|
شجرة الأشباح السوداء
فتحي مهذب
الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 23:15
المحور:
الادب والفن
شجرة الأشباح السوداء.
سافرت منذ زمن ليس ببعيد إلى مكان بعيد لأخفف شيئا من تلك الكثافة المظلمة التي تجمعت في جزيرة روحي . كنت أتنقل بين المدن والشوارع لا أعي جيدا هل أنا من عالم الأحياء أم الأموات؟ كل شيء بدا طبيعيا... ثم انقلبت الأمور رأسا على عقب. في زقاق ضيق ،حيث رائحة التوابل تختلط بزفرات الموتى، رأيت (م) الغائب منذ سنوات كان واقفا أمام دكان يبيع تماثيل خشبية بدون عيون ،ماسكا أحدها بين يديه ويضحك ضحكا مكتوما كما لو كان يتذكر نكتة قديمة خفت إيقاعها. هل يلتقي الأموات في شواسع هذا العالم الغامض؟ ناديت عليه باسمه فالتفت نحوي ، لم يكن ثمة معنى في عينيه الزائغتين بل رعب سائل كمن يرى شبحا ،ثم اختفى بين الحشود، كأن الأرض إبتلعته ،أو كأني أنا من ابتلعه. كانت( ج) تلك المرأة الغريبة الأطوار ،رأيتها قي مقهى مكتظ تحتسي قهوتها ببطء بينما يدها ترسم دوائر على الطاولة كما كانت تفعل ذلك قبل أن تنتحر. عندما التقت عيناها بعيني سالت دمعة سوداء من إحداهما،ثم سقطت الكأس من بين أصابعها فانفرطت مزقا مزقا. الثالث والرابع والخامس... وجوه أليفة من دفتر ذاكرتي،ناس أعرفهم جيدا يسيرون بين الأحياء كأنهم لم يموتوا قط. كلما اقتربت ،فروا ،كلما مددت يدي تلاشوا،كانوا يتعرفون علي،ثم يهربون،كأنني أذكرهم بالموت أو كأنني الموت ذاته. في الليلة السابعة، استيقظت على همسات من زاوية الغرفة:لماذا جئت إلى هنا؟.. "نحن اخترنا النسيان" "أنت الجرح الذي لم يندمل" نهضت فإذا بالمرآة أمامي خالية. لم تكن صورتي منعكسة داخلها،بل ثمة ظل غامض يتحرك خلف الزجاج مثل حشرة محبوسة. وضعت يدي على وجهي،شعرت ببرودة المعدن كما لو أن قناعا من صفيح يتلبسه. في الصباح تساءلت بيني وبين ذاتي : منذ متى انتقل (م ) إلى العالم الآخر؟ أجابني صوت غريب متقطع:بل أنت الذي قتلت في حادث قبل عام، ألم يدفنوك تحت شجرة مهجورة تعشش في أغصانها المتشابكة البوم والغربان؟ ضحكت حتى سالت الدماء من عيني. الآن أدركت جيدا لماذا يخافون؟. لأن الأموات لا ينبغي لهم أن يعودوا. ألم أكن الشبح الذي يلاحقهم مثل الصحن الطائر الذي يمرق من عالم إلى آخر. هل هذا اعتراف أم صرخة من داخل قبر؟ لم أعد أعرف أينا الشبح.. كانت ذاكرتي مثل الماء بين فروج الأصابع كلما أمسكت بخيط من الماضي تسرب مني. ثم سمعت ضحكات كانت تأتي من بعيد،ثم تقترب كأنها تدور حول الشجرة.ضحك مكتوم مبلل بالدم مثل التي يطلقها الأطفال عندما يختبئون من شيء مرعب. رفعت عيني فإذا بهم جميعهم واقفون في دائرة حولي: (م) عنقه ملتو كما لو أن حبل المشنقة لا يزال يخنقه. (ج) شعرها يتدل كالحبال المبتلة،تنضح ثيابها برائحة النهر. الآخرون بوجوه شاحبة، وعيون فارغة يحدقون في وجهي . همست (ج) بصوت مثل خدش أظافر على زجاج: "لماذا تظن أننا هربنا منك ؟