نجيب علي العطّار
طالب جامعي
(Najib Ali Al Attar)
الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 02:49
المحور:
الادب والفن
إنَّها الذِّكرى الخمسون للحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة. على عادتِنا مع الأرقام، سيكونُ للذِّكرى في هذا العامِ طعمٌ آخر. خمسون تعني نصفَ قرنٍ؛ تَعني يوبيلًا ذهبيًّا بعبارةٍ مُفَذْلِكة. يقولُ مَنْ عاشَ الحرب، ومَنْ لم يعِشْها أيضًا، عبارةً صارتْ لازمةً ليسَ لذِكْرِ الحرب وحسب، بل لذِكْرِ ما يَمضي من وجودِنا في هذه الأرض. «تِنْذِكِر وما تِنعاد». عبارةٌ مُبتذلةٌ لكثرةِ استعمالِها، وسُرياليةٌ. سرياليَّةٌ إلى أقصى حدودِ السُّرياليَّةِ! كأنْ يزورَ أحدُنا أحدَنا في المُستشفى ويسألَه: «كيفَ حالُكَ؟»، ليُجيبَه: «أنا في أحسَنِ حال»!
إنَّ الحُكمَ على الحربِ بأنَّها ذكرى يُرجى لها، أو لنا بالأحرى، ألَّا تُعادَ؛ إنَّ حُكمًا كهذا يَفتَرِضُ أنَّ الحربَ قدِ انتهتْ. لكن مَن يجرؤُ على افتراضٍ كهذا؟! صحيحٌ، نحنُ لا نقتلُ بعضنا، إلى تاريخ كتابة هذا النَّصِّ على الأقلِّ. لا نذبحُ بعضنا على الهويَّة؛ لا نَغتالُ ولا نُغتالُ إلَّا قليلًا، والقليلُ في عُرْفِ المُتشغِلينَ بالحروب ليسَ حربًا. صحيحٌ أنَّ الدَّمَ، دمَنا، لم يزلْ يجري في شرايينِنا؛ لم يُسكَبْ على الأرض العطشى للدِّماءِ. لكنَّنا لم نخرجْ منَ الحربِ بعدُ. أو بلى، لقد خرجنا منها، لكنَّها لم تخرُجْ منَّا. لم نزلْ نكرَهُ بعضنا على الهويَّة. لم نَزَلْ نَغتالُ أنفُسَنا ونُغتالُ في ذواتِنا المُتورِّمةِ من الهزائم؛ في كرامةِ أنَّنا ننتمي إلى آلِ آدم؛ في أحلامِنا المُتكسِّرَةِ كموجةٍ على أقدامِ طاغيةٍ ملَّ منَ القَتلِ فقَصَدَ البحرَ يمشي على شاطئِه طالبًا بعضًا مِنَ الاتِّساعِ الذي لا توفِّرُه سجونُنا المُكتظَّةُ بالحالِمين.
ذهبتُ بالحديث إلى غير ما أردتُ له. كالحروب الأهليَّة تمامًا، معَ فارقٍ ضروريٍّ مؤدَّاهُ أنِّي أستطيعُ أنْ أُغيِّرَ مجرى الحربِ كما أشاءُ، لا لشيءٍ سوى أنِّي كاتبُ هذا النَّصِّ. وللمرَّةِ الأولى، ربَّما، سأكتبُ بالأصالةِ عنِّي وبالوكالةِ عمَّنْ يرضى وكالتي من أبناءِ جيلي؛ نحنُ المولودينَ في بداية الألفيَّةِ الثَّالثةِ من عُمرِ المسيحِ على هذه الأرض.
يُشارُ إلى «مواليد الـ 2000» ببنانِ السُّخريةِ في بعضِ الأحيان. بخاصَّةٍ ممَّن سبقَ وجودُه وجودَنا ببضعِ سنين. أكتبُ لا لشيءٍ سوى الدِّفاعِ عن حقِّنا بأنْ يُقالَ عنَّا أنَّنا أبناءُ الحربِ أيضًا. أستغفرُ نفسي وأبناءَ جيلي، بل نحنُ أبناءُ الحُروب. نحنُ أحفادُ الحربِ الأهليَّةِ وأبناءُ الحروبِ في الشَّرقِ والغربِ العربيَّيْن اللَّعينَيْن. في المُحصِّلةِ؛ نحنُ كبِرْنا في المأساة، كأنَّ مأساةَ الإنسانِ الوجوديَّةِ لا تكفينا!
فلْنأخُذْ عيِّنةً من أبناءِ جيلي، ولْأَكُنْ أنا هذه العيِّنةَ حتَّى لا يكونَ عليَّ حرجٌ في ما أكتبُ. ولدتُ في العام 2000، بعدَ قُرابةِ ثلاثةِ أشهرٍ من انسحاب «إسرائيل» من لُبنان. أستطيعُ أنْ أعودَ بخيالي إلى يومِ ولادتي، وأُراقبُ أحدَ الحمقى وهو يُحاوِلُ إضحاكَ الحاضرين بقولِه عنِّي: «عِرَفوا أنَّه سيُولدُ قريبًا فانسحبوا خوفًا من ولادته». سأنتقلُ مُباشرةً إلى العام التَّالي كي لا أتورَّطَ في صفعِ هذا الأحمق. في العام 2001، أي بعدَ عامٍ على ولادتي، انفجرَ العالَمُ بعدَ أحداث 11 أيلول. لا أذكرُ ذلك بالطَّبع. في العام 2005 بدأَ مُسلسلُ الاغتيالات في لُبنان. لا أذكرُ ذلكَ أيضًا، لكن في ذاكرتي العميقةِ صورٌ مُشوَّهةٌ عن توتُّرٍ ما كان يُصيبُ البيتَ عقبَ كُلِّ اغتيال. فمِنْ حُسنِ حظِّي، أو مِنْ سوئه، أنِّي ولدتُ في بيتٍ يُشكِّلُ الشَّأنُ العامُّ صحنًا يوميًّا على مائدته.
ثمَّ كانتِ الحربُ في تمُّوز منَ العامِ 2006. ويا لَها مِنْ حربٍ على ابنِ السَّنواتِ السِّتِّ هذا! لم أزلْ أذكرُ تفاصيلَها المُرعبة؛ صوتَ الطَّائرات؛ وقوفَنا في زوايا البيت؛ يومَ الإنزال في بعلبك؛ تجمُّعَ الكثير من أفرادِ العائلة؛ الضَّربةَ الأخيرةَ على مفرقِ قريتي حيثُ كُنتُ، في ما يُقالُ، «أستمتعُ بعُطلتي الصيفيَّة». لكنَّ أكثرَ شيءٍ يستقرُّ في ذاكرتي هو يومُ الإنزال الجويِّ على بعلبك. كان يومًا مَهولًا فعلًا. لم أكنْ مشغولًا بما يجري ولا بالمُستهدفِ بهذا الإنزال. إنَّما كُنتُ مشغولًا بـ «الجرَّافةِ» التي كانت مركونةً قُربَ منزلِنا. شاءَ القدرُ أن تتعطَّلَ هُناكَ قبلَ الحرب؛ وأن يتركَها صاحبُها هُناك؛ وأنْ تندلعَ الحرب؛ وأنْ أصرُخَ يومَ الإنزالِ بما معناه «سيقصفون الجرَّافة»!
بعدَها بعامٍ وقعت معاركُ نهر البارد. لا أذكرُ منها سوى حادثةٍ واحدةٍ لا أعتقدُ أنَّها مُرتبطةً بها، لكنَّها وقعتْ حينَ كُنتُ أشتري ما يشتريه الأطفالُ بعُمرِ السَّابعةِ من الدُّكَّان. كان صاحبُ الدُّكَّان يُشاهدُ التِّلفازَ ويستمعُ إلى أخبار المعارك. دخلتْ عجوزٌ وطلبتْ منه نصفَ ربطةِ خُبزٍ. قالتْ بالحرف: «عطيني نص ربطة خبز بدِّي طعمي الولاد». طبعًا هي لا تُريدُ نصفَ ربطةٍ لكي تقتصدَ فلا تشتري إلَّا حاجتها، على طريقة الأوروبِّيين. كُلُّ ما في الأمر أنَّها لا تملكُ ثمنَ ربطةٍ كاملة! عرفتُ ذلكَ من جدالِها مع صاحب الدُّكَّان الذي لم أزل أحقدُ عليه لأنَّه لم يُعطِها ربطةً مجانًا، ولا نصفَ ربطةٍ بما تملكُ من نقودٍ. كانت هذه اللَّحظات بالنِّسبة لي حربًا من نوعٍ آخر.
فَلْيَعذُرْني القارئ إذا اعتقدَ أنَّ هذه الحادثة ستُشكِّلُ صدمةً لي وتُثيرُ صراعًا بيني وبين نفسي عن الخير والشَّرِّ في العالَم وعن وجود الله وما يتفرَّعُ عن ذلك. كنتُ ذا سبعِ سنينَ وحسب! لكنَّ حربي، في الواقع، كانتْ بيني وبين صاحب الدُّكَّان، وقد حدَّدتُ هدفي بوضوحٍ: قطعةً مجَّانيةً من الحلوى التي أُحبُّها! بلى، كنتُ أخوضُ حربًا حقيقيَّةً؛ أُريدُ أن آخذَ تلكَ القطعةَ دون أن أدفعَ ثمنَها؛ أريدُ أن أسرقَها! أليسَ هذا جوهرُ الحرب؟!
