|
كسر المألوف وبناء هندسة شعرية (قراءة في رشقة سماء تنادم قلب العابر)
صبري رسول
(Sabri Rasoul)
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 23:52
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
توطئة للفسحات: يهندس خالد حسين أشكال الحب في قصيدة: واحدة، في مجموعته رشقة سماء تنادم قلب العابر الصادرة عن دار نوس هاوس بداية 2025. المجموعة عبارة عن أربع فسحات، وهي الفهرسة الهندسية الخاصّة التي تميّزت بها، أربعة أقسام، كلّ فسحة مؤلفة من أربع فسحات صغرى معنونة، وتحت كل عنوان تندرج عدة مقاطع شعرية مرقمة وفق الترقيم الرّوماني. تخطت مجموعة «رشقة سماء تنادم قلب العابر» ظاهرة الإصدارات الكثيرة، التي تجاوزت الحدود المعقولة، حيث انتشرت «ظاهرة الجميع شعراء، الجميع كتّاب، الجميع سياسيون».. لم يعد للتخصص أي معنى في الساحة الثقافية. وهذه مجموعته الثانية بعد الأولى بعنوان «نداء يتعثر كحجر» التي قرأتُها وتجنّبتُ الكتابة عنها، لأنّي لستُ ناقداً في الشّعر، لكن هذه المجموعة جعلتني مرغماً على الكتابة عنها. استقى الشّاعر عنوان مجموعته من عبارة ورد فى الفسحة السادسة (المقطع) من الفسحة الثانية. المقطع: رشفة سماء تنادم قلب العابر عنوان، هذه الفسحة «زهرة اللوتس أو رنين الحبّ في ممرات الليل»: وتنتهي العبارة بـ: أعثر عليك وأنت معي. ستة عشر عنواناً في هندسة الفسحات، كل فسحة منها مؤلفة من مقاطع مختلفة في الطول والقصر، ما لفت نظري أن جميعها مرقّمة وفق الأرقام الرّومانية من دون عناوين فرعية للمقاطع إلا المقطع الثّالث من الفسحة الأولى المعنونة بـ«غبطة السّماء، مدارج اللهفة وكستناء للشتاء» لها ترقيم روماني، وعناوين في الوقت نفسه بخلاف المجموعة كلها، لذلك يكون السّؤال موجهاً للشّاعر عن هذا الأمر. وعناوينها: هضبة، دروب، لیل ونجوم، Gol، منْ، كستناء، والمقطع الرابع معنون بمفردة كردية Gol. ما معنى أن يكون هذا العنوان مختلفاً؟ المجموعة كلها، من حيث المعنى والمبنى، لا شيء ينظّمها، سوى منطق الشّعر، المجموعة كسّرت نظام الفهرسة وتوزيع المحتويات ونظام ترتيب النّصوص والمقاطع، وحطّمت الأنساق اللّغوية في البناء الشّعري. المجموعة لا تخضع لأي قواعد منطقية سوى «الشّعرية والجمال».
المجموعة قصةُ حبّ طويلة: المجموعة كلها، بفسحاتها الأربعة، بساحاتها الفرعية الأربعة عبارة عن قصيدة طويلة، بل قصة حب ورحلة، تتجلى فيها حالات الحبّ كلّها، الإعجاب بجمال المرأة، الوقوع في الحبّ، اللّقاءات الحميمة، ثم الفقدان، والشّوق بعد الفراق، فيها الشّوق والحنين، والذّوبان والحرمان والنّدم. المجموعة الشعرية هذه قوية، فرضت نفسها في وسط زحمة شديدة للشّعر والشّعراء. الأكاديمي الكردي النّاقد المتميز بنصوصه النقدية العميقة في السّرد والشّعر، يسجل نفسه رقماً صعباً في الشعر. بل يطرح فكرة: القصيدة، المقطع الشّعري هما الصورة، وهذا لايعني شعر "هايكو"، رغم ملامسة بعض المقاطع شكل الهايكو. فهناك في فسحاته الشّعرية نصوص كثيرة، كل نصّ عبارة عن جملة أو جملتين وفق ما تتطلبه الصّورة الشّعرية بعيداً عن الوزن والقافية. كل هذه المقاطع الشعرية، الفسحات الرئيسية والفسحات الفرعية تشكّل معاً قصيدة طويلة واحدة كما ذكرتُها سابقاً، تدوّن تفاصيل علاقة حب مع أنثى، هي أشبه ما تكون كغزالة برية لا مستقر لها، وحين تقع فى شباك الصياد «الشاعر» تبدأ قصة حبّ عميقة. قصة حبّ بين رجل (الشّاعر) وامرأة تفرّ منه بدافع دلع الأنثى، كنجمة بعيدة، يبدأ الحبّ بعد النّظرة والإعجاب «يُورِق الحبُّ بعد الغيمة الأولى» ص36 . لا يبحث الشّاعر عن أي كان، بل عن أنثى يكون جمالها على مقاس أحلامه، أنثى تتطابق مع أمنيته، «هاتِ يدك شفتان خطّهما إله وسيم على مقاس شفتيك» ص20 . وجه لها بوجه هو «هو يترنم بترنيمة قصيرة من القبلة الأولى» ص20. في الليل يذوبان عشقاً، يمارسان الحب كثافةً .... و«في صباح الريحان.. على تخوم مدينة جبلية: «يترتم صوتان مكللان كثافة عشقاً» ص15. لم يأت الانسجام الروحي إلا بعد اللقاء واحتساء القهوة: «ألا إن المرأة في كثافة بهائك[...] توقدُ، الأبد فى العابر» ص24. فاللقاء معها يحدث دويّاً حباً فى الليل وفي القلب» ص43. المرأة بالنسبة له قصيدة، هو يكتبها، يدونها، فيجمع القواميس. في لیلة اللقاء: «على شفاء القصيدة زهرة لوتس تباغِتُ قلادة الماء بأجنحتها البيضاء». ص52. ويحدث على سرير القصيدة اللّقاء الذي أطفأ نارين اشتعلتا في روحين منذ طوفان نوح، حيث هاجمت زهرة لوتس القلادة المائية، لاحتوائها بأجنحتها. يرى الطبيعية جميلة، لأنها تشبه ملامحها، فلا جمال للطبيعة إذا لم تكن تشبهها، فيجد صورة الحبيبة في كائنات الطّبيعة ومفرداتها. «لهذه الحجارة المصقولة شكل ردفيك ملاسةً ونحتاً ونعومة وإغواء، كأنّ المكان بأشيائه، بكائناته، يستولي على تفاصيلك عنوةً». ص56 وتشبيه مفاتن المرأة بجماليات الطبيعة أمرٌ شائع لدى الشّعراء، وكأنّ الطبيعة معيارٌ جماليّ يقاس بها جمال المرأة، فيشبّه الشّاعر مفاتن المرأة بمفردات الطبيعة من بيئته، يقول علي بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسد جَلَبنَ الهَوى من حيث أدري لا أدري. فقديماً شبّهوا عنقها بجيد الغزال، وعيونها بعيون المها، ونظراتها بالسّهام، وشعرها بالليل، ووجهها بالقمر، أسنانها باللآلئ. لكنّ خالداً جعل من سحر عيونها فاجعة، «عيناك لهما قوّة فاجعة» ص61. في نصوص خالد «كما في الشعر عموماً، الإنسان يحوّل الطبيعة، لا بل يجد تماثلاً بين حركته وحركتها، حيث تصبح الطبيعة استعارة كبرى عن الحياة الإنسانية: والشّاعر لا يحول الطبيعة، إلا لأنه يحول ميوله أساساً، وفق عملية نفسية معروفة، تجعل الغرائز، والانـدفـاعــات الجنسية تتسامى، وتخف من ثمَّ شحنتها العدوانية، لصالح عواطف ملطفة ومنتقاة ». يجد الشّاعر تماثلاً وتشابهاً بين أشياء الطبيعة ومفاتن حبيبته، فيرى أنّ الحجارة المصقولة أخذت جمال ردفيها. وتستمرّ ليلة الحبّ صاخبةً، إنّها ليلةُ الحبّ. وفيها يحدث ما يكون استجابة لنداء الطبيعة البشرية «النّشوة تخطفك مع نكهة البن» ص53 القصيدة هنا في هذه العبارة هي حالة الحب في لحظة النشوة. تأخذك النشوة إلى أمكنة سرية، أمكنة تخبّئ طيورها، و«أيائل الغابة» هناك بين «التيجان المشجرة «ص51 . يستعير المشهد الإيروتيكي من المشهد الطبيعي، إنّها إسقاطات شعورية. «جمر الرغبة المتأجج في شفتيك» لم يفصح هذا اللون، الدال على الرغبة في اللقاء، لكن (الجمرة، تحمل مدلولين معا، اللون الأحمر، والإحساس بالاندفاع. لذلك من الطّبيعي أن يسمع الشّاعر، ونسمع نحن، ويسمع المسافر في أقصى المدينة «رنين الحبّ في ممرات اللّيل». ص53 تنتهي رحلة الحب في هذه المجموعة بمقطع معنون، بـ «النافذة أخيرة على أنقاض الليل»، وكأن مغامرته أصبحت أنقاضاً. لن يستطيع الاستمرار في الجري وراء هذا الحبّ، السّراب، كما لن يستطيع الرّجوع عنها، وعندما التفت وراءه لم يجد سوى ظلّه «سألتفت إلى الخلف كما يسلك الناس الأمر ذاته، فأجدني أطارد ظلّي» ص139. هل کا ن يعرف أنها التفتت إليه التفاتة أخيرة؟ «مع الالتفاتة الأخيرة لك تتالّق أقحوانة الحيرة في جسد المسافة»، ص63. التفتت إليه قبل أن تغيب عنه، فرحلة العشق في معركة الجسد لم تنته على خير لأنّ اللحظة الشعورية في ذروة النشوة، جعلتهما يصرخان، «في أسفل الصرخة يومض نيزكان في رشقة رماد» ص68. يستنكف من المغامرة ليبدأ بتوثيقها، فيتحيّر الشّاعر في مغامراته في رحلة الحب الطّويلة، وعندما يفكّر بتدوينها يجد نفسه أمام لوحة فنية متكاملة: «لن أكتب سوى صمتي... سوى بريّة تنفتح على مواسم السّراب...!!» ص110. لذلك ينتابه شعورٌ خفيّ وقويّ بأنّ هذه التجربة جديرة بأن تكون قصيدة، بل يجد قصة حبه قصيدة غير مدونة «يا لهذه القصيدة التي لم يكتبها أحد» ص137. يستنتج القارئ أن الشاعر كتب المجموعة كلّها في ليلة واحدة، سبقتها لقاءات واحتساء القهوة، والإحساس الشاعري بالحبّ. تبادلا النّظرات والمغازلة، وقعا في حبّ عميق، لكن توّجت العلاقة بلقاء حميمي، ربما أكثر من ليلة. «مفتوناً بالرّخام في ندائه سيحتفي بك الشاعر أبداً». ص68 وكأنّ الشّاعر يعرف أنّه سيلجأ إلى التّدوين يوماً، فلا يبوح بهُويّة أثناه، إلا أنّه يكشف عن ملمحين عنها، سلالتها، حيث تنحدر من إحدى الإمبراطوريات الكُردية المعروفة،«امرأة تنحدر من أساطير الميديين» ص83. وهي عائشة في الغربة، وكأنّ الغربة منفاها الإجباري المغاير لطباعها، فهي رهينة فيها «ها أنت رهينة للحديقة في هذه المدينة الغريبة عن طبائعك». في الملمح الأول لا يكتفي بذكر سلالتها، بل يصّرح بلغتها الكستنائية الجميلة «بين شفتيك تبدو أناقة الكلمات الكردية حبات كستناء فى هذا الشتاء».ص32. فهي امرأة كردية، لكنّها مغتربة مثله في بلادٍ بعيدة.
