أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - سامية قزموز سيّدة المسرح الفلسطيني















المزيد.....


سامية قزموز سيّدة المسرح الفلسطيني


نبيه القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 18:06
المحور: الادب والفن
    


سامية قزموز الفنانة التي اعترف بها الجميع بأنّها سيّدة المسرح الفلسطيني


الشاعر أحمد دحبور، الفنانة سامية قزموز، الروائية ليانه بدر، الناقد الدكتور نبيه القاسم
في تونس نيسان 1994

سامية قزموز الفنانة التي فرضت نفسَها ورسّختها في المسرح العربي الفلسطيني في البلاد منذ وقفت على خشبة المسرح وهي لا تزال في منتصف عقدها الثاني. وقد عُرفت واشتهرت بصوتها الإيقاعي الأخّاذ وحركات جسدها المُتماوج مع الحروف والكلمات وهي لا تزال طالبة في المدرسة، فعرفها أهالي مدينة عكا وأحبّوها.
وهكذا كان لسامية أن أصبحت الفنانة التي تميّزت بظهورها على المسرح، والتي يتردّد اسمها على كل لسان، وشقّت الطريق لغيرها من الفتيات العربيات ليشاركن في تثبيت أركان المسرح العربي في البلاد، ولتبوء الفتاة العربية دور الركن الأساس في هذا المسرح.
حتى أواخر سنوات الستين من القرن الماضي كانت الكتابات المسرحيّة مجرّد محاولات إبداعيّة استثنائيّة كان الأديب المرحوم سليم خوري أبرز كتّابها، والعروض المسرحيّة تنحصر معظمها ضمن اجتهادات لطلاب المدارس في مناسبات عامّة أو خاصّة بالمدرسة نفسها.
لكنّ التقاء المبدعين بأشقائهم في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد حرب حزيران 1967، ووصول الإبداعات المسرحية العربية من العالم العربي والمترجمة عن الآداب العالمية وخروج كوادر من الشباب لدراسة المسرح في الدول الاشتراكية وغيرها، ومن ثمّ عودتهم ومساهمتهم في خَلْق واستمرار النشاط المسرحي، تغيّر الواقع وأصبح المسرح بشقَّيْه، الكتابة المسرحية والعَرْض المسرحي، يجذب الاهتمام ويشدُّ القارئ والمشاهد.
هذا التّغيّر ساهم في تحريك الحركة الثقافيّة المحليّة وجعل العديد من المبدعين في الشعر والقصة والرواية يُجرِّب حظَّه في كتابة المسرحية، وبالفعل أصدر الدكتور الشاعر سليم مخولي مسرحيّة "الناطور" عام 1979 والقاص زكي درويش أصدر مسرحيّتيه "الموت الأكبر" عام 1979, "لا" عام 1980. وصدرت مسرحية الشاعر سميح القاسم الشعرية "قراقاش" عام 1979، ومسرحية "لكع بن لكع" لإميل حبيبي عام 1980، وصدرت عدة مسرحيّات باسم "قهوة الصباح" لهاشم خليل، ومسرحية "الخروج من دائرة الضوء الأحمر" للشاعر أدمون شحادة عام 1985.
وتبع هذا الكم من المسرحيّات حركة نقد مُتابعة أثارت اهتمام القرّاء ومُحبي الأدب، ولفتت الانتباه في العالم العربي.
وكما في الكتابة المسرحيّة هكذا حدثت طفرة كبيرة ومباركة في العروض المسرحية وبرز عدد كبير من المخرجين الشباب الذين درسوا فن الإخراج المسرحي في الجامعات الأوروبية خاصة الدول الاشتراكية أمثال المرحوم الفنان رياض مصاروة وفؤاد عوض وأديب جهشان وسليم ضو وراضي شحادة ومنير بكري، فازدهر المسرح الفلسطيني المحلي وعُرضت المسرحيات الهادفة، منها المترجمة ومنها العربية ومنها التي كتبها المخرجون أنفسهم.
وظهرت مواهب كبيرة في التمثيل وصلت إلى درجة أنْ فرضت نفسَها على المسرح العبري والفن السينمائي أمثال محمد بكري ومكرم خوري ويوسف أبو وردة وسليم ضو وسعيد سلامة إلى جانب مواهب سرعان ما اشتد عودها وساهمت في تنشيط العمل المسرحي وجعله حاجة مُلحة للناس أمثال عفيف شليوط وعدنان طرابشة ومحمود صبح ومروان عوكل ولطفي نويصر والمرحوم مازن غطاس وإبراهيم خلايلة وخالد عوّاد ونبيل عازر وقاسم شعبان. وشاركت الفتاة العربية وأثبتت وجودها على خشبة المسرح وشكلت ركنا أساسيّا وحيويا مثل سامية قزموز وسلوى نقارة وسلمى وفريال خشيبون وناهد شُرّش ونادية عوكل وروضة أبو الهيجا ونسرين حبيشي وغيرهن كثيرات.
