هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 08:41
المحور:
الادب والفن
الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية في الرواية
في عالمنا المتسارع بالتطور التكنولوجي والتحول الفلسفي، لا توجد مفاهيم أكثر إثارة وجدلاً من "ما بعد الإنسانية" (Transhumanism) و"الذكاء الاصطناعي" (AI).
وما بعد الإنسانية (Transhumanism) هي حركة فكرية وفلسفية تدعو إلى تعزيز الحالة البشرية من خلال التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية والعلوم السيبرانية. في جوهرها، تسعى ما بعد الإنسانية إلى تجاوز الحدود البيولوجية للوصول إلى مستقبل أكثر تطورا تفيد فيه البشرية من معطيات التكنولوجيا فائقة السرعة، حيث يصبح الذكاء والعمر والقدرات الجسدية فائقةً مقارنةً بالبشر في حالتهم الطبيعية. و هي رؤية تتطلع إلى تجاوز القيود البيولوجية للإنسان، من خلال تعزيز قدراته الجسدية والعقلية، بل وحتى الروحية، بواسطة التكنولوجيا.
ويلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في هذه الرؤية، حيث يعمل كأداة للتعزيز البشري وككيان قد يتجاوز الذكاء البشري نفسه. إن تقاطع الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية لم يؤثر فقط على النقاشات العلمية، بل ترك أيضًا أثرًا عميقًا في الأدب، وخاصةً في الخيال العلمي وكتابة الروايات. إذن الذكاء الاصطناعي ليس فقط أداة في هذا المسار، بل هو أيضاً مرآة نظرية تعكس طبيعة الذكاء البشري ذاته. ومن خلال هذا التفاعل، يعيد كلٌ من الذكاء الاصطناعي والمابعد إنسانية تعريف حدود الإنسان، بينما يؤثران بعمق على الخيال الثقافي—لا سيما في الأدب وكتابة الروايات.
وتسعى المابعد إنسانية إلى ما هو أبعد من مجرد تحسين الوضع الإنساني؛ إنها تهدف إلى تجاوز الضعف البشري الطبيعي، مثل الشيخوخة والمرض والقصور العقلي. وينظر المنظرون لمابعد الإنسانية إليها كخطوة تالية في تطور الإنسان، تطور لا يُدار بالانتقاء الطبيعي بل بالتصميم الذكي والابتكار التكنولوجي. بينما يحذر النقّاد من قضايا أخلاقية، وتفاوت اجتماعي، وفقدان جوهر الإنسان. وهنا يظهر الذكاء الاصطناعي كلاعب رئيسي—كأداة لتحقيق تلك الطموحات، وكخصم فلسفي يطرح أسئلة حول الوعي والهوية والحرية.
ما بعد الإنسانية ودور الذكاء الاصطناعي
تنبع ما بعد الإنسانية من الإيمان بأن البشر يمكنهم ويجب عليهم استخدام التكنولوجيا لتجاوز القيود الطبيعية. ويعزز الذكاء الاصطناعي هذه الرؤية من خلال تقديم تحسينات معرفية غير مسبوقة، مثل واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs) التي تدمج الفكر البشري مع الذكاء الآلي. كما يمكن للتكنولوجيا الحيوية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تتيح إطالة العمر بشكل جذري، بينما قد تقود خوارزميات التعلم الآلي إلى تحسين عملية اتخاذ القرارات البشرية بما يفوق القدرات الفطرية.
ومن ناحية يُعدُّ الذكاء الاصطناعي كقوة محركة وراء العديد من الابتكارات التكنولوجية: التعلم الآلي، الشبكات العصبية، الروبوتات، وغيرها. وتساعد هذه التقنيات على تعزيز القدرات المعرفية للإنسان، وأتمتة المهام المعقدة، بل وتمديد عمر الإنسان عبر الطب التنبؤي.
ومن جهة أخرى، يُعد الذكاء الاصطناعي موضوعًا بحد ذاته في إطار المابعد إنسانية: إذا استطاعت الآلة محاكاة أو تقليد التفكير البشري، فما الذي يميز الوعي البشري؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحقق "الوعي" فعلاً؟ وهل يجب أن تُمنح له حقوق إذا أصبح واعيًا؟ وما الذي يحدث إذا اندمجت هوية الإنسان مع المنطق الخوارزمي؟
كل هذه الأسئلة ليست محض خيال علمي. بل هي تكنولوجيا تطورها شركات مثل Neuralink، توحي بمستقبل يتواصل فيه العقل البشري مباشرة مع الأنظمة الرقمية. وهو ما ينذر بمستقبل مشترك بين الإنسان والآلة—مستقبل قد يُعيد تعريف معنى "الوجود" و"الإنسانية"، فقريبا سوف يتواصل العقل البشري مباشرة مع معطيات هذه التكنولوجيا دون سعي من البشر لذلك، يكفي أن تفكر في الموضوع حتى يتواصل عقلك البشري مباشرة مع الروبوتات المُبرمجة على تكنولوجيا فائقة لتصل المعلومة إليك مباشرة بمجرد التفكير فيها.