المعاني وجماليات الشّعر: إن استخدام الشاعر المجازات اللغوية يفضي بنا إلى مجازات حياتية، إسقاطات أخرى على جسد الحياة، فيصف القصيدة بالبلهاء، فقط لأنها أغفلت قلادتها. هناك المنحدر الأجمل في جسد المرأة، تحتمي به قلادتها، فالقلادة المتلالئة تخشى العيون المتلصصة، فتحتمي بالمنحدر، لكن ليس أي منحدر، بل هو الأجمل في العالم، فقراءة الدلالة تشير إلى منحدر النهدين، بوصفها السفح الذي يخبئ القلادة. «يا للقصيدة البلهاء! كيف لها أن تغفل قلادتك النّاعمة، القلادة التي تحتمي بالمنحدر الأجمل في العالم؟!» ص19 المعاني تفرّ منك كالضّوء: الشعر الجميل يحلّق بك إلى الأعالي، إلى خيال يعجز علم المعاني في الإحاطة به. المعاني في شعر خالد حسين كالبريق الخاطف في عتمة الشتاء، تخطف الخيال... في النّصّ الشّعري في هذه المجموعة لا يمكن لقارئ عادي أن يقبض على خيط الفكرة، لا بد من القراءة العميقة لاكتشاف الجواهر الثمينة خلف جمل رشيقة، لا تسلّم معانيها لكلّ عابر. الانزياح الشّعري يفتك بالنّسق القديم: اختلف النّقاد منذ القديم على وظيفة الشّعر، واتّفقوا على أهمية الجمال فيه، هناك آراء تذهب إلى أنّ وظيفة الشّعر هي تحقيق الجمال أكثر من الفكرة أو الموضوع، وهذه الفكرة قديمة، انشغل بها الشعراء والنّقاد، وأكّد الكثيرون على أنّ الفكرة لايمكن عزلها من جمالية الشّعر، في هذا السّياق يؤكّد الشّاعر الدمشقي نزار قباني إن الفكرة «مهما كانت أهميتها وعمقها وإنسانيتها لا يمكن أن تصنع شعراً جميلاً، ولا يمكن أن تشفع الفكرة العظيمة لقصيدة فاشلة فنيا ». ينطبق مفهوم نزار قباني عن الشّعر على نصوص خالد حسين أينما اتّجهت، يمكننا الاستدلال بأي مقطع في هذه المجموعة «يُدحرجُ الصّبي أحلامه وهو يخطفُ غبطة السّماء من زرقتها [...] أخيلة مدنٍ تتدفّقُ كجيادٍ بريّة صوب مشارف البعيد». ص27. فجمالية هذه الصّورة طاغية على الفكرة نفسها، فالصّبي يخطف السّعادة من زرقة السّماء، كما يخطف الشّاعر لذّة اللّقاء من العشيقة، فيتمازج الجمال والفكرة في العبارة الشعرية ورغم بساطة الفكرة إلا أنّ الصّياغة الشّعرية جعلت منها لوحة ملوّنة أنيقة. نفهم من مقولة نزار قباني أنّ الشّعر لا يحقّق وظيفته خارج الوظيفة الجمالية، ولا يمكن أن نسمّي نصّاً ما شعراً ما لم يحقّق جمالاً، إذا كانت وظيفة الشّعر هي تحقيق الجمال وفق النّقاد «فإن السّؤال المشروع هو: ما الذي يحقق الجمال في الشّعر؟ هل تصوير الموضوعات الجميلة: المرأة الطبيعة.. أم استعمال الأدوات التعبيرية استعمالاً جيداً، لغة موسيقى، صورة... ونحو ذلك؟ أم العاطفة التي نشعر بها في أثناء عملية القراءة؟ أم إنسانية الشعر؟ أم عناصر أخرى ؟» عند خالد حسين نجد موضوعاً، الحبّ، المرأة، الطبيعة، والأدوات التعبيرية التي يوظّفها لإيصال فكرته إلى القارئ، هي التي تحقّق جمالية النّص، ومن دون هذه الجمالية يبقى النّص مجرّد نصٍّ عابر، بل لا يترك أثراً ذات قيمة لدى القارئ. في السؤال الإنكاري: «من سيصمد إزاء هذه الغواية في شفتيك؟» ص11. يعلن الشاعر استسلامه، حيث يقرّ بأن لا أحد سيصمد، سيما إنّه شاعر رقيق كعشبة ناعمة تنحني مع أي تيار. «ها هي ذي صورتك أيّتها الغزالة، الدّروب تقودنا إلى سماءٍ تحتفي في وهادٍ بعيدة [...] جمالك الغريب أيتها