أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - منفى الأساطير (قصة قصيرة)














المزيد.....

منفى الأساطير (قصة قصيرة)


سيد كاظم القريشي

الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 10:44
المحور: الادب والفن
    


*منفى الأساطير*
(إلى سالم الباوي وأحزانه)

سيد كاظم القريشي

حين استيقظ سالم، لم يكن هناك صباح واضح ولا ليل محدد. وجد نفسه في غرفة لم يعرفها، بجدران تتنفس الصمت، وسقف منخفض كأنما يريد أن يُطبق عليه. لم يكن في الأهواز، ولم يكن في ساوة، بل في مكان بلا اسم، حيث الطرقات هلامية والوجوه نصف مألوفة، كأنها خرجت من حلم لم يكتمل.

في ذاكرته البعيدة، كان صوت أبيه يتردد:

"الكتابة لا تطعم جائعًا، ولا تؤوي مشرّدًا. ستبقى تعيسًا إن لم تجد عملاً حقيقيًا."

كان يعلم أن والده لم يكن قاسيًا، بل واقعياً. كان يريد له حياة مستقرة، لا أن يطارد أوهام الكلمات. لكنه كان يحلم بشيء آخر، أن يكون كاتبًا مرموقًا، كالجاحظ أو كأبي الفرج الأصفهاني، أو حتى كنجيب محفوظ أو يوسف إدريس. كان يؤمن أن الكلمة يمكن أن تخلده، أن تمنحه ما لا يمنحه أي عمل آخر.

لكن الأيام لم تمضِ كما حلم. صار يعمل في المستودع، يرفع الصناديق الثقيلة، بينما تتلاشى أحلامه تدريجيًا. في الليل، كان يتكوّر على سريره، يحاول أن ينام قبل أن تهاجمه الأفكار، قبل أن تهمس له الشخصيات التي لم يكتبها بعد.

لكن الكلمات، حين تُهجَر، لا تموت. بل تعود في الظلام، تنتظر لحظة الانتقام.

في الليلة الأولى، حين أطفأ الضوء، لم تكن الغرفة فارغة. عبيد الماء كان هناك، جالسًا عند حافة السرير، يقطر طحلبًا وأسماكًا نافقة، ينظر إليه بعينين غائمتين.

قال له بصوت بارد: "لماذا تركتنا؟"

لم يُجب سالم. لم يكن يريد أن يتحدث.

لكن عبيد الماء لم يكن هناك لإلقاء اللوم فقط. مد يده، ولمس جبين سالم بأصابعه المبتلة. في لحظة، تغيرت الغرفة. وجد سالم نفسه واقفًا عند ضفاف نهر قديم، مياهه راكدة، وأسماكه ميتة، وجسور مهدمة تغرق في الظلام.

قال عبيد الماء: "هذا مكاننا. هذا العالم الذي نسيتَه. أما تراه يحتضر؟"

ثم، من الضفة الأخرى، ظهر الطنطل. لم يكن مرعبًا كما في الأساطير، بل بدا منهكًا، كأن غيابه عن الحكايات قد أضعفه. اقترب ببطء، وعيناه تحترقان بشيء يشبه العتاب. جلس القرفصاء، ونظر إليه نظرة طويلة، كأنه يراه للمرّة الأخيرة

قال له بصوت خافت: "إذا لم تكتبنا، سنختفي. وإن اختفينا، سيتحول هذا المكان إلى فراغ. لا ماء، لا ظل، لا ذكرى."

تراجع سالم خطوة. لم يكن يريد أن يصدق. لكنه رأى كيف بدأت الأشجار تنكمش، كيف صار النهر خيطًا رفيعًا، وكيف اختفى الطنطل للحظة، قبل أن يعود إلى الظهور بشحوب أكبر.

قال عبيد الماء: "كل قصة لم تكتبها كانت نهرًا. كل شخصية قتلتها بالصمت كانت شجرة. أنت لم تهجر الكتابة فقط، بل هجرتنا، هجرت عالمًا كاملاً كنا نعيش فيه."

قال الطنطل: "أنت لا تعمل في المستودع، سالم. أنت في منفى، ونحن هنا لإعادتك."

حين عاد سالم إلى غرفته، كانت كتبه مكدّسة في الزاوية رغم أنه لم يجلبها معه. أوراقه مليئة بخطوط لم يتذكر أنه كتبها. في إحدى الصفحات، كان هناك حوار بين عبيد الماء والطنطل، يتحدثان عن رجل نسي اسمه، نسي ماضيه، وصار مجرد يدين تحملان الصناديق من مكان إلى آخر.

لكن في الصفحة الأخيرة، لم تكن هناك جملة واحدة، بل اسم... "القريشي"

ارتعش سالم. شعر بأن الغرفة تضيق، بأن الجدران تنحني نحوه، بأن كل المسرحيات التي لم يكتبها تنهض من سباتها، تلتف حوله كأشباح جائعة.

ثم سمع صوتًا مألوفًا خلفه.

"لم أمت، كما تظن. كنت في القصص التي هربت منها."

استدار سالم ببطء. القريشي كان هناك، جالسًا على الكرسي المهترئ، يكتب في دفتر قديم، يبتسم وكأنه يعرف النهاية التي لم يصل إليها سالم بعد.

قال بهدوء: "تظن أنك تركت الكتابة، لكنك لم تتركها. أنت فقط أصبحت الشخصية بدلاً من الكاتب."

في تلك اللحظة، عرف سالم أنه لم يعد حرًا.

إن لم يكتب، لن ينجو.

في الصباح، حين خرج إلى الشارع، وجد الحافلة بانتظاره. لم يعرف إلى أين ستأخذه—إلى الأهواز، إلى ساوة، أو ربما إلى مكان آخر، مكان لم يعرفه من قبل لكنه شعر أنه كان فيه ذات زمن، ذات قصة.

صعد إليها. جلس بجوار النافذة. في المقعد المقابل، كان عبيد الماء يبتسم، والطنطل كان يحدّق في الأفق، كأنه يرى مدينة لا يراها أحد سواهم.

وفي المقعد الخلفي، جلس القريشي، يحدّق في الأفق

وفي الليل، حين عاد إلى غرفته القديمة، وجد المصباح مضاءً، ووجد القلم في يده، ووجد الكلمات تملأ الأوراق.

لأنه، ببساطة، لم يكن هو من يكتبها.

بل كانت هي من تكتبه.

🔹🔹🔹



#سيد_كاظم_القريشي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انت
- لم يحن دورنا بعد!
- لا يسكب ضوءه القمر على الخيّين
- قصيدة نثرية
- لا تشرق الشمس علي ضريح سيد زكي (قصة قصيرة)
- شعر (صور فتوغرافية لحياة مابعد الحداثة)
- يأتي يوم الأحد بعد الثلاثاء (شعر)
- عبید الماء


المزيد.....




- إطلالة محمد رمضان في مهرجان -كوتشيلا- الموسيقي تلفت الأنظار ...
- الفنانة البريطانية ستيفنسون: لن أتوقف عن التظاهر لأجل غزة
- رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا
- جورجينا صديقة رونالدو تستعرض مجوهراتها مع وشم دعاء باللغة ال ...
- مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بمل ...
- بعد عبور خط كارمان.. كاتي بيري تصنع التاريخ بأول رحلة فضائية ...
- -أناشيد النصر-.. قصائد غاضبة تستنسخ شخصية البطل في غزة
- فنانون روس يتصدرون قائمة الأكثر رواجا في أوكرانيا (فيديو)
- بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص ...
- ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - منفى الأساطير (قصة قصيرة)