فتحي مهذب
الحوار المتمدن-العدد: 8318 - 2025 / 4 / 20 - 00:28
المحور:
الادب والفن
-البئر .
بعد أن ألقت بنفسها في البئر العميقة الواقعة في حديقة المنزل،إنقلب كل شيء رأسا على عقب.كأن الحزن تمدد في الجدران،في المفروشات،والنوافذ.
الضوء تحول إلى أخطبوط منكمش على نفسه ،والظلال القاتمة تحولت إلى توابيت لا نبصرها إلى بعيون المخيلة.
لم يعد يأخذنا النوم إلى مملكته البعيدة.كنت أقضي طوال الليل أحدق في وجوه أبنائي الذابلة،
أصغي إلى أنفاسهم المتقطعة،
وحفيف خطواتهم المرتبكة فوق البلاط البارد.
وفي أقصى الزاوية يربض "ميشو" القط الرمادي بعينيه المتسعتين المصوبتين نحو البئر،كأنه يعلم ما لا نعلم.
كانت زوجتي توليه عناية إستثنائية. كان بدوره لا يفارق ظلها،لكن منذ رحيلها الدراماتيكي صار يصدر أصواتا غريبة،محدقا في فراغ لا مرئي،وكلما اقترب الليل تأخذه رعدة، يتمدد بجوار البئر كأن ثمة من يناديه..أو يأمره.
كنا نسمع في غلواء الليل صراخا يمزق سجف الصمت.
صوت إمرأةتتخبط ،تتوسل،تضحك،ثم تلوذ بأقطار الصمت.
وفي بعض الليالي نسمع حفيف فستانها وصدى خطواتها على العشب،تتجه نحو النافذة وتنظر إلينا.
في اليوم الرابع،وجدت إبنتي الصغيرة ورقة صغيرة تحت وسادتها.
ورقة مطوية بعناية تنبعث منها رائحة رطبة،كأنها مكثت طويلا تحت الأرض.
على الورقة خط ليس غريبا،إنه خط زوجتي.
"لا تبحثوا عني البئر، لم تأخذني ،أنا التي فتحت لها الباب."
قرأتها بصوت مرتجف،ولم أجد الجرأة لأريها لأحد.
طويتها ببطء،وأخفيتها في درج الطاولة،لكن" ميشو " قطنا المدلل راح يخمش الخشب كل ليلة،كأنه يريد أن يستخرج الورقة،أو شيئا أعمق..شيئا مدفونا في تضاعيف السطور.
في الليلة التالية بدأت تتحرك الصور في الإطار فوق المدفأة.
إبتسمت زوجتي في الصورة ثم اختفت ابتسامتها فجأة.
نظرت نحوي فعلا.
صرخت،ركض الأولاد إلى غرفتي غير أن الصورة عادت ساكنة كأن شيئا لم يكن.
في مطلع الفجر تناهى إلى سمعنا وقع خطوات على السلم المؤدي إلى القبو،خطوات رقيقة،باردة،ليست غريبة عني.
خطوات كانت توقظني كل صباح
لأحتسي القهوة معها.
إتجهت إلى القبو حافيا،مبللا بالعرق والخوف،وعلى الجدار لفت انتباهي خط ملطخ بالدم:
"البئر تنام بالنهار فقط"
بعد بضعة أيام على الساعة الثالثة صباحا إلا دقائق معدودات سمعنا شيئا غريبا يتصاعد من الحديقة.
لم يكن صراخا ولا نحيبا.
كان همسا كما لو أن الأرض نفسها تتكلم كأن البئر تنادي باسمه..
آدم..آدم..آدم..
آدم طفلي الأوسط،وقف بجوار النافذة كالمسحور،عيناه شاخصتان،نحو البئر ويداه ترتجفان.
ناديناه صرخنا بكل ما أوتينا من قوة لكن لم يجد ذلك نفعا
ركضنا خلفه ،كنا نسمع صدى إسمه يردد بين أغصان شجرة اللوز المعمرة: "آدم... آدم.."
وصلنا البئر لكن لم نجده،
كان القط ميشو واقفا على حافتها ينظر إلى الأسفل ويلعق فراءه المبتل بماء أسود اللون.
بينما كنا نصرخ باسمه سمعنا وقع خطوات تتسلق من داخل البئر .
خطوات طفل مع شيء آخر زاحف.
تجمدنا،وفجأة توقف الصوت.
في اليوم التالي وجدت صحنا صغيرا وضع جانب طبقي.
صحن آدم وبداخله مزق من الطحلب المتخثر.
لم أعد أحتمل..صرت أسمع صوتها كلما أغمض عيني الكليلتين،
"إنزل..ليس كما تظن..آدم معي."
خرجت إلى الحديقة حافي القدمين حاملا مصباحا يدويا بينما القمر يبدو مكسورا والنجوم ثكالى.
إقتربت من البئر .
كانت رائحتها زنخة متعطنة، أنزلت المصباح داخلها،الماء ساكن..لكنه ليس ساكنا تماما.
رأيته هناك .
وجه أبيض يطفو بهدوء..لا ملامح واضحة..فقط عين واحدة مفتوحة،تنظر إلي مباشرة دون رمش ثم انغلقت فجأة وتفتحت في مكان آخر من سطح الماء.
عين واحدة تتحرك على وجه دون جسد.
إرتد المصباح من يدي وسقط في البئر،وفي اللحظة التي سقط فيها سمعت صوت آدم يهمس من الأعماق: "بابا لا تدعها تخرج..لا تدعها تصعد.."
ثم إحتمى بصمت مريع يشبه صمت المقابر.
عدت إلى البيت على عجل مكسور الخاطر.
فوجئت بجملة مبقعة بأطواق الدم على الحائط.. " الذي ينظر إلى البئر تبصره البئر أيضا."
كنت عاجزا عن النوم ،
"وميشو"ملتف حول نفسه،يصدر خرخرة خفيفة كأنه يحلم ثم رفع رأسه ببطء وزأر بصوت خافت متراجعا نحو الزاوية كأنه يرى كابوسا متجسدا.
تقدمت بخطى ثقيلة نحو الباب،وضعت أذني عليه.
سمعت أنينا ثم زحفا وضربات خفيفة متقطعة على الباب.
فتحت الباب كانت هناك..
لم تكن زوجتي..ولا آدم.
كانت شيئا يزحف على أربع له شعر مبلل،طويل،ملتصق بجلد مهترئ،أصابعها طويلة أكثر من اللازم ملتوية،رفعت رأسها نحوي،نصف وجهها محترق..
والنصف الآخر..هو وجه زوجتي،لكن عينيها كانتا فارغتين،
وفي فمها شيء صغير لامع تمضغه ببطء،،
إنه خاتم زواجي.
قالت بصوت لا ينتمي لعالمنا هذا :
"لقد أحضرت آدم..هل تريده؟"
ثم ضحكت ضحكة خالية من المعنى.
-بعد الليلة التي زحفت فيها "هي"
أقسم لكم أن الأشياء أخذت منعرجا خطيرا.
المياه لم تعد كما هي.حين فتحت الصنبور صباحا تدفق سائل أسود مثل الدم المخفف،وعلى الجدران بدأت الرطوبة ترسم أشكالا تشبه وجوها غارقة.
البيت نفسه بدأ يتنفس.
أسمعه في الظلمة يزفر من الجدران ،أشعر بالأرضية ترتجف تحت قدمي كأن شيئا يتحرك تحت البلاط.دخلت غرفة إبني الصغير لم أجد بابا بل بئرا حقيقية محفورة وسط البلاط،إنها لم تكن هناك قبل دقائق فقط.سمعت ضحكا خافتا من الداخل.
إنه ضحك إبني آدم قادما من الداخل يرافقه صوت أكثر عمقا..
صوت زوجتي تقول:
"لقد جلبناه هنا..لا تبحث في المكان الخطأ".
ثم مرت بسرعة مباغتة تجر ظلا أطول من اللازم.
بعد مضي شهر كامل تفاقم وضعنا الصحي نحو الأسوأ.
تهافتت علينا ضروب من المعاناة.
ذات ليلة موحشة تسرب من تحت الباب دخان سام يشبه دخان القنابل الكيمياوية بعد انفجارها.
فقدنا البصر أنا وأبنائي ثم انفتح الباب على مصراعيه ،دفعتنا ريح غريبة لها رائحة الجحيم والجثث المتحللة إلى البئر.
غرقنا جميعا في قاعها المكتظ بالطحالب والعيدان الجافة،عثرنا على زوجتي وإبني آدام يشبهان كائنين أسطوريين وعيون صافية ثاقبة يحملان كتابين مهترئين مشبعين بالدم.
تعانقنا جميعا على وقع مواء "ميشو" الحكيم.
قررنا إغراق سكان قريتنا الطاعنة في القدامة والمتجذرة في وحل المفاهيم البالية والمتعلقة بأهداب الوراء.صرنا نخرج في غلواء الليل،نترصد المارة ونتخطفهم الواحد تلو الآخر إلى أن أغرقنا الكثير من الأناسي المستمسكين بالأغلال والطواطم.
وفي قاع البئر صرنا أكثر أمنا ومحبة وعدلا،نقوم بإغراق المزيد من العميان.تلك هي مهمتنا الأبدية.
نحن القتلة والضحايا في آن.
مهنة شريفة جدا لا يدرك كنه أسرارها إلا المجانين مثلنا.
كان "ميشو "
يحرض الغرقى على ارتكاب الأسئلة الفادحة وإغراق المزيد من الأصنام المتحركة.
"في البئر لا أحد يصرخ الكل يغني."
#فتحي_مهذب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