الأميرة، جمالك العميق كهذا الليل، نظرتك التي تنقذني من شرودي الأزلي». ص11. نرى أنّ تلك العبارات تخلق جمالاً نصّياً وكأنّه هو الهدف، لكن في الوقت نفسه نجد أنّ فكرة الحبّ، التعلّق الكلي بمحبوبته هي دافعه إلى صياغة هذا النّصّ، «يفضحني القمر الفضيّ الذي يتدرج على سفوح نهديك فيما الشّمعة التي تنتصف المسافة بيننا على حافّة الطّاولة تذوب كعاشقة في صرخة عميقة لعاشق مسحور» ص11 هنا يمكن أن نسأل: من يذوب، الشّاعر أم الشمعة؟ كذلك ألا يحقّ لنا أن نقول أنّ الشّعرية حقّقت وظيفتها الجمالية في إيجاد مبنى شعريّ في غاية الثّراء؟ يجسّد تلك العبارة مشهداً يختزل قصّة حبّ، الانزياح الشّعري يرسم حركة جمالية عميقة، القمر يتدحرج على سفوح نهديك. فيجعل من فكرة بسيطة التي هي وصف جمال صدرها، إلى مشهدٍ ثريّ، فيحقّق بذلك جمالية الشّعر. ألا يقع القارئ فريسةً لصور شعرية متتالية، كما الراعي الذي يركض وراء اصطياد العصفور «الذّيل الأحمر» فينتقل من ربوة إلى وهدة حتى يجد نفسه بعيداً عن مكانه، ويصر القارئ مع الشّاعر في تتبّع مقاطعه طمعاً في استحواذ المعنى من خلال الصّور الشعرية، فيجد نفسه يتوغّل مرغماً في الترقيم الرّوماني مستمتعاً في الوقت عينه في قراءة نصّ باذخ. في العبارات الآتية تتبيّن بوضوح كيفية قيام الشّاعر بكسر النّسق اللغوي وخلقِ صور شعرية لنقل الفكرة إلى القارئ. -» البحيرة تسهو في شرودها «. ص46 - »إزاء لحاظك بأهدابها الموشومة غسقاً تتعرى المجاهيل من أسرارها! « ص43 -» أخيلة مدن تتدفق كجياد يرية«ص27. لم يكتفِ بالمجاز اللغوي في أنسنة البحيرة وإضفاء صفة السهو لها، بل ألحق بها الشرود، وهو صفّة للإنسان القادر على التّفكير. كسر المألوف «البحيرة هادئة» وأضفى عليه فعل تسهو ليتخيل القارئ «شكل البحيرة» في شرودها. فالاستعارة هنا أنْسَنَت البحيرة وأطلقت العنان لخيال القارئ. الإبداع في كل مجال هو تجاوز المألون السائد، والإتيان بجديد خارج النّسق اللّغوي المألوف، وفي الشّعر تكون الصّورة الجديدة المبتكرة هي الإبداع، بوصفها تفتك بالعبارات التقليدية، وتقوّض البنى القديمة وتقدم للقارى شيئاً جديداً يحرك ذهن القارئ ويقضي على الكسل الذّهني. فالصّورة الشّعرية متعبة للشّاعر والقارئ على حد سواء. للشّاعر غرفة، هي عالمه، وطنه، المكان الذي يلتقي فيه بالحبيبة. «غرفة، وردة حمراء مركونة إلى الأفق عاشقان يندلعان في صرخة مارقة» ص133 في الليل الهادئ، في صمت الشتاء، ثمة غرفة، وردة حمراء، مرکونة إلى الأفق، وهناك القرب منها عاشقان، يمارسان الحرب بتلذذ، تعلو صرخة الحب على ما عداها. مفردات هذا المقطع تلخص مشهداً إيروتيكيا بطريقة رومانسية. «غرفة، وردة، عاشقان». دلالات واضحته على اللقاء، لكن اندلاعها في «صرخة» يجسد المشهد البصري فى خيال الشّاعر. في هذه المجموعة، في هذه الرحلة، كان الشاعر كصبيّ لايتّسع المكان لفرحه مدحرجاً أحلامه» «وهو يخطف غبطة السماء من زرقتها» وفتاته العاشقة تئن في قلبها: «هات يدك- شفتاي خطّهما إله وسيم على مقاس شفتيك» ص20 من حقه أن يحتفي بها فحتى «النجوم تومض بين أصابع العاشقة» ص20 «إن الشاعر في الحقيقة يرسم لوحة فنية بالكلمة وهو لا يرسمها جامدة مسطحة، بل يرسمها حية متحركة، ذات أعماق وأبعاد، فإذا هي لوحة نافرة، بل يمكن القول إن الشاعر ينحت بالكلمة حجرة، تحس لها حضورها الماثل، فإذا فيها عتمة وظلال، وإذا فيها عناصر وأشياء، وإذا فيها بعد ذلك كله حياة، على الرغم من الموت» . يبدو أنّ مهارات خلق الصّورة الشعرية تفرضُ على الشّاعر اللجوء إلى الانزياحات الشعرية، حيث تتكثّف الشعرية، وتتكثّف المعاني في الصّورة الشعرية، ورغم ذلك يتعذّر على القارئ الإمساك بالمعاني، كمَنْ يرى في مياه النّبعة أسماكاً تتحرّك وتلعب، لكن يستعصي عليه القبض عليها، إنّها المعاني المتاحة في فسحات الشّعرية. «يتخثّر دويّ الشّقراق كشظيّة في جسد اللّيل غسقاً» ص28. نبيذٌ يفيضُ عن دنانه: شفتاك – العنب. ص54. يا لهذا البهاء، حبث تتجلّى، في العالم، عيناك قصيدةً، الكينونة في مأواها. ص59. النّصّ الذي لا يستفزّ القارئ نصّ مترهلٌ وغير قابل للقراءت، نصّ ضحلٌ لايمكن السّباحة فيه. تبدو هذه الفسحات الشعرية مستفزّة، مفتوحة ومغلقة في الوقت نفسه. ومن الصّعب إيجاد المفاتيح رغم توفّر العتبات الأساسية (عناوين الفسحات) سيعثر كثير من القراء في بحثهم عن المعاني اللامعة، سيكون القارئ منشغلاً بمتعة القراءة وتتبّع الصّور فيغفل عن المعاني. استخدم خالد حسين صوراً حسيّة بصرية، وكأنّ الإدراك العقلي، والحسّ السمعي واللّمسي غير كافية للتعبير عن أشياء مادية، وللتّعبير عن جمالها لجأ إلى مفردات تُبهر البصر، «جمالُك ألقُ النّجمة البعيدة... قمرٌ برونزيّ يحاول اللّيل مقايضةً... على الصّخرة، صخرة نيتشة، أقرأ صفاء الزّرقة إلهاً وسيماً... لو تذكرتُ شواطئها الخضراء». فالنّجم والقمر يعبّران عن مدى إعجابه بجمالها، يعكسان انبهاره بها، والزّرقة والخضرة، من دلالات الأريحية التي يشعر بها معها. فالصّور البصرية هذه تنقلُ إدراكه العميق لماهيات تلك الموجودات (النجمة، القمر، الشّاطئ...) وتحفل بها الدّيوان كثيراً، و«مادامت الصورة هي بالتحديد وليدة إدراك بصري، فإن تمثيل الأشياء داخلها يعود إلى تحويل أنطولوجي لماهيات مادية وتقديمها على شكل علامات، أي النظر إليها باعتبارها عناصر تدخل ضمن أنساق سميائية يعد الإدراك البصري نفسه بؤرة تجليها ». من جانب آخر ننظر إلى اللفظ، الدال، الذي يخرج من دائرة نسقه اللغوي القاموسي، ليدخل ضمن نسقٍ جديد يؤدي وظيفة إضافية من خلال صورة جديدة. في هذا المقطع نلاحظ أنّ المفردات خرجت من سياقها اللّغوي العام، واكتسبت معاني أخرى من السّياق الجديد. «تسردُ الرّغبة على أصابع اللّيل، وتذرفُ النّشيد حريراً على فضاء اليدين؟ ثمّة نبعٌ يلوح كنجمةٍ بعيدة...!» ص100. وأنتِ بابتسامتك حيثُ النّهار يشرقُ بهديلها.. ص73. فالسّرد، الحكي، عملية خاصّة يقوم بها المرء لنقل حدثٍ ما إلى الآخرين، وهنا هي تسرد الرّغبة، وليست الحكي، والمستمع هو أصابع اللّيل. والذّرف، خاصية للعين، حيث سيلان الدّموع، في العبارة أخذت المفردة معنى الإلقاء، وبخاصية الحسّ اللّمسي، النّعومة الخاصّة بالحرير. فتنخرط المفردة الدّالة إلى علاقاتٍ أخرى بعد تمرّدها على نسقها المألوف، وبذلك نلاحظ أنّ «مستويات الدلالة، الدلالات المباشرة والدلالات الاحتمالية وليدة هذه الانزياحات. إنها، بعبارة أخرى، انفلات الشيء من ربقة النسق الأصلي وإرغاماته والذهاب بعيدا في علاقات التقارب أو التباعد مع أشياء من أنساق أخرى ». في صورٍ أخرى يشترك الحسّ البصري مع اللّمسي، أو اللّمسي مع السّمعي، أو يكون هناك تعبير يقدّم صورة تجمع فيها حاسّة معينة مع شيءٍ يخصّ الإدراك أو الحركة، هنا تتوالد قيمٌ جمالية في غاية الأهمية. فالعتبة الحجرية تخصّ الملمس، وإضافة التألق عليها خلقت تمازجاً لأكثر من قيمة من قيم الحواس، «وأنت تجوسين هذه العتبات الحجرية المتألقة في مطر اللّغة، تنهارُ النّجوم في يديك، يغدو لقدومك رائحة أعشاب النّاردين». ص58. ويؤكّد النّقاد على قوّة الصّورة في الامتزاج بين الأمرين «ولا مفر من الاعتراف بأهمية التمازج الحسي إزاء التصوير والتصور؛ إذ تضم الصورة - إلى جانب الرؤية – قيماً لمسية كلمس العاج أو المرمر أو الفراء تمتزج بالرؤية البصرية، كما تمتزج قيمة رؤية الحس السمعي للموسيقى بإحساسات قد لا تنتمي للمجال السمعي من رؤية وحركة ». وهنا ترتقي لغة الشّعر، لأنّ اللّغة العادية، في الكتابة والتقرير لاتفي بمنح الجمال الإضافي إليها، أو قد لا تؤدي الوظيفة الجمالية التي أشرنا إليها، أمّا تقديم الفكرة من خلال الصّورة الشّعرية، يجعل اللّغة تكتسب جمالاً في اللّفظ والتركيب، وتكون قادرة على إيصال المدلول إلى المتلقي بسهولة، مع الاستمتاع والتّذوق أثناء القراءة. لذلك تكسّر الصورةُ النمطيةَ المعتادة، «والتعبير بالصورة يفوق درجات التعبير باللغة العامة النمطية كما أن التعبير بالصًّورة لا يخضع للمنطق نفسه الذى تخضع له اللغة التقريرية، ولهذا تصبح الصورة الشعرية ذات منزلة متفردة، وذات رؤية جمالية من نوع خاص تراعى المفردات في علاقاتها، والمفردات في امتداداتها الدلالية ». يقوّض الشاعر الأنساق اللّغوية وبناها، وعلاقات المفردات بعضها مع بعض، ويعيد ترتيبها من جديد، ليمنح المفردات معاني جديدة أخرى غير معانيها المعجمية المألوفة من خلال صور شعرية مبتكرة. غالبية الشّعراء الطارئين الذين جلبتهم وسائل التّواصل الاجتماعي يفقتدون القدرة على إنتاج هذا الشّعر. هنا يبتكر خالد حسين صوراً شعرية، معتمداً على الانزياح اللّغوي. «إنّها يدي التي تفترس أصابعك. إنّها يدُك، لذّةُ الوسَن في يديّ، زنابق مارقةٌ تخطفني إلى شهْقة الأبد!» ص75. الافتراس، بمعنى النّهش والالتهام من فعل كائنات شرسة، ويده من فرط شوقه تفترس يدها، فالرّجل يتميّز بالخشونة، ويدها، النّاعمة، تستسلم بين يده، فيشعر بأصابعها تنام في يده، فالعلاقة بين الألفاظ بشكلها المألوف هي اللغة التي يُدركها أيّ ملمّ باللغة «الافتراس، الوسن» لكن كسر المألوف السائد هي الإبداع الشعري الذي يثير خيال القارئ، ويدفعه إلى بذل الجهد المضاعف لمعرفة غاية الفكرة والاستمتاع بجمالية التعبير: «وهذه هي طبيعة الشعر الحديث، لا يغني المشاعر، إنما يثيرها، ولا يريح النفس، إنما يزعجها، ولا يسلي القارئ، إنما يتعبه، لأن الحياة في حد ذاتها مثيرة مزعجة متعبة، وليست مريحة ولا مسلية، وكما أن الحياة المعاصرة معقدة مركبة، كذلك كان الشعر المعاصر ». قد يكون للمفردة أكثر من معنى، فهي خلال رحلتها في تاريخ اللغة تكتسب معاني لم تكن لها سابقاً، وتفقد معاني أخرى كانت من أهم أسباب استخدامها واستمرارها. وهذا ما يخلقه الشّاعر في النّصّ. هذه المسألة تنطبق على جميع اللغات، وهي من علامات الثراء اللغوي.
تكرار المفردات: هناك كثيرٌ من المفردات يستخدمها الشّاعر خالد حسين بشكلٍ متكرّر وفي كثير من المقاطع، ظاهرة تكرار مفردة ما، لدى الشّاعر تعكس مدى تعلّقه بمناخ ومعاني تلك المفردة، واستيلاء عائلة تلك المفردة على العلاقة بين الشّاعر ومعانيها. ما الذي يجعل الشاعر يستخدم مفردتي: النجم، اللّيل، أكثر من ثلاثين مرة في ديوان واحد؟ إنه يرى على وجه البسيطة وجهاً واحداً، وجها يختزل جمال النساء، وجها أصبح نجماً في السّماء. ويجعل من اللّيل زمن اللّقاء، وقت السّكينة والهدوء، حيث تنطفئ الأنوار ويبقى وجهها. ومن دلالات ذلك تعلقه بها نفسياً أعمى بصيرته، يرى كل الجمال في نجمته. وثمّة تساؤلات تطرح نفسها، عن استخدام الشّاعر مفرداتٍ من حقلٍ واحد، هل يمكن القول: إنّها تلبي الحالة الشّعرية والنفسية للشّاعر. يستخدم الشاعر كثيراً مفردات بعينها تنتمي إلى عائلة نفسها، النجمة، القمر، السماء، الليل، عيناك، الشجرة، ولكن والحقّ يقال: رغم تكرارها أجاد في توظيفها. مجموعة «رشقة سماء تنادم قلب العابر» تهندسُ علاقة جديدة بين الشّاعر والنّصّ والمتلقي، وهي جديرة بالقراءة. -----------------------
1- العشي، عبد الله، أسئلة الشعرية، الجزائر العاصمة، منشورات الاختلاف، 2009 ط1. ص159 2 - العشي، عبد الله، أسئلة الشعرية، الجزائر العاصمة، منشورات الاختلاف، 2009 ط1ص260 3- قراءة في الشعر العربي الحديث، أحمد زياد محبك، منشورات جامعة حلب، ط2008 ص152 4- سيميائيات الصورة الإشهارية، سعيد بنكراد، دارالبيضاء، المغرب، أفريقيا الشرق 2006م ص32 5 - قراءة في الشعر العربي الحديث، أحمد زياد محبك، منشورات جامعة حلب، ط2008 ص171 6 - سيميائيات الصورة الإشهارية، سعيد بنكراد، دارالبيضاء، المغرب، أفريقيا الشرق 2006م ص35 7 - الصورة الشعرية والرمز اللوني، يوسف حسن نوفل، القاهرة، دار المعارف، تاريخ الطبعة غير مذكور. ص25 8 - الصورة الشعرية والرمز اللوني، يوسف حسن نوفل، القاهرة، دار المعارف، تاريخ الطبعة غير مذكور. ص26 9- قراءة في الشعر العربي الحديث، أحمد زياد محبك، منشورات جامعة حلب، ط2008 ص171
#صبري_رسول (هاشتاغ)
Sabri_Rasoul#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحياة موقف يا سادة
-
رواية لالين مسألة الهُويّة والتّنوع
-
من يكتب التّاريخ؟
-
من التّحرير إلى بناء الدّولة
-
الحقول السّياسية المحروقة غير منتجة
-
قد تجرّك المحاكم الأوربية يا جمال إلى قاعاتها
-
الرّحلة البشرية الثانية
-
غياب القراءات النّقدية
-
الرّحلة البشرية الأولى
-
أصداء النّداء الاجتماعي
-
الرّسالة المثيرة إلى حدّ الدّهشة
-
مقياس الهزيمة الكُردية
-
الشعبان الأمازيغي والكردي يعيشان في بلادهما في ظل سياسات إقص
...
-
مسألة الاندماج بين اتحادات الكتاب الكرد
-
قد تنتهي إيران الخميني
-
مهرجان دهوك الثقافي ما له وما عليه
-
خرائط الكُرد المنهوبة
-
هل ننتظر انفجاراً أكبر؟
-
«بعد خراب البصرة» مؤتمر المجلس الوطني الكُردي
-
أي اتحادٍ لكتّاب الكُرد؟ (سيرة القلم)
المزيد.....
-
هارفارد تقاضي ترامب بعد تجميد التمويل الفدرالي وتصف قراره با
...
-
إشادات عربية بمواقف البابا فرانشيسكو من الحرب على غزة وحوار
...
-
فنزويلا تعلن الحداد ثلاثة أيام على وفاة البابا فرنسيس
-
جامعة هارفارد تقاضي إدارة ترامب بسبب تجميد منح بـ2.2 مليار د
...
-
الأردن ينكس أعلامه لمدة ثلاثة أيام حدادا على وفاة البابا فرن
...
-
إعلام: سرقة حقيبة وزيرة الأمن الداخلي الأمريكي في مطعم بواشن
...
-
غارات أمريكية تستهدف صنعاء اليمنية
-
رئيس البرازيل: البابا فرنسيس كان بابا الأمل
-
تحذير أممي: هايتي على شفا -نقطة اللاعودة- مع تصاعد عنف العصا
...
-
جامعة هارفارد تقاضي ترامب
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|