لكن صعود الذكاء الاصطناعي الفائق يطرح أيضًا أسئلة وجودية مركزية في نقاشات ما بعد الإنسانية : هل سيخضع الذكاء الاصطناعي للبشر، أم سيتجاوزهم ويحل محلهم؟ يتوقع مفكرون مثل راي كورزويل أننا سندخل عصر "التفرد التكنولوجي"، وهي لحظة يتطور فيها الذكاء الاصطناعي بما يفوق السيطرة البشرية، مما يؤدي إلى تحول جذري في الحضارة. هذا التوتر بين التعزيز والإحلال هو موضوع متكرر في كل من الفلسفة ما بعد الإنسانية والأدب.
الذكاء الاصطناعي ما بعد الإنسانية في الأدب
لم تعد هذه القضايا محصورة في المختبرات أو الفلسفة، بل تسللت إلى الأدب—الذي طالما كان حاضنة للخيال المستقبلي والأسئلة الوجودية. ففي أدب الخيال العلمي، شكلت الما بعد إنسانية تربة خصبة لرسم ملامح عوالم يوتوبية أو ديستوبية. أعمال مثل *نيورومانسر* لويليام غيبسون، و*كربون معدل* لريتشارد ك. مورغان، و*هل تحلم الأندرويدات بخراف كهربائية؟* لفليب ك. ديك، تستكشف تبعات الذكاء الاصطناعي، والتحسينات السيبرانية، ومرونة الهوية في عالم ما بعد الإنسان.
وتطرح هذه الأعمال الروائية وغيرها من روايات قضايا أخلاقية ووجودية: ماذا يحدث عندما يمكن نسخ أو تعديل الذاكرة البشرية؟ من يتحمل المسؤولية؟ كيف تُعرّف الهوية؟ وعندما تتمكن الآلات من محاكاة المشاعر أو الوعي، هل يمكن أن تكون شخصيات أدبية بحد ذاتها؟ هذا التعقيد يُعيد تشكيل طريقة بناء الشخصيات والقصص في الروايات التي تعالج موضوعات ما بعد الإنسانية.
وقد كان الأدب سابقا حقيقيا إن لم يكن متنبئا بما يمكن أن يحدث جراء تطبيق التكنولوجيا فائقة السرعة في المستقبل، حيث رأينا أعمالا أدبية ناقشت موضوعات
الذكاء الاصطناعي ودوره في حياة البشر قبل أن يتم ابتكاره بعقود، بل بقرون، فتناولت أعمال مثل رواية "فرانكنشتاين" (1818) لماري شيلي أخلاقيات خلق الحياة الاصطناعية، بينما تعمق الخيال العلمي في القرن العشرين في مواضيع ما بعد الإنسانية أكثر تعقيدًا.
1. الذكاء الاصطناعي كعامل للتطور البشري
ناقشت روايات مثل "أنا، روبوت" (1950) لآيزاك أسيموف و 2001: أوديسا الفضاء (1968) لآرثر سي. كلارك تأثير الذكاء الاصطناعي كمساعد للبشرية وككيان يعطل مصيرها. واستكشفت هذه القصص ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيرفع البشرية أم سيجعلها زائدة عن الحاجة – وهو سؤال أساسي في النقاش ما بعد الإنساني.
2. التعزيز السيبراني وما بعد الإنسانية
أحدثت رواية "نيورومانسر" ضجة كبرى حيث طرحـ أسئلة حول التكنولوجيا ودورها في حياة البشر، وهي رواية خيال علمي شهيرة ألفها ويليام جيبسون صدرت عام 1984، بل هي أولى رواياته، وقد فازت بعدد من الجوائز، ونالت شهرة واسعة كأحد أشهر أوائل روايات السيبربنك ، والسيبربنك هو نوع أدبي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بما بعد الإنسانية . حيث تعكس تصوير الرواية للزرعات العصبية وكيانات الذكاء الاصطناعي، كذلك رواية "وينترميوت" هي رواية عن اندماج الذكاء البشري والآلي. وبالمثل، تستكشف روايات مثل "سنو كراش" (1992) لنيال ستيفنسون و" ألترد كاربون" (2002) لريتشارد ك. مورغان فكرة الوعي الرقمي وتبادل الأجساد، مما يدفع حدود الهوية البشرية إلى أقصاها.
