أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - ليو تولستوي دروس في الأخلاق بطريقة فوضوية















المزيد.....

ليو تولستوي دروس في الأخلاق بطريقة فوضوية


نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)


الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 18:46
المحور: الادب والفن
    


من الروايات المخيفة التي ألَّفها الكاتب الإنجليزي الساخر "أوسكار وايلد" Oscar Wilde (1858-1900) رواية "لوحة دوريان جراي" The Picture of Dorain Gray التي يحكي فيها قصة حياة شاب كرَّس نفسه للحياة الهيدونية أو حياة الانغماس في حياة اللهو والملذَأت، وساعده على ذلك تمتعه بشباب دائم، في حين أن التقدُّم في العمر والهِرَم كان يصيب صورته التي أخفاها بعيدًا عن الجميع. حاول "أوسكار وايلد" في تلك الرواية ذات الأحداث المخيفة أن يغوص في خفايا النفس البشرية من خلال منظور اجتماعي وعاشت روايته لتكون أسطورة للأدب المخيف دون أن يحاول أحدهم التطرُّق للمعاني العميقة التي تحملها.
على الجانب الآخر، نجد أن الكاتب الروسي "ليو تولستوي" Leo Tolstoy (1828-1910) الذي حاول في مؤلَّفاته أن يجيب على التساؤلات التي تطرأ على ذهن الإنسان فيما يمر به من مشاعر وأحداث. فلقد كان يسجِّل ما يدور في عصره من أحداث وتطوُّر، لكنه في نفس الوقت كان يستهدف إصلاح المجتمع من منظور إنساني، على عكس "ديستويفسكي" الذي استهدف الجانب النفسي. وفي طروحاته الروائية التي سردت تفاصيل التاريخ البشرى - أو كما يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي "جون فرانسوا ليوتارد" Jean-Francois Lyotard (1924-1998) "السرديات الصغرى" – اجتهد "تولستوي" في أن يجد إجابة ناجعة لما يؤرِّق الإنسان من تساؤلات تجعله غير قادرًا على إصلاح ذاته بغية الوصول السلام النفسي، وبالتالي إصلاح المجتمع. لقد أصبح في ذلك على نقيض المؤرخين المهتمين ب"السرديات الكبري" ذوي النظرة الأحادية للأحداث، الذي لطالما كرر واصفًا إيَّاهم: "المؤرِّخين كشخص أصم ينخرط في الإجابة على أسئلة لم يوجهها له أحد."
لقد انحاز "تولستوي" للإنسان وللمشاعر في صورتها الأولى دون أن يتم تشويهها بأي سلبيات، واعتقد أن ذلك هو السبيل لإصلاح المجتمع، ومن ثمَّ، حرص أن يكون من السهل على كل طبقات المجتمع فِهم انتاجه الفكري من روايات وقصص قصيرة ومقالات ، وألَّا يركِّز في تناوله على طبقة واحدة؛ ولهذا، تسللت رواياته إلى تناوُل وقائع في حياة القصور والطبقات الارستقراطية وكذلك حياة الفقراء والفلاحين والمهمشين ومحدثي النعمة، وكذلك انتقلت لحياة الجيش والمعارك. فلقد كان شديد الإيمان أن "المؤلَّفات العظيمة تكتسب عظمتها فقط حينما تكون متاحة ومفهومة من قبل الجميع."
نشأ الكونت "ليف نيكولايفيتش تولتستوي" ابن الطبقة الارستقراطية في حياة من الثراء الذي لم يعكِّر صفوه سوى حياة من اليُتم بدأت بفقدان والديه وأقاربه واحدًا تلو الآخر منذ الطفولة، فتلقَّف تربيته هو وأشقَّاءه الأقارب إلى أن انتهى بهم الأمر للعيش مع إحدى القريبات.
لقد انغمس "تولستوي" في حياة من اللهو العارم في مقتبل حياته على شاكلة "دوريان جراي"، وعلى عكس "أوسكار وايلد" الذي لم يستطع الخروج من تلك الحياة إلَّا بعد سجنه وأخيرًا الموت قهرًا، نبذ "تولستوي" حياة اللهو، ولم ينجيه من مصير "دوريان جراي" سوى التطوع بالجيش، الذي أفضى به إلى الاشترك في حرب القرم عام 1856، وبعدها جال في أنحاء أوروبا، إلى أن آثر الاستقرار حينما تزوَّج من فتاة في الثامنة عشرة من عمرها. وفي تلك الفترة، شرع في الكتابة؛ إلَّا أن لقاءه بالكاتب "فيكتور هوجو" في فرنسا شجعه على كتابة الرواية الطويلة، وأولى رواياته الطويلة كانت "الحرب والسلام"، وتوالت بعدها الروايات التي خلَّدها التاريخ مثل "أنا كارنينا" و"سكتشات سفاستوبول" وروايته القصيرة "موت إيفان ليش".