وكما ذكرت فقد كان لظهور سامية قزموز تأثير كبير واهتمام لم تحظ به غيرها وأصبحت المشاهد المسرحية التي تشارك بها تثير انتباه النقاد والأدباء ومحبي المسرح حتى بين الفنانين والمبدعين اليهود، وكانت علاقاتها حميميّة وقويّة بمعظم المبدعين والمبدعات في البلاد وحتى في العالم العربي وقد كانت تشعر بالفَقد الكبير إذا ما رحل أحدهم فكتبت صارخة وهي تستعيد ذكرى الذين رحلوا:
" كيف نتعوّدُ على رحيل الكبار فينا؟
كم مرّةً ستذوب قطعةٌ من القلب..؟
سلمان ناطور، محمود درويش، سميح القاسم،
اميل حبيبي، توفيق زيّاد، طه محمد علي، اميل توما، صليبا خميس
جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، سميرة عزام.. و..
أحبائي لا ترحلوا...
يا مَنْ حرثتُم ترابَ الذّاكرة... وحرَستُم حلمَ الوطن"...
وكان لغسّان كنفاني الموقع الخاص والمكانة الثابتة في اهتمام سامية قزموز، فهو من مواليد عكا، وكانت كثيرا ما تقف أمام بيته المهجور وتستعيد صور غسان وأهله والمهَجَّرين قسرا عام النكبة من مدينة عكا، وتبكي حرقة على الذين ذهبوا ولم يُسمَح لهم بالعودة إلى وطنهم وبيوتهم:
"عكا تذكرُك كل 9 نيسان ...مولدك....
وردة على ضريحك هناك....غسان
وسلامٌ من بيتك ال ما زال واقفا أمام البحر"
ورغم إدراكها أن غسان قد قُتل ولن تصله رسائلها ولن يقرأها إلّا أنها كانت ترسل له التحيات والرسائل:
"في ذكرى ميلادك..
ســلامٌ مــن بيتـــك الواقــفِ أمــام البحــر
بيتُك غسان يستوقفني، لا أدري ما الذي ينتابُني كلّما مررتُ به. أمثلُ دون حراك وكأنني أراه لأوِّل مرة. ما الذي يفعله بي بيتُك؟ ما الذي تفعله بي حجارتُه بصوتها الصّامت؟ لماذا تظلُّ فاغرة فاها في تساؤل ينزُّ ذكرى؟
أجلس الآن على صخرة أمام بيتك... الحيطانُ مُشقَّقةٌ كشَرْخٍ في القلب... تكاد تسقط الحيطان... كم أخشى عليها... أريدُ أن ألملمَ كلَّ حجر فيها... أسمع أصواتاً تنبعث أنيناً من جُزَيْئات حجارة عطشى... الشرفات المُطلّةُ على شاطئ مدينتي الساكنة، تُحدِّثُ عن تَوْق أهله للشمس... عن جلسات سَمَر.. عن أيام عُمْر... عنك عن الأب والأم والأخوة... شيء ما في ضلوعها يستفزُّني أنْ أدخلَه.. أنْ أحسَّه.
غرَّبوك في بلدك يا غسان..
ويبقى البحر.. ما زال كما تركتَه... عميقاً.. بزرقته الداكنة.. وقبة السماء تمَسُّ أفقَه المُدهش... وسورُه العتيق ما زال واقفاً."
بيت أسعد الشقيري
وتصوّر صدمتها ذات يوم وهي عائدة إلى بيتها عندما رأت عمليّة الهدم والتّدمير لبيت أسعد الشقيري والد أحمد الشقيري أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فتكتب متألّمة:
"أذكر ذلك اليوم.. قبل سنوات. كنت عائدة من مكان عملي في الشارع المحاذي لشاطئ الغربة" وإذا بي لا أجد البيتَ الحجريَ الكبير.. صُعِقتُ.. شعرت باختناق... لقد هدَموه .. مَحَوْه، وقفتُ أمام الجرّافات تائهةً مهدودة.. كانت قد أنهت عملها القاسي ولم يبق من بيت الشيخ أسعد الشقيري سوى بعضِ قطع مُحطَّمة من أعمدة الرخام الجميلة.. كان العمال ينظفون المكان... وكأنه ما كان.. حزنٌ مرير عصَرني.. أكاد أستشعرُه الآن.. كأنه حدث البارحة.. لقد أقتلعوا مَرتعاً لطفولتي... شرفة هذا البيت.. ذلك البيت.. أمام البحر كانت مجلسَنا.. لطالما رمقنا المغيبُ ونحن نقضمُ بذرَ البطيخ والمحمص، ُوالسّاعاتُ تمرُّ دون أن ندري، نلعب "الغميضة" مُتخذين من أشجاره اليافعة مخابئ لنا.. ُّ عبر ثقوب الأبواب المقفلة أعواماً فتعترينا رعشةُ الغُيّاب.. الأثاث جميل مغطى بالغبار.. لماذا؟ أين صاحبه؟! نتساءل ببراءة الأطفال".
وقد نأتي بالكثير من إبداعات سامية، ولكنني أنتقل للحديث عن أهم عمل أبدعته سامية قزموز وأصبح الدّال عليها والمُلازم لها على مدى عشرات السنين حتى يومنا هذا هنا داخل البلاد وفي الكثير من عواصم العالم العربي وبعض البلدان الأوروبية، وهو مسرحية "الزاروب".