على أيِّ حال، لستُ أذكرُ إذا كانتْ تلكَ هي الجولةَ التي هُزمتُ فيها حين كشفَني صاحبُ الدُّكَّان. ومَضتْ بيَ الأيَّامُ إلى العام 2010- 2011. انفجرَ العالَمُ العربيُّ من تونس. شاهدتُ كُلَّ شيءٍ على التِّلفاز؛ المُظاهرات، القمع، القتل، سقوط أنظمة، قتل القذافي، اندلاع الحرب في سوريا. كانتِ الحربُ في سوريا بدايةَ تشكُّلِ الوعي السِّياسيِّ لديَّ. ثمَّ بدأتْ في العام 2012 موجةُ التَّفجيرات في لبنان. لم أزل أذكرُ تفجيرَ الثَّاني من كانون الثَّاني عام 2014 في حارة حريك، إذ كنتُ في زيارةٍ قريبةٍ هناك.
في العام 2014، إذا لم تخُنِّي الذَّاكرة، كان أوَّلُ دخولي إلى عالم الإنترنت. أوَّلُ مقطعٍ على اليوتيوب شاهدتُه كان أغنيةً أحبُّها! بعدها صرتُ أشاهدُ الحربَ في سوريا بكُلِّ تفاصيلِها؛ بكُلِّ آلامِها؛ بكُلِّ قتلاها ومُعذَّبيها. إضافةً إلى حروب غزَّة؛ ليبيا؛ أحداث مصر؛ العراق؛ لبنان؛ السُّودان ثمَّ أوكرانيا. وقد فشلتُ في اعتيادِ الحرب بقدرِ ما كانَتِ الحربَ أمرًا مُعتادًا، أو عاديًّا، في هذا الشَّرقِ اللَّعين. دخلتُ عالَمَ الإنترنت لأستمع إلى أغنيةٍ فلم أجد سوى أغاني الحرب؛ تلكَ التي تُكتبُ بالدَّمِ وتُغنَّى بصرخات المُعذَّبين!
واليومَ! شهدتُ المَقاتِلَ التي نزلتْ بنا في غزَّة ولُبنان؛ ثمَّ مذابحَ السَّاحل السُّوري. نجوتُ من الحرب مع من نجا. نجونا النَّجاةَ التي لا تعني سوى أنَّنا لم نُقتَلْ، أو بالأحرى لم نُقتَلْ بعدُ. فالحربُ لم تنتهِ إلى اليوم. وإذا كُتبتْ لنا النَّجاةُ نفسُها فلا أعتقدُ أنِّي سأكونُ ممَّن سيتذكَّرُ هذه الحربَ، حربَ المقاتِلِ، كأنَّها حدثَتْ منذُ زمنٍ. حتَّى لو مضى عليها سنين كثيرةٌ، أعتقدُ أنِّي سأبقى أذكرُها كأنَّها حدثتْ بالأمس!
بطبيعةِ الحال، لم أكنْ أنا محورَ الأحداث كما أرادَ ذاكَ الأحمقُ الذي لم أصفعْه أعلاه. لا أنا كفردٍ، ولا أنا كمجتمعٍ أيضًا. نحنُ لم يَكُنْ بمَقدورِنا سوى أنْ نكونَ ضحايا هذه الحروب! وُلِدْنا ضحايا، أبناءَ ضحايا، أحفادَ ضحايا!
أسمعُ من كبارِ السِّنِّ قصصًا كانوا يؤرِّخونَ لها بالحرب، الحربَ الأهليَّة التي نحنُ في ذكراها. يقولون مثلًا: حدث ذلكَ قبلَ الحرب، أو في الحرب، أو بعد الحرب. بحسبِ الحدث المقصود طبعًا. واليوم، صارَتْ لهم ولنا حربٌ جديدةٌ نؤرِّخُ للأحداث بها. الأمرُ باعثٌ على الحزنِ؟ بلى، إنَّه شعورٌ قاتِلٌ أن يكونَ لكُلِّ جيلٍ حربٌ ومقتلةٌ يؤرِّخُ لحياته اليوميَّة بها. يا لَبؤسِنا؛ الحربُ روزنامتُنا الوحيدة!
من جهتي، سأُقدِّمُ خدمةً كبيرةً لأولادي. لن آتي بهم إلى هذا العالَم. ليس إلى الشَّرقِ وحسب، بل إلى الدُّنيا كُلِّها. فلْيعيشوا بسلامٍ هناك؛ في عالَمِ الاحتمالات الجميل. وعلى سبيل الصِّدقِ، فإنَّ قراري هذا ليس وليدَ يأسي من قابلية العالَم لأنْ نعيش فيه كما نُريد. هو نهايةُ قصَّةٍ أُخرى، تُشبه الحرب في بضعِ حروف. وإلَّا، لما كُنتُ لأمنعَ أحدًا «حقَّه» في أنْ تكونَ له حربٌ ومقتلةٌ يؤرِّخُ لحياتِه اليوميَّة بها؛ هُ،ا، في هذا الشَّرقِ.. اللَّعين.
مرَّةً أُخرى؛ يا لَبؤسِنا.
مرَّةً أخيرةً، في هذا النَّصِّ؛ يا لَبؤسِنا!
#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)
Najib_Ali_Al_Attar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