم اشتكت بولاندا بدورها: - ليس دجوفاني المسكين بقادر على سوق العربة طيلة النهار، وجزءاً من الليل، جرياً وراء حفنة من السناتيم. وتعمدت الضغط على الحروف حتى تعاتب الجانب الشريف من زوجها الذي رفض في إباء، عودة أيام مجده الغابر، ففضل العيش الهنيىء البسيط، الذي لا يكلفه مراجعة ضمير. لم يكن يغيب عن دجوفاني ما ترمي إليه يولاندا، نحنح عدة مرات، كمن أصابته غصة خانقة، عمد إلى كأس من نبيذ يكرع منه في عمق وامتعاض. ألح على طامو فضول ممزوج بخيال لم يتحقق، قالت في سذاجة: - ماذا كان يشتغل مسيو دجوفاني في إيطاليا؟ رفع رأسه عن الصحن، فهم بالكلام، بيد أن زوجته قاطعته: - اسمعي يا ابنتي: كان تاجر أجواخ في البندقية ... لكنهم صادروا محله وهم الآن يبحثون عن رأسه. اختلطت نبرات صوت يولاندا بانفعال، ولم تتمالك؛ فأجهشت بالبكاء.تنهد بدوره، غير أنه قال في مرح من لا يعبأ بتكالب الدهر وحوادث الأيام: - ليس هناك من غرض مقصود، إذ أن الناس يجرون وراء المال... ثم هز كتفيه استخفافاً وأضاف: -حسبي أن أوفر لهذه الأسرة عيشاً في طمأنينة ضمير. انبرت يولاندا، تقاطعه: - لا تصدقيه ! ... أنت ترين أننا لا نفارق أكلتنا المشهورة، في الغداء ماكاروني، وفي العشاء سباغيتي بمطحون بارميشو، أو حساء، بشرائح الخنزير المملح. أخذ ينفلت من جاذبية الفراغ الذي جرته إليه زوجته، فقال على سبيل الدعابة غير المقصودة: - أنتم لا قبل لكم بهذه المآكل؛ بل تحرمون بعضها، والخمرة، لا يحتسيها منكم إلا من زاغ. (أينا الزائغ يا مسيو: أأنا، أم عباس؟ من منا كان يبحث عن عقاب؟ قل لي ! ... وإذا لم أستقم، فاركلني بحذائك اللماع !) وكأنما هو على علم بما يدور في خلدها، فأردف مستدركا: -زوجك عباس مثلاً، اختفى جرياً وراء البحث عن الحقيقة، إنما سيظل تائهاً، دون تلك الحقيقة. حرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال:(لابد أنه سيكتشف يوماً أن ليس هناك حقيقة واحدة مادية ذات خاصية مستقلة ومنفردة، قائمة بنفسها ومستقلة عن بقية الحقائق، إلا إذا اقتنع هو أيضا أن للتريث الخالي عدداً غير محدود من الأبعاد على أي حال، تظل جميع التصورات نسبية إلى وقت لاحق. ولكنني أعتقد أن صديقي عباساً، يوجد في مكان متجانس الأجزاء. ومهما يكن بعيداً عنا، ففي الإمكان إدراكه في أي وقت). آخر مرة رأى فيها عباساً، كانت قبل غيابه ببضعة اشهر، قال له عباس:"إن حوافر الأدهم، أحصت جميع أركان المدينة، فالناس، ليسوا هم الناس، لقد أعيتني أحلام النهار" حاول إقناعه:"أعلم ذلك جيداً، ولكنها الحياة ! " أبدى عباس سأمه، وتذمره من الحياة:"فقدت العروبية كلها، إنني تركت لحيتي تتهدل، والسلهام الأسود يتدلى إلى الوراء، حاولت أن أنسى الماضي، ولكن..."حاول دجوفاني أن يقوي من عزيمته:" عهدي بك أقوى مما ينبغي، حاول أن تبدو كذلك." رد عباس كمن يزيل ثقلاً عن كاهله: "هذه القوة هي التي تؤلم الناس أحياناً، هل يقبلونني في العسكر؟" حذره بحزم:"إياك أن تفعلها !" لا يخاف على صديقه عباس، فهو يعلم أنه لو ولج الجندية لارتقى إلى درجة ضابط. دجوفاني فقط، يكره الحرب والدم والوحشية، والأموال المكدسة في خزائن أصحاب المصالح. أدركت يولاندا بالحدس ما جاءت من أجله طامو، بادرتها: - أتريدين أن تعملي غسالة؟ فانبرت طامو: - ولم لا؟ قبلت ذلك بشجاعة، فراحت تدفع عن طريقها كل الريب: "اللهم العمش وإلا العمى". اختلست يولاندا نظرة إلى زوجها، تبادلا همهمة بالإيطالية. أماهو؛ فلاذ بخواطره:" أوقن جيداً أن زوجة صديقي عباس، لن تفيديها بشيء، وأعلم جيدا حرصك على الحياة، خوفك من الموت، وأنك تغسلين يديك عشر مرات إذا حضرت جنازة. منذ مدة افتقدت فيك صوتاً دافئاً يطرب السامعين؛ حتى وهم، من غير فصيلتنا ولا أهلينا، أين اختفت فيك اللهجة الإيطالية الحلوة؟ صديقي على حق: الناس ليسوا هم الناس. من يرنا لا يعتقد أننا من صلب شعب يضطهده حكامه، وأن ذلك الشعب في الضفة الأخرى للمتوسط، عظيم فوق الظالمين ! " أبدت مدام دجوفاني على الفور استجابة لرغبة طامو: - طيب، أنت من الآن، سوف تبدئين عملك خادمة. كادت تطير من الفرحة، بينما أخذت يولاندا تسطر كلمات باللغة الإيطالية على الورقة، ثم مدتها إليها - هذه بطاقة إلى ابنتي مدام بيزاردو، اقصديها حالاً على هذا العنوان: طمأنتها: - إنك منذ الآن، وإلى الأبد، خادمتها. ولما رجعت إلى الإسطبل، تراءى لها حانوت عباس لا يزال مختوماً عليه بالألواح. أقفرت الزنقة المؤدية إلى الإسطبل، من السابلة خيم على الأرض سواد بارد لفها؛ وهي تدخل الإسطبل، عدا جزءاً قليلاً انعكست عليه هالة شمعة من دائرة تَـذَبذَبُ على ناصية ابنها الشاب؛ وهو مستلق على حصير. تأمل الفتى شبح والدته في غير اكتراث؛ فماهي إلا لحظات، حتى انجذب إلى نومة لذيذة. خلعت مئزرها، ثم أطفأت بقية الشمعة، فانهارت على حصير آخر، وجذبت إليها الغطاء في عنف.
#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عناصر منفصمة...4
-
عناصر منفصمة...3
-
عناصر منفصمة...2
-
عناصر منفصمة
-
مفاكه
-
إحساس
-
الأرامل
-
كل واحد وخرافته
-
شارل بودلير...العامّة
-
فينوس والمجنون
-
إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
-
ثقافة الحوار والاحتلاف
-
فلوبير عشية محاكمته
-
إعادة الاعتبار لشارل بودلير
-
البنيوية التكوينية وإشكالية تخارج الإبداع- 1
-
القارورة...لشارل بودلير
-
المغتربون...مجتمع مدني من خلال بيئة قروية
-
القط
-
وسواس
-
البطروس... لشارل بودلير
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|