زَواريب عكا تستعيد ماضيها مع الفنّانة سامية قزموز في مسرحية "الزّاروب"

تلاحم المكان والزمان والانسان في وثيقة إدانة قوية
وصرخة الفلسطيني: أين هو العدل! أين!؟

شكّلت مسرحية "الزاروب" رغم عدد صفحاتها القليل، وثيقة تاريخية لإدانة الجريمة التي ارتُكبت ضدّ الشعب الفلسطيني عام 1948. عندما تآمر عليه الجميع: الأشقاءُ العرب، ومَن سُمّوا بالأصدقاء، والغرباءُ، تماما كما الأعداء. وحدثت النكبةُ التي لم تؤدِّ فقط، إلى اقتلاعه من وطنه، وتحرمُه من بيته وأرضه، وإنَّما شرّدته في كلِّ جهات الدنيا، وعملت على إلغاء هويّته وحتى وجودِه الإنساني، ولا تزال تُمْعنُ في حرمانه من حقوقه، وتعمل على المَزيد من ظلمه وحتى قتله.
كل عمل مسرحي يتحدّد ضمن مكان وزمان إضافة إلى الشخصيّات. وفي مسرحية "الزاروب" تَتواجَدُ هذه العناصرُ الأساسية الثلاثةُ بكثافة. رغم أنّه لا مكانَ يجمعها ولا زمانَ يضمُّها ولا شخصياتٌ مُحدّدة يُشارُ إليها، فالواحدُ يتوالد من الثاني ويتداخل فيه. الشخصية الواحدة تتكَّشفُ عن عشرات الشخصيات، والمكانُ يتفجر في ذات الوقت عن عدّةِ أمكنة، والزمن يتشظى إلى أزمنة متداخلة ما بين الحاضر، والماضي، والحاضر، والمستقبل.
مسرحية "الزاروب" لا تتقيّدُ بشخصية مُحدّدة، ولا بمكان مَرْئي، ولا بزمان واحد. فمن الشخصية الواحدة التي نراها تُقدّمُ لنا العرضَ تتناسلُ العشراتُ من الشخصيات، تأتينا من عُمق الماضي لتخبرَنا بقصتها وتنسحبُ تاركة المَجالَ لغيرها وهكذا دواليك. وأحيانا تتداخلُ الشخصياتُ وتتبادل الأدوارَ والقصص. ومع كلّ شخصية نعيش القصة ونتألمُ ونسأل ونغضبُ، وقبل أنْ نَتَفجّرَ تُسارعُ مُقدِّمةً العرضَ، الراويةُ قائلة مع البسمة الحزينة الآسرة: بلاش نِقْلبها غم. وتُغنّي مع فيروز:
ما في حَدا، لا تِنْدَهي
ما في حَدا
بابُنْ مْسَكّر
والعُشبْ غطّى الدّْراج
شو قولْكُنْ
صاروا صَدى
وما في حَدا. (ص 45).
وتأخذُنا بروعة الكلماتِ والصوتِ، وتُعيدُنا إلى واقعنا الحاضر، تتنقلُ بين الجمهور تَحكي مع هذا وتمازح ذاك، يشدّنا الفرحُ فنهدأ ونبتسم. وتتابعُ بعفوية:
- مش بقولكو عيوني بتشوف اللي غيرْنا لا يراه يا جماعة.
وبقُدْرةٍ تُدخلُنا من جديد في تفاصيلَ قصة أكثر ألما وقسوةً ومأساويةَ.
هذه القُدرةُ في الانتقال من شخصية إلى أخرى عبر الأمكنة والأزمنة كانت بفضل الحرَكات والإشارات والتعليقات وإيقاعيَّة الكلمات والعبارات التي كانت تشدُّ بها المشاهد، فينسى أنه أمام شخصية واحدة تُقدّم له عَرْضا مسرحيا، وإنّما يشعر أنّه وسط عشرات الشخصيات من كلّ الأجيال والأماكن، يحكون له قصصَهم ويخصّونه بها وحدَه.
وإذا كانت العلاقةُ الجَدَليةُّ لازمة ما بين الشخصية والمكان والزمان في العمل الإبداعي، فإنها في مسرحية "الزاروب" تكاد تكون مُتلاحمةً، وتتفجَّرُ معا من خلال النوستالجيا، واسترجاعٍ تدفع إليه مناسبةٌ أقيمَتْ أو صورةٌ عُلِّقتْ لتُعرَضَ للناس في مَعرض، فما تكاد النظراتُ تقع على الصورة الجامدة المعلقة على الحائط حتى تتفجرَّ الشخصياتُ عبر الأزمنة المتداخلة، ومن قلب الأماكن الغائبة لتنقلَ المُشاهدَ إلى واقع آخر يشدُّه إليه بما يُثير فيه من ذكريات بعيدة حاولت السنونُ دفعَه لنسيانها فتتفجَّرُ فيه من جديد فيَحياها وكأنها الآن تحدُث أمامه.
هكذا تتلاحم الشخصياتُ بالمكان والزمان، وتتوارى الصورة المعلقة على الحائط لتنبعث الحركةُ والحياة في المكان الذي صوَّرته بناسه وموجوداته، فنتنقلُ من زاروب إلى آخر، ومن مكان إلى ثان، ومن بيت إلى غيره، فتأخذنا المواقعُ، ونتنقلُ عبر الزمان والمكان لنلتقي أشخاصا كانوا وراحوا، ولا يزالون يأملون بالعودة. يشدّ بهم الحنينُ إلى مكان يسكنُ فيهم لا يمكنهم التخلّص منه، ولا يُمكنه الخروج منهم منذ تلك اللحظة الزمنية القاسية التي انبتّوا فيها من أماكنهم ليصبحوا غرباء في هذا العالم الواسع الذي يضيق بهم.
وبتلاحم الشخصيات بالمكان والزمان تتداخلُ الحكاياتُ الواحدة في الأخرى، وتظلُّ الشخصية الراوية أمامنا هي المحور، عندها تلتقي حكايات الناس، وفيها تتفجر الأمكنةُ لتنبنيَ من جديد وتمتلئ بموجوداتها وناسها، وتتداخلُ الأزمنةُ لتبعثَ الحركةَ والحيوية. وقد يلتقي الماضي بالحاضر بالمستقبل في حالة منَ التّكامل اليقيني كما في لقاء الراوية مع أم سليم. وهكذا لا يكون الدَّوْرُ المنوط بالصّوَر الجامدة المعروضة على الحائط فقط للتذكير بالماضي، وإنما لتكونَ شهادةً على أنّ هذا الذي تعرضه الصورةُ كان موجودا حقا. فالصورة، كما يقول بارت: "لا تتحدّثُ عن الذي ما عاد موجودا، وإنّما عمّا كان فقط، والوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين، ولكنّه يؤكِّدُ اليقين".
لا تكتفي الراوية باستحضار الماضي عبر الصور المعلقةِ أمامها على الحائط وحكايات الذين استحضرتهم، وإنما تتقمّص دَوْرَ صديقة لها عاشت نكبةَ شعبها يوم كانت في الرابعة من عمرها، وغادرت البلادَ مع والدتها والإخوة والأخوات إلى بيروت حيث ذاقت ذلّ الغربة وعرفت بؤسَ الغريب، لكنها كانت محظوظة بأنّ سُمح لها ولأفراد أسرتها - ما عدا الأخ الكبير- بالعودة إلى الوطن. هذه الصديقةُ قصّت على الرّاوية قصّتها تلك، وبذلك مَكّنتها لتأخذ دورَ الشاهد الحاضر الذي وعى الأحداث وعاشها ويرويها، وفي شهاداتها الخبرُ اليقين.
هذه المواقع التي تتحدث عنها هي مواقعُها التي عاشت فيها وتنقّلت بينها، وعرفَت كلّ موقع فيها. ولُعْبتَها التي كانت تُخبئها في غرفة بيتهم الذي احتله الأغراب، هي وحدها التي تعرف كيف تجدها وتستخرجها أمام استغراب نظرات الامرأة الغريبة المستوطنة ومفاجأتها (ص42)، ووالدُها هو الذي كان يشرب القهوة في بيته مع اليهودي الذي احتلّ بيتَه ويقيمُ فيه (ص41)، وشفرات التراكتور التي كانت تجرف حجارةَ البيت، قلبها فقط الذي استشعرها وخفق بسببها (ص35)، وهي كآلاف غيرها عاشت النكبةَ وفقدانَ الأهل والبيت، وذاقت التّشريدَ والغربةَ إلى بيروت التي وصلوا إليها وبقوا حتى سُمح لهم بالرجوع، وهي التي جعلتها النكبةُ والتشريدُ والغربة تفتقد وجهَ أبيها فتظن أنّ أخاها هو والدها (ص 37) وعندما تلتقي بأبيها ترفضُه وتناديه بالشَّبح وتقول "إجا الشَّبح طلع من البير وأخذني على بيته" (ص39). وهي التي تحسّ بنبضات جدران البيوت وحجارتها وتُعلّقُ على استغراب قادم جديد لوقفتها قائلة: "يا ترى بتتوقع من عيونه تقدر تشوف اللي بتشوفه عيوني" (ص 44)، وهي التي شعرت بذنبها لأنها لم تلتفت للصخرة التي شهدَت شيطنَتَها في طفولتها وتقول بألم وخوف من الآتي: "ايه.. هاي الصخرة.. هاي هي من هون كنت اطلع وأنُطّ منها على جورة البُطلان أنا نسيتها واللا هي ? قولة إميل حبيبي رحمه الله ? أنا تْغرّبت عن المكان ولاّ هو تغرّب عنّي.. واللاّ الزّمان.. إلي واللا مش إلي.. طيّب يا جماعة.. منين لكان إجاني هالشعور.؟ منين؟؟ أيْ بنسّوك الحليب اللي رضعته؟"(ص 46). وهي تُشْرك الحاضرين معها بما تقول، لأنّ الكثيرين منهم هم شهودُ حقٍّ عرفوا المواقعَ ولامسوها ولا يزالون.
لقد نجحت سامية في اختيار المقطوعات الشعرية، العامية منها والفصيحة، التي كانت تُرَدّدُ في المناسبات المختلفة، وعرفت كيف تُدخلها في النّص لتكونَ مُكملّة وشاحنةً بالمعاني والدّلالات وكانت أحيانا تنطلقُ بصوتها الشَّجيّ الرّخيم ببعض المقطوعات فتأخذ بالمشاهد وتسحره بتموّجات صوتها وتجسّدُ أمامه كلَّ حكايات الناس الذين عرفَهم ولم يعرفهم، وتشدّ به إلى ما يجري أمامه أكثر وأكثر.
واستطاعت أنْ تصفَ حياة الناس الهادئة القانعة السعيدة غير المتوقعة وقوعَ المأساة والنكبة وعذابَ التشريد وفقدان الوطن، حتى أنّ كلمات أحمد الشقيري "وفّروا البارود لحاجته"(ص18)، لم تقع على آذان صاغية، ولا أحد ينتبه لما فيها من معان وتحذيرات واستشراف للمستقبل.
كما صوّرت خوف الناس الذين بقُوا في وطنهم بعد النكبة، وتوجّسهم من عقاب السلطات الاسرائيلية لهم إذا ما صرّحوا بآرائهم وعبّروا عن عدم رضاهم بالفزَع الذي أصاب أم سليم عندما انتبهت إلى أنّ الرّاوية تكتب ما تقوله لها "شو كنّك عمبتْأَيْدي؟ عزا.. معك قلم؟؟ يي.. يي. هو.. شوفي يمّا.. شو بدنا نحكي هي.. اسرائيل منيحة.. مليحة.. والله (وهي خايفة) ما ناقصنا شيء على أيامهم بيوتنا ملانة ومِنْتْلِيّة.. لأ.. منيحين.. ( تقوم وتترك المكان) بخاطرك .. قال حكايا قال.. ما احنا كلنا حكايا.. يا بْنَيْتِي.." (ص 53).
وتُشكل الزاروب موسوعة متواضعة، ولكنها مهمة، في حفظ اللهجة الفلسطينية التي يتكلمها أبناءُ مدينة عكا وباقي القرى التي تُحيط بها. فقد نجحت في جعلها لغةً حيّة مُتدفقةً تسحر السامعَ بإيقاعيّةِ مَخارج حروفها وجماليّة تراكيب جُملها وعباراتها "وخالتي لمّا تْزَهْزِه الأمور معْها تِطلع على حِفّة البركه من فوق وترقص داير مِنْدار واللإبريق القزاز على راسها"(ص 21). و "ييه.. اي روحي بِلى يُسْتْرِكْ.. كل عمرك على مَهلك نايطة."(ص 25)، ولهجة بدو المنطقة "كنت زين والله يا أميرة زين قمر أرْبَعْتَعْش ضاوي. انتُن تْغَنّينْ وتُرْقْصِنْ والبقرات يْغْنّينْ ويُرْقْصِينْ"(ص 21).
المخرج فؤاد عوض كما نعهده، كانت بصماته واضحة في إخراج "الزاروب" بكل هذه الروعة وهذا النجاح، حيث نجح في التوفيق ما بين حركات الرّاوية وإيقاعيّة صوتها واهتزازات جسدها وتنقلها أمام الجمهور وبينه، والخروج من الموقف الدرامي الشادّ بالمشاهد والأخذ به صَوْب عُمْق المأساة إلى موقف النّقيض حيث ترفع يدها وتُلوح بشالها وتقول باسمة: بلاش نقلبها غمّ. وتنطلق تُردّد كلمات محمود درويش:
ونحنُ نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا
ونسْرِقُ من دودة القزّ خيطا لنبني سماءً لنا ونُسَيّجَ هذا الرّحيلا
ونفتحَ بابَ الحديقة كي يخرجَ الياسمينُ إلى الطُّرقات نهارا جميلا
نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا (ص45)
قال أحمد عامر، رئيس تحرير جريدة " الصباح " التونسية: " الزّاروب هي قصة الناس الذين رحلوا عن عكا والذين بقوا فيها، قصة البلد من خلال امرأة في الأربعين تقطنُ المكان، وترصد ما تغيّرَ وتَبَدَّل به وبسكانه. وعكا هي رمزٌ لكل المُدن، والمراةُ هي كلِّ النساء، وهي تعيدُ رسمَ فُسَيْفساء المدينة، أزقّتِها، حاراتِها، زواريبِها، تقاليدِها، أفراحِها والحزنِ الذي حلَّ، كل ذلك عبرَ قَعْدةِ فنجان قهوة وقصص من لحم ودم".
وفي مسرحيتها، ومن خلال أدائها المُميَّز الرائع، تجعلنا سامية قزموز بكري نحيا ونعيشُ التراجيديا الفلسطينية من بداياتها وكأنّنا نعيشُ فصولَها من جديد.
أخيرا: تبقى مسرحيةُ "الزّاروب" رغم مرورِ السّنوات، وافتقادِ الناس الذين تَروي حكاياتِهم، وثيقةَ إدانةً يرفعُها أبناءُ شعبنا مع مئات وثائق الإدانات في وجه العالم صارخين وحتى اليوم:
أين هو العدلُ الذي تتحدثون عنه.. أين هو!؟



#نبيه_القاسم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس هذا الذي انتظرناه
- محمود درويش في حواره مع الذات
- -منزل الذكريات- لمحمود شقير مقابل -الجميلات النائمات- لكاواب ...
- لذكرى البروفيسورة الروسيّة أولغا فرولوفا المحبّة لشعبنا ولغت ...
- لذكرى البروفيسورة المستشرقة الروسية أولغا فرولوفا
- المُبدع الفلسطيني محمود شقير يحلم بعالم أجمل وناس أطهر من ور ...
- دجل منجمين وغباء شيوخ وصمت المثقفين والمسؤولين
- حول رواية -فرصة ثانية- لصباح بشير
- قصة -وأخيرا ماتت أمي-
- أسعد الأسعد و -جَمر الذكريات-
- في الذكرى العاشرة لغياب الشاعر سميح القاسم ومساهمته في تطور ...
- في الذكرة الثالثة والثلاثين لرحيل الكاتب يوسف إدريس
- الرؤية المختلفة لباسم خندقجي في روايته -قناع بلون السماء-
- إلى توفيق زياد في ذكرى غيابه
- محمود شقير في حفل تكريمه لفوزه بجائزة فلسطين العالمية للآداب
- رواية -راكب الريح- والتّألّق في إبداع يحيى يخلف
- عاطف أبو سيف في روايته - مُشاة لا يَعبرون الطّريق-
- معين بسيسو الفاسطيني الذي لم يلق الراية
- أشرف إبريق و -للحديث نظير-
- في رواية -عازفة البيكاديللي- لواسيني الأعرج المكان هو الأساس ...


المزيد.....




- بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص ...
- ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام
- جامعة الموصل تحتفل بعيد تأسيسها الـ58 والفرقة الوطنية للفنون ...
- لقطات توثق لحظة وصول الفنان دريد لحام إلى مطار دمشق وسط جدل ...
- -حرب إسرائيل على المعالم الأثرية- محاولة لإبادة هوية غزة الث ...
- سحب فيلم بطلته مجندة إسرائيلية من دور السينما الكويتية
- نجوم مصريون يوجهون رسائل للمستشار تركي آل الشيخ بعد إحصائية ...
- الوراقة المغربية وصناعة المخطوط.. من أسرار النساخ إلى تقنيات ...
- لبنان يحظر عرض «سنو وايت» في دور السينما بسبب مشاركة ممثلة إ ...
- فيديو.. -انتحاري- يقتحم المسرح خلال غناء سيرين عبد النور


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - سامية قزموز سيّدة المسرح الفلسطيني