لقد آثر "تولستوي" الانحياز للفكر والتجديد في أعماله التي جعلت منه عالم نفس اجتماعي، وإن أفضى ذلك به إلى الدخول في معترك الفكر الفوضوي، وأخيرًا التنازل عن كل ثروته للفقراء والفلاحين الذي بنى لهم المدارس وصار معلِّمًا لهم، ولم يبالي بالمظاهر عندما عاش بين الفقراء والفلاحين وكسا جسده بنفس ملابسهم، بل وكان يصنع أحذيته بنفسه، مما سبب له مشكلات اجتماعية جمَّة. لكن ذلك لم يمنع من ترشيحه لجائزة نوبل للأدب من عام 1902-1906، وجائزة نوبل للسلام في أعوام 1901، 1902، 1909. وبالرغم من أنه لم يحصل على أي منهم، لكن التاريخ يخلِّد اسمه بأنه واحدًا من أعظم الكتَّاب وأكثرهم تأثيرًا على مرّ العصور.
لقد علم "تولستوي" أن المجتمع هو مصدر سعادة الفرد وكذلك شقاءه؛ فبالرغم من ميل الفرد للانتماء للجماعة، لكن ذلك لا يمنع من خوضه للمعارك والمشاحنات النفسية والجسدية مع الآخرين بما في ذلك أفراد عائلته المقرَّبين. بالنسبة له، ذلك لا يعني أن هناك فرد دومًا على حق في حين أن الآخرين يجانبهم الصواب. روايات "تولستوي" توضِّح أن الإنسان خطَّاء، ولبلوغ أعظم درجات الرَّاحة النفسية يجب الاعتراف أمام أنفسنا أنه لا يوجد شيء كامل. وخير مثال على ذلك، رواية "أنا كارنينا" التي تناقش قضية إمرأة لم تستطع التعايش مع زوجها المتحجِّر المشاعر؛ لأنها كانت نابضة بالحيوية وترى أنها تستحق حياة أفضل. ولذلك، وقعت في غرام ضابط شاب يضاهيها في الوسامة الشديدة، ويماريها في الحيوية وحب الحياة. سعيًا وراء رغباتها الهيدونية التي سوف تمنحها بالملذات التي حُرمَت منها طوال زيجتها، تهجر زوجها وتهرب مع الضابط الشاب في تحدِّي واضح للمجتمع والأعراف، وتحمَّلت موقف المجتمع السَّاخط عليها؛ لأنها حَلُمت بحياة من السعادة المكتملة والروعة التي لا تشوبها شائبة. لكنها بعد فترة وجيزة تصطدم بالواقع الذي لا يعترف بالكمال. ولكي تحتفظ بتلك الصورة الذهنية، تصبح غيورة وشديدة الشك في حبيبها، حتى جسدها الرائع تجرَّدت منه بعد أن تصاب في قدمها. وعلى هذا، تنقلب حياتها المثالية إلى واقع مقيت يجعلها تكره حتى ذاتها. الدرس الأخلاقي الذي رغب "تولستوي" تلقينه للقرَّاء من خلال تلك الرواية هو أن السعادة الحقيقية لا توجد في الانغماس في الملذَّات، بل بالقيام بالواجبات التي من المفروض أن نضلع بها تجاه الآخرين وخاصة تجاه أفراد العائلة والشريك.
ومن الدروس الأخرى المستفادة من رواية "أنا كارنينا" وكذلك من أعماله الأخرى "التسامح والغفران" اللذان كما يعتقد وسيلة ناجعة للقضاء على الأعداء أو من يؤذي الآخرين نفسيًا ؛ فعندما آبت "أنا كارنينا" لزوجها نادمة بعد أن تركها حبيبها، وكانت حينها قد أنجبت منه طفلة، أدهشها الزوج، التي لطالما اعتبرته متحجرًا، بأنه صفح عنها، بل ووافق على أن يربي الطفلة كابنة له. رد فعل الزوج قتلها نفسيًا وجعلها تعترف بخطأها، فلو كان طردها أو حتى أهانها لكانت شعرت بالانتصار؛ لأنها أثبتت وجخة نظرها فيه أنه كان زوج سيء ويستحق أن تتركه، لكن تسامحه جعلها تعترف أنها كانت المُخطئة ولا تستحق أي رحمة أو شفقة منه. وعلى هذا، فإن انتحار "أنا كارنينا" سببه إدراك أنها لم تقدِّر ما كانت تنعم به من هناء وراحة.
كان "تولستوي" طوال مسيرة حياته لا يركض سوى خلف السعادة، وكان يحاول في جميع أعماله أن يؤكِّد على ذلك. فلقد اعتقد أن الحياة مجرَّد حلم، والموت هو الاستيقاظ من ذاك الحلم، ولذلك كان يكرر النصح أنه يجب أن نستغرق في نومنا حتى نبلغ نهاية الحلم، أي أنه لا يحب أن نستيقظ قبل استكماله، والَّا نقاومه لكيلا يتحوَّل إلى كابوس. لقد أصبح العطاء بالنسبة ل"تولستوي" هو ذاك الانغماس الهيدوني الإيجابي في ملذَّات الحياة الذي يمنح الشعور بالسعادة العارمة، وحاول في أعماله الأدبية أن يلقِّن جمهور القرَّاء نفس الدرس حتى يوقنوا أن الفرد هو من يصنع سعادته بنفسه، أو كما يقول: "إذا أردت أن تصبح سعيدًا، كن سعيدًا".