نحن لم نكن خائفين... كنا ننتظرك فحسب" فتح (م) فمه ،فسالت منه ديدان سوداء،لكنه تمكن من الهمس: "تعال معنا،العالم هناك مؤلم جدا." مددت يدي ،فإذا بها تذوب كالشمع، شعرت بجذور الشجرة تخترق عظامي،تلتف حول عظامي،تسحبني إلى الأسفل. لم أستطع المقاومة. إقتنعت أخيرا: بأني لم أكن الشبح الوحيد هنا. كلنا أموات نتنكر في شكل أحياء. كلنا جراح مسافرة تبحث عن ذاكرة لتختفي. كلما مر الغرباء بهذه المدينة يرون شجرة سرو عملاقة مسنة، يسمعون ضحكات خافتة تخرج من تحتها. أحيانا يجدون دفترا بجوار جذعها مفتوحا على صفحة أخيرة محتوب فيها: "إذا قرأت هذا فاعلم أننا رأيناك. لا تقترب. لا تذكرنا. فقط...أضحك معنا. مساء، لم يكن ضوء القمر أبيض ولا أصفر ولا أحمر كالدم ، كان أسود. رأيته يتسرب من بين أغصان شجرة السرو يسيل على الأرض كزيت كثيف،يلمس قدمي الشفافتين فتشعران بالحياة لأول مرة منذ موتي،لكنها لم تكن حياة بل ضربا من الإستيقاظ. جاءوا جميعا مرة أخرى وقفوا في دائرة واسعة حولي غير أن وجوههم لم تكن كالمرة السالفة. (م) لم يعد له رأس.كان يحمله تحت إبطه،والشفتان تتحركان ببطء كأنهما تلتهمان كلمات لم أسمعها من قبل. (ج) انفتح صدرها مثل كتاب ،وفي موضع القلب كان ثمة مرآة صغيرة تعكس ظلي لكنه لم يك ظلي بل شيئا آخر يتلوى داخله. الآخرون ...يا إلهي كانوا مثل دمى مقطوعة الخيوط يتحركون بانتفاضات غير طبيعية،لكأن عظامهم تتحرك تحت جلودهم. قال أحدهم بصوت يشبه صرير أسنان على على زجاج: "لقد حان وقت الإحتفال". لم أعرف ماذا يقصدون حتى بدأ الطقس. داروا حولي في دوائر متقاطعة،تترك أقدامهم آثارا محروقة في التراب،مع كل دورة،كنت أشعر بشيء يزرب من فمي-ليس نفسا،ولا كلمات،بل حشرات سوداء صغيرة تطير نحو السماء. كانوا يغنون بلغة لم أسمعها من قبل،لكني استوعبت كل كلمة. كانت تروي قصة مدينة كاملة تحت الأرض حيث الأموات يعيشون حياتنا،ونحن نعيش موتهم. ثم قدموا لي كأسا من ذلك الضوء الأسود، عندما شربته رأيت نفسي وأنا أموت في الحادث الأليم،ثم أقف وأمشي بعيدا بينما الجثة لا تزال داخل السيارة المحترقة. بعد سنوات من التجوال كخيال حتى نسيت أني ميت لحظة كتابتي لهذه الكلمات. عندما كان القمر الأسود يبلغ ذروة سيلانه فجأة انفتح،لم يك قمرا بل عينا عملاقة تنظر إلينا من سماء غير سمائنا بؤبؤها يتسع مثل باب يفضي إلى اللاشيء. قالت (ج) وهي تشير بأصابعها التي تحولت إلى جذور . "أنظر جيدا،هذه هي الحقيقة الوحيدة : كل كلمة نكتبها ،كل ذكرى نتذكرها،كل حلم نحلمه... هو مجرد أحلام الموتى..نحن لم نكن أمواتا يعيشون بين الأحياء..بل كنا دائما أحياء يعيشون في عالم الأموات."
منذ تلك الليلة… لم أعد أنام. ولم أعد أستيقظ أيضاً. كأنني ظل عالق بين لحظتين: لحظة موت لم تكتمل، ولحظة حياة لم تبدأ. كنت أجلس تحت الشجرة المتداعية ، حيث تنحني الأغصان كأذرع عجوز فقدت أبناءها في الحرب. دفتر الكلمات ما يزال مفتوحاً، والصفحة الأخيرة صارت تتجدد كل فجر بكلمات لم أكتبها. من الذي يكتب إذن؟ هل هي (ج)؟ هل هو (م)؟ أم تلك العين العملاقة التي ظهرت في السماء، والتي باتت تطل عليّ كل مساء، تتبع خطواتي مثل لعنة مقدسة؟ في إحدى الصفحات كُتب بخط يشبه خطي: "لا تنظر خلفك، لأن الماضي لا يرحل، بل ينتظرك هناك، حاملاً معوله." وفي أخرى: "الأرواح ليست سوى قصائد ممزقة تحاول أن تعيد تركيب ذاتها على شكل بشر." كل ليلة، يعودون. لكنهم ليسوا كما كانوا. (ج) الآن تمشي مقلوبة، قدماها للأعلى، وعيناها في قدميها، تبكي دماً من الكعبين، وتضحك من فمٍ لم يكن موجوداً أمس. (م) بدأ يتكلم بلغة الأشجار، يصدر حشرجة الأوراق الجافة، وكلما سألته عن شيء، أجابني بوردة سوداء تنبت من صدره. وأنا... بدأت أرى الناس من حولي مثل أشباح شفافة، يتحركون ببطء كأنهم عالقون في فيلم قديم. ذات ليلة، وجدت رسالة على المرآة: "إذا كنت لا ترى نفسك، فذلك لأنك لم تعد أنت." فهمت عندها: أنا أُكتب. كل ما عشته، كنت أظنه اختياراتي، لكنه كان قصة يكتبها شيء أكبر. ربما تلك العين؟ ربما الشجرة؟ ربما أنا الآخر في بعدٍ مكسور من الزمان؟ في الليلة التالية، عادوا يرتدون أقنعة تشبه وجهي. كلهم يشبهونني. لكن وجوههم تتشقق كلما ابتسموا، ويسيل من شقوقهم ضوء أسود لزج. قال أحدهم: "نحن ظلالك التي نضجت. جئنا نحررك من وهم الفردانية." أمسكت الدفتر، لكن يدي أصبحت ورقة. كلما قلبت صفحة، تقشر جلدي. كنت أذوب حرفًا بعد حرف، حتى أصبحت عبارة مكتوبة بخط غامض: "من يكتب هذه القصة لا يعيشها، ومن يعيشها لا يكتبها." عند منتصف الليل، خرجت الشجرة من جذورها. بدأت تسير. نعم، الشجرة تمشي، تسحب جذورها مثل أقدام عنكبوت أسطوري، تبحث عن مدينة جديدة لتزرع موتاها فيها. هل أنا ميت؟ هل أنت القارئ أم أنا؟ من منا يحلم بالآخر؟ في كل مرة أفتح عيني، أجدني أقرأ هذه القصة من جديد… كأنني لم أكتبها قط. وفي الصفحة الأخيرة… كُتب بخط مختلف تمامًا: "غدًا نختار جسدًا جديدًا." بدأتُ أسمع تنفّسي من الخارج. لم يكن صوَتي، بل صدى لشخص آخر يشبهني حد الفزع، يتنفّس ببطء… وكأنه يعزف على رئة لا تخصه. السماء تشققت. لا على طريقة الأساطير، بل كما تنشقّ مرآة قديمة سقطت من يد الموت. خرج منها صوت: "نحن لا نعيش، بل نُعرَض." عرضٌ مسرحيّ طويل، كلنا نلعب فيه أدوارًا كُتبت سلفًا، حتى حين نثور… فإننا نثور ضمن النص. في كل زاوية من المكان بدأت تظهر غرف صغيرة، بلا أبواب، بلا نوافذ، فقط ثقوب في الجدران تنظر منها عيون مجهولة. إحدى الغرف كانت تحتوي على نسخة مني، لكنه أكثر صمتًا، أكثر نُحولًا، وأكثر خطورة. كان يبتسم لي… ثم يكتب. نعم، هو الذي يكتب. منذ البداية. أنا مجرّد انعكاس. في الزاوية الأخرى، كانت شجرة الأشباح تنمو من سقف الغرفة. جذورها تنغرز في رأسي. كل مرة تنمو فيها ورقة جديدة، أنسى شيئًا: وجه أمي. ضحكة (ج). صوت المطر في الطفولة. حجم جسدي في المرآة. قالت لي المرأة ذات الوجه المخيط بالخيوط: "النسيان هو ضريبة المعرفة، وأنت تجاوزت الحد المسموح به."
لم أعد أعرف ما إذا كنت أبحث عن خلاص، أم عن كاتب هذا الجحيم. ربما الكاتب هو أنا. وربما أنا مجرد كلمة في مخطوطة نازفة. مرآة الغرفة بدأت تكتب وحدها: "في الحكايات السيئة، لا تموت الشخصيات… بل تتيه." وتحت العبارة رسمٌ: شجرة تأكل نفسها. حين أمسكت بالدفتر، لم يكن هناك شيء يُكتب. لكن الجدران نفسها بدأت تُسطر الجمل. الهواء صار حبرًا، وكل زفير يتحول إلى سطر جديد: "لا تقرأ أكثر، وإلا ستصبح القصة." الآن، وأنا أكتب لك هذا، لا أدري: هل أنت من يقرأني؟ أم أنا من أراك على الورق؟ كل ما أعرفه أن الشجرة الآن تسكن داخلي. تنمو تحت أضلاعي. وأن غدًا… سأخرج من جذوري، لأبحث عنك.
#فتحي_مهذب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة البيت الملعون
-
إدغار آلان بو مطلوب للعدالة.
-
كسار الحصى وشيخ البحر
-
القط ذو السبعة أرواح
-
الأرجوحة
-
مجرم حرب
-
الدمغة
-
ذهبوا جميعا وبقيت وحدي كالحجر
-
لم تفلت الخيط
-
قراءة نقدية في كتابي الموسوم بطابقين من الفوبيا نقاتل الوراء
-
الزمن كقاتل متسلسل
-
الأم.
-
لم يعد ثمة متسع من الوقت
-
بظهور مقوسة نمشي إلى الوراء
-
جاري الذي قتله المعتزلة في الكازينو
-
لماذٲ لم ينتبه أحد
-
قراءات
-
الشمس
-
إذا تمكنت من العيش مرة ثانية
-
أنتظرتك طويلا يا سلمى
المزيد.....
-
فنانون روس يتصدرون قائمة الأكثر رواجا في أوكرانيا (فيديو)
-
بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص
...
-
ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام
-
جامعة الموصل تحتفل بعيد تأسيسها الـ58 والفرقة الوطنية للفنون
...
-
لقطات توثق لحظة وصول الفنان دريد لحام إلى مطار دمشق وسط جدل
...
-
-حرب إسرائيل على المعالم الأثرية- محاولة لإبادة هوية غزة الث
...
-
سحب فيلم بطلته مجندة إسرائيلية من دور السينما الكويتية
-
نجوم مصريون يوجهون رسائل للمستشار تركي آل الشيخ بعد إحصائية
...
-
الوراقة المغربية وصناعة المخطوط.. من أسرار النساخ إلى تقنيات
...
-
لبنان يحظر عرض «سنو وايت» في دور السينما بسبب مشاركة ممثلة إ
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|