ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 15:11
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لقد شغل السؤال الأول حيزًا كبيرًا من تأملات كارل ماركس، وظل يلازم فكره لفترة ليست بالقصيرة. ولم يكتفِ هذا الفيلسوف الكبير بالتفكير فيه فحسب، بل سعى جاهدًا إلى تقديم إجابة شاملة وتحديد دقيق، من شأنه أن يُمكّن من إدراج الاقتصاد ضمن دائرة العلوم الدقيقة، على غرار علمي الفيزياء والكيمياء.
لقد دفعتني عودة العديد من المثقفين، بما في ذلك بعض المنتمين إلى حقل الاقتصاد ذاته ، أعني أولئك الباحثين المتخصصين في الشؤون الاقتصادية ، إلى إحياء اهتمامي الفكري بالسؤالين وإجابتيهما. وما أثار انتباهي بشكل خاص هو أنَّ إجاباتهم اتسمت بنزع الصبغة العلمية عن الاقتصاد، مما دفعني إلى إعادة النظر في هذه القضية من جديد.
يخلطون في تحليلهم بين الرأسمالي وبين أي شخص يمتلك ثروة مالية كبيرة (ولو نسبياَ)، فبينما ينطلقون من مقدمة صحيحة مفادها أنَّ كل رأسمالي لابد أنْ يكون حائزًا على كمية كبيرة من المال، فإنهم يسقطون في مغالطة منطقية فادحة حين يستنتجون أن كل من يملك مالاً وفيراً (ولو نسبياً) لابدَّ أنْ يكون رأسمالياً!.
لقد سبقهم ، وبمنطق مشابه لطريقتهم في التحليل ورؤية الأشياء ، أولئك المدافعون عن المنظومة الرأسمالية الغربية من بين صفوف ما يسمى بـ"خبراء" الاقتصاد، حيث "ابتكروا" مفهوم "الرأسمالية الشعبية" المزعوم. هذا المفهوم المغلوط يزعم أنَّ مجرد امتلاك الفرد لبضع أسهم في أي شركة، مهما بلغت ضآلتها، كافٍ لاعتباره جزءاً من الطبقة الرأسمالية!.
تساءلتُ بجدية: ما هي الشروط الواجب توفرها فيّ لأحظى بلقب "رأسمالي" في وطني، حتى لو كنتُ سأكون أكثر الرأسماليين بؤساً وفقراً فيه؟
في محاولتي لتحديد الإجابة، انطلقتُ من فرضية مفادها أنَّ الحد الأدنى للإنفاق الشهري الذي يحتاجه أفقر أفراد الطبقة الرأسمالية ، على الأقل في سياقنا المحلي ، لا بد أن يتجاوز خمسة آلاف دينار. هذا المبلغ يشكل حاجزاً مالياً أدنى يُنفق بالكامل (من قبل الفرد وعائلته) على ضروريات الحياة الأساسية من سكن وملبس ومأكل.
لقد وجدت نفسي أطرح تساؤلاً جوهرياً: ما الحد الأدنى للثروة التي يجب أنْ تتراكم في يدي، والتي يتوجب عليّ توظيفها استثمارياً، كي تضمن لي تحقيق هذا المستوى من الدخل الشهري الذي لا يقل عن خمسة آلاف دينار؟
يبدو لي ، بعد تأمل ، أنَّ هذا الرقم لا يمكن بأي حال أنْ يقل عن سقف الستمائة ألف دينار؛ هذا الرأسمال الذي لم يكن بالأمس سوى جزء يسير مما هو عليه اليوم، والذي سيتجاوز قريباً بلا شك هذا المستوى ذاته.
لستُ أذكر هذا المثال مع ما قد يشوبه من نقاش حول دقة الأرقام إلّا لأجل غرضين أساسيين: الأول كشف اللبس القائل بأنَّ مجرد امتلاك المال يحوّل المرء تلقائياً إلى رأسمالي، والثاني إبراز الطابع "النسبي" للمبلغ المطلوب، الذي يتفاوت حتماً بتفاوت الظروف الزمانية والمكانية.
لنفترض أنني أرغب في أنْ أصبح جزءاً من أدنى طبقة ضمن الرأسماليين في بلدي، فما هو الحد الأدنى الذي يجب أنْ أمتلكه لأحقّق ذلك؟ وفقاً لهذا السيناريو، يتوجب عليّ امتلاك واستثمار مبلغ لا يقل عن 600 ألف دينار، بافتراض أنَّ متوسط الدخل الشهري لأضعف الرأسماليين يبلغ حوالي 5000 دينار. هذا المبلغ (600 ألف دينار) هو بالضبط ما قد يُدرّه عليّ استثماري كعائد شهري، مما يضعني في مصافّ أفقر فقراء هذه الطبقة.
لنأخذ المسألة من منظور آخر، فقد يقع سوء الفهم حين نُحمِّل الأفكار ما لا تحتمل، تماماً كمن يستدل من القضية "كل الكلاب حيوانات" أنَّ "كل الحيوانات كلاب". هذا النمط من الاستنتاج المعكوس ليس مجرد خطأ منطقي بسيط، بلْ هو دليل على منهجية تفكير مشوّهة، تخلط بين العام والخاص، وتقلب العلاقات رأساً على عقب.
فهل يعقل أنْ ننزلق إلى مثل هذا اللبس الفكري؟ أم أنَّ الأمر يتطلب وعياً منهجياً لتفادي مثل هذه المغالطات التي قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها تكشف عن خلل عميق في آلية الاستدلال؟
وما أقصده بسوء الفهم هو أنْ يأتي شخص ويستنتج، بكلِّ بساطة، أنْ أي فرد يحصل على دخل شهري قدره 5000 دينار لا بدَّ أنْ يُصنّف تلقائياً ضمن فئة أفقر الفقراء من الرأسماليين في البلد.
فالكم، من دون شقيقه الكيف، لا يحمل أي دلالة حقيقية؛ فليست المسألة في الرقم وحده، بلْ في الكيفية التي تُجنى بها تلك الـ5000 دينار شهرياً. إذْ ليس كل من يتقاضى هذا المبلغ يعد رأسمالياً، فهناك موظفون يتلقون مثل هذا الراتب، ومع ذلك لا يمكن إدراجهم ضمن الطبقة الرأسمالية.
لقد تعمدت وصف هذا الدخل الشهري الرأسمالي بأنه يُنفق لأغراض استهلاكية، لأنَّ منطق السوق وقوانينه الموضوعية تفرض على كل رأسمالي أنْ يكون إلى حد ما متقشفاً. ذلك أنَّ جزءاً كبيراً من أرباحه لا بدَّ أنْ يُعاد ضخه في رأسماله المستثمر؛ إذْ إنَّ المنافسة في السوق لا ترحم، ولا مكان فيها إلّا للرأسمالي القادر على تنمية رأسماله باستمرار. وهذا النمو لا يتحقق إلّا من خلال إعادة استثمار الربح، الذي يُعاد ضخه بدوره ليُمكنه من تخفيض الأسعار، وبالتالي زيادة المبيعات. ولا سبيل لذلك سوى تعزيز نصيب "رأس المال الثابت" ضمن إجمالي الرأسمال المستثمر، وهو ما يتحقق أساساً عبر استبدال الآلات القديمة بأخرى أكثر حداثة وكفاءة.
فالمال، حتى وإنْ بلغ حجم ثروة قارون، لا يمكن اعتباره رأسمالاً من منظور علمي صرف، ما لم يُوظف ويُستثمر بطريقة واحدة بعينها؛ وهي الطريقة الوحيدة التي تضمن، وبفضلها فقط، نمو الثروة الحقيقية للمجتمع.
فالمال لا يتكاثر، بمعنى أنه لا يُستعاد مع فائض، إلّا إذا جرى استثماره في الاقتصاد الحقيقي، أي في ذلك القطاع الذي تُنتج فيه السلع والبضائع فعلياً. وهنا تحديداً، حيث يسهم عمل العمال في خلق منتجات تتجاوز قيمتها مجموع قيمتين: قيمة "رأس المال الثابت" المخصصة لشراء الآلات والمواد الخام، وقيمة "رأس المال المتغير" الذي يُنفق في صورة أجور للعمال.
تخيلوا سيناريو لا يمت إلى الواقع أو المنطق بصلة، وهو أنَّ النظام الرأسمالي قد استغنى كلياً عن العمل البشري، وأنَّ الآلات الذكية قد حلت محل جميع العمال، لتنشأ بذلك شكل جديد من العبودية، عبودية لا ضحايا فيها سوى البشر الآليين الذين باتوا يؤدون كل المهام في هذا الوجود الاجتماعي والتاريخي.
في نظام افتراضي كهذا، يغدو الربح مجرد ذكرى من الماضي، إذ لن تجد رأسمالياً واحداً يوظف رأسماله طمعاً في تحقيق ربح، ولو كان ضئيلاً كسنت واحد. فالرأسمال المستثمر يعود إلى صاحبه كما هو، دون زيادة تُذكر ولا نقصان، ببساطة لأنَّ العنصر الوحيد القادر على توليد تلك الزيادة أي العمال، أو ما يُعرف بالعمل الحي قد اختفى تماماً من الساحة.
وبزوال مصدر الربح، أي العمل الحي، يتلاشى الربح بدوره؛ ومع غياب الربح، لا يبقى للرأسمال وجود حقيقي، فليس كل مبلغ مالي يمكن اعتباره رأسمالاً. وبانعدام الرأسمال، يغيب الرأسمالي نفسه، إذْ لا يكفي امتلاك المال ليُصنّف صاحبه كرأسمالي.
وفي محاولتي للإجابة عن السؤالين، تناولت أولاً مسألة "الكم"، ثم بيّنت أنَّ فهم "الكم" لا يستقيم إلّا من خلال ارتباطه الوثيق بـ"الكيف"، ارتباط لا يمكن فصمه. فالذي يضخ أموالاً ضخمة في الأسواق المالية، أي في ذلك الجزء من الاقتصاد الذي لا ينتج شيئاً ملموساً، ويحقق أرباحاً تفوق ما يجنيه صاحب المصنع، لا يمكن أنْ يُعد رأسمالياً، إلّا إذا قبلنا أنْ ننزع الطابع العلمي عن الاقتصاد، ونُغرقه في أوهام لا تمت إلى العلم بصلة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