#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)       Naeema_Abdelgawad#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا نعت إيميل سيوران نفسه قائلًا: -أنا مهرِّج-
- عندما ينزف الحجر بالأساطير: إبراهيم الكوني
- جميع فنون الحرب وقواعد القوَّة في عمل واحد: ألكسندر دوما
- -بوشكين- مؤسس الأدب الروسي وزعيم الحرِّية
- ميجل دي ثربانتس والسعي للجنون لمزيد من السعادة
- عدم حتمية القانون وقنبلة العقاب الموقوتة: بنتهام وبيرجس
- عندما تحدَّث -سبينوزا- و-ستيندال- عن ممارسة الإرادة الحرَّة
- إذا أردت تعريفًا للجيل الضائع، إسأل ديلمور شوارتز وصناع المح ...
- القوة والمعرفة ما بين فوكو والبحتري وتأثير السلطة الحيوية
- حرب الأسياد والعبيد وفلسفة الحقّ: هيجل
- -دوستويفسكي- الأديب الذي يحسد الأدباء هزائمه
- الكاتب الذي ظلمه عصره وكرَّمه المستقبل: -جول فيرن-
- رواية -وشم-والنقد الوجودي للمجتمع
- سحرية الواقع حلم مرعب: ستيفن كينج
- حلقات التاريخ ما بين روسو والذكاء الاصطناعي
- روسو وفلوبير بين السيادