أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كلّم - حينَ تفرَّقَ الأَصحابُ وضاعَتِ الخُطى: حِكايةٌ من مُخيَّمٍ في الشَّمالِ














المزيد.....

حينَ تفرَّقَ الأَصحابُ وضاعَتِ الخُطى: حِكايةٌ من مُخيَّمٍ في الشَّمالِ


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 15:12
المحور: الادب والفن
    


كان يا ما كان، في قديم الزمان، من زمن الأساطير، بل من زمن الجراح الحديثة، في معسكرٍ للاجئين في شمال غرب ألمانيا (مدينة أولدنبورغ)، اجتمع بالصدفة صديقان. لم يكن أحدهما يعرف الآخر من قبل، لكن القدر، كما يفعل أحياناً، حبك خيوطه على مهل، وجمع بين قلبين تائهين في منفى لا يرحم.

كان ثالثهم، الرابط بينهما، رجلاً عراقياً يُدعى "أبو شكرية"؛ رجل بسيط، طيّب القلب، يحمل تعب الدنيا في عينيه، وضحكة مُرّة على شفتيه. وكان له ولدٌ صغير اسمه "علاوي"، لا يفارق والده، يردد شعاره الطفولي "أبوكها!" بصوتٍ عالٍ، وكأن الدنيا بأكملها ملعبٌ له.

عاشوا أياماً لا تُنسى… لحظاتٍ خاطفة من الدفء في صقيع الغربة. جلساتٌ على علب السردين والشاي الأسود، ورحلاتٌ طويلة على الدراجات الهوائية، وضحكاتٌ تحت ضوء مصباحٍ خافت، وأحاديثٌ طويلة عن الأوطان، عن الأهل، عن الحرب والضياع، عن: "شو بعدين؟"

يتذكّر أحدهم ليلةً شتوية طويلة انقطعت فيها الكهرباء عن المخيم، واجتمعوا حول شمعة خافتة، يتبادلون القصص التي تنتهي كلها بالبكاء. بعضهم فقد أمه تحت القصف، وآخر لا يعرف إن كان والده حيّاً أم دُفن في حفرة جماعية. كانت الأحزان أكبر من أعمارهم، لكنهم شاركوا بعضها، كي لا تمزقهم وحدها.

كانوا يكتبون أسماء أحبّتهم على جدران الغرف المؤقتة، خوفاً من أن تنساهم الذاكرة.
وكانوا يضحكون من وجعهم، لأن البكاء صار ترفاً لا يجدونه دائماً، لكن كما هي العادة، لم تدم تلك اللحظات. فرّقهم الشتات. أحدهم مضى إلى مدينةٍ بعيدة، وهناك اهتمّ بالرسم، وجعل من السيارات عالماً يهرب إليه من كل شيء. أما الآخر، فوجد خلاصه في الكتابة، ثم صار مدمناً على الحروف، يسكب أوجاعه فوق الورق، يحاول أن يعيد صياغة قلبه من بقايا الذكريات.

مرت أعوامٌ طويلة، تغيّرت فيها الوجوه واللهجات، واختفت نكهات الطعام الفقير الذي اعتادوه. لم تَعُد شوارع المدن الأوروبية تُشبه شيئاً مما عرفوه، وبات الحنين عبئاً ثقيلاً لا يُطاق.

ومضت السنين، سنةً بعد سنة. لم يسأل أحدٌ عن الآخر، لا عمداً، بل لأن الحياة تركض، والناس تمضي، والغربة تبتلعك قطعةً قطعة. طال الغياب، والبعيد عن العين… يبهت في القلب شيئاً فشيئاً، حتى يصير ذكرى باهتة، ثم طيفاً، ثم لا شيء.

كبر "علاوي"، ولا أحد يعرف إن كان ما زال يردّد "أبوكها"، أم نسيها… أم فقد صوته في زحمة المنافي.

والرجلان؟ لم يلتقيا مجدداً.
ربما التقيا في حلمٍ عابر، أو لمح أحدُهما وجه الآخر في صورةٍ قديمة، التُقِطت بعدسة هاتفٍ رخيصٍ، على زاوية مائدةٍ خشبيةٍ قديمةٍ، لكن لا شيء كان حقيقياً بعد ذلك.

رحل الوقت، وتكاد تنتهي الأعمار، ولم تُكتب لهما لحظةُ لقاءٍ أخير… لا عناق، لا دموع، لا: "تتذكّر يوم كنّا؟"

وكأنّ كل شيء كان حلماً… حلماً في مخيم، شمالَ غربِ ألمانيا، في زاوية منسيّة من هذا العالم ، لكن في ليلةٍ باردة، بعد سنواتٍ من الصمت، جلس الكاتب أمام ورقةٍ بيضاء، وبدأ يكتب القصة.
لم يكن متأكداً لماذا، ولا لمن، لكنه شعر أنه يجب أن يكتبها. كتب عن الرسم، عن السيارات، عن "أبوكها"، عن ذلك المخيم، عن الصديق الذي لم يره منذ سنوات.

وحين أنهى السطر الأخير، رفع عينيه نحو النافذة. لم يكن في الخارج شيءٌ سوى الظلام… لكن داخله، كان هناك نورٌ صغير، خافت، يشبه ابتسامةً قديمة على وجهٍ منسي.

ربما لن يلتقيا أبداً.
وربما هذا هو اللقاء الوحيد الممكن: على الورق… في الحكاية.
حيث لا يموت أحد، ولا يضيع شيء، ولا يغيب صديق.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيسى أَحوش ودار بيسان: صوتُ فلسطين الذي لا يمُوتُ
- من فِيتنام إلى غزّة: أَمريكا في مَسَارِ الهزائمِ والخيباتِ
- الاستسلامُ ليس خياراً: دُروسٌ من بيروت إلى غزَّة
- الدكتور صالح الشيباني... من تُرابِ فلسطين تَكَوَّنَت رُوحُهُ
- أَحمد الشُّقيري... رجُلٌ صَنَعَ الثَّورة فخذلتهُ!
- نوح الفلسطيني: بين طوفانِ الخذلانِ وسفينةِ الصُّمودِ
- فرحان السعدي: الشَّيخ الذي صامَ عن الحياةِ وارتوى بالمجدِ
- اليمن: أَصلُ العروبة وَشُمُوخُ الجبالِ
- نافع محمد: من القامشلي إِلى فلسطين.. حكايةُ عشقٍ لا تنتهِي!
- الشَّهِيدُ مرعي الحسين: نَسرٌ حَلَّقَ في سماءِ المجدِ ولم يه ...
- حينَ يغيبُ الكبارُ... وداعاً أَبا سعيد!
- إبراهيم أبو خليل: عاشقُ الوطنِ الذي رَوَى الأرضَ بِدَمِهِ
- فاطمة فاعور.. أُمُّ الشهداء التي ودَّعتهُم ثُمَّ لحِقَت بِهِ ...
- عمر المحمود (أبو مروان): طائرُ الحُزنِ والحنينِ للوطنِ
- نمر كلّم وحَمَر.. قصَّةُ شهيدٍ لم يُخذِّلهُ كلبُهُ!
- وصيّةُ ندى لافي كلّم: حينَ تكتُبُ الأرضُ رسالتَها الأخيرةَ
- ندى لافي كلَّم (أم علي)... وصيَّةُ الأَرض التي لا تموتُ
- قمة العرب 7353: فلسطين على الرَّفِّ والتَّطبيع على الطَّاولة
- شربل فارس.. حين يُزهر البؤس كبرياءً
- أبو عرب: صوتُ الأرضِ وحارسُ الذاكرة الفلسطينية


المزيد.....




- جامعة الموصل تحتفل بعيد تأسيسها الـ58 والفرقة الوطنية للفنون ...
- لقطات توثق لحظة وصول الفنان دريد لحام إلى مطار دمشق وسط جدل ...
- -حرب إسرائيل على المعالم الأثرية- محاولة لإبادة هوية غزة الث ...
- سحب فيلم بطلته مجندة إسرائيلية من دور السينما الكويتية
- نجوم مصريون يوجهون رسائل للمستشار تركي آل الشيخ بعد إحصائية ...
- الوراقة المغربية وصناعة المخطوط.. من أسرار النساخ إلى تقنيات ...
- لبنان يحظر عرض «سنو وايت» في دور السينما بسبب مشاركة ممثلة إ ...
- فيديو.. -انتحاري- يقتحم المسرح خلال غناء سيرين عبد النور
- بين الأدب والسياسة.. ماريو فارغاس يوسا آخر أدباء أميركا اللا ...
- -هوماي- ظاهرة موسيقية تعيد إحياء التراث الباشكيري على الخريط ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كلّم - حينَ تفرَّقَ الأَصحابُ وضاعَتِ الخُطى: حِكايةٌ من مُخيَّمٍ في الشَّمالِ