3. التفرد التكنولوجي والمخاطر الوجودية
تصور روايات مثل "مارون إن ريال تايم" وهي رواية الخيال العلمي عن السفر عبر الزمن عام 1986 للكاتب الأمريكي فيرنور فينغ ، و تدور حول مجموعة صغيرة من الأشخاص العابرين للزمن الذين قد يكونون الناجين الوحيدين من التفرد التكنولوجي أو الغزو الأجنبي. إنها تكملة لرواية "حرب السلام" ورواية "أكسليراندو"وهي رواية خيال علمي لعام 2005 تتألف من سلسلة من القصص القصيرة المترابطة التي كتبها المؤلف البريطاني تشارلز ستروس عن مجتمعات ما بعد التفرد، حيث أعاد الذكاء الاصطناعي تشكيل الوجود نفسه. تتحدى هذه الأعمال القراء لتخيل عالم تصبح فيه الإرادة البشرية ثانوية أمام الذكاء الآلي – وهي معضلة أساسية في الفكر ما بعد الإنسانية.
تأثير الذكاء الاصطناعي على كتابة الروايات
وقد أصبح الذكاء الاصطناعي الآن يؤثر على عملية كتابة الروايات نفسها بعد أن كان مجرد عنصر موضوعي. حيث تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي مثل نماذج "GPT" في توليد الأفكار وصياغة النصوص وحتى تأليف روايات كاملة. مما يطرح أسئلة حول مفهوم المؤلف والإبداع: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتج أدبًا ذا معنى، أم أنه يقلد فقط التعبير البشري؟
يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يُدخل الديمقراطية إلى فن الرواية، مما يسمح للمزيد من الأشخاص بكتابة القصص. بينما يخشى آخرون من أن يؤدي إلى تقليل الأصالة، مما ينتج أعمالًا نمطيةً مُصممةً وفقًا للخوارزميات. ومع ذلك، فإن دور الذكاء الاصطناعي في الأدب يتوسع، حيث تتحدى أعمال تجريبية مثل( the Road1) – وهي رواية شارك في كتابتها ذكاء اصطناعي – المفاهيم التقليدية للإبداع.
إذن يُعد الذكاء الاصطناعي قوة دافعة وراء ما بعد الإنسانية، كما أنه مؤثر تحويلي في الأدب. ومع تطوره، فإنه يعيد تشكيل تصوراتنا حول الإمكانات البشرية، مما يطمس الحدود بين البيولوجيا والتكنولوجيا. في الأدب، يعمل الذكاء الاصطناعي كموضوع وكشريك في الإبداع، حيث يلهم قصصًا عن الترقي بالبشر، بل يغير عملية الإبداع نفسها. سواء كان أداةً للتعزيز أو نذيرًا لعصر ما بعد الإنسانية، فإن الذكاء الاصطناعي يضمن بقاء ما بعد الإنسانية موضوعًا رئيسيًا في الخطاب الفلسفي والخيال الأدبي. قد يكون مستقبل الرواية مزيجًا من الإبداع البشري والآلي، مما يعكس نفس المُثل المابعد الإنسانية التي يسعى الأدب لاستكشافها.
و لا شك أن التقاء الذكاء الاصطناعي والمابعد إنسانية يشير إلى تحول جذري ليس فقط في الواقع، بل في تمثيلنا له أيضًا. فمع تزايد اندماج الذكاء الاصطناعي في حياتنا وعقولنا، تتلاشى الحدود بين الإنسان والآلة، مما يطرح أسئلة فلسفية وأخلاقية وفنية ملحة.
في الأدب، يُلهم هذا التلاقي أشكالًا جديدة من السرد، ويُحدث ثورة في عملية الإبداع ذاتها. القصص القادمة ستكون عن وعي غير بشري، وهويات سائلة، وعوالم تتشارك فيها الخوارزميات والمشاعر في صياغة التجربة.
في نهاية المطاف، يدفعنا الذكاء الاصطناعي والمابعد إنسانية إلى إعادة التفكير ليس فقط في طريقة عيشنا، بل في الكيفية التي نحكي بها قصة هذا العيش. وبينما لم يُكتب الفصل الأخير بعد—يبقى الأدب هو المساحة الأهم لاستكشاف كل هذه الاحتمالات.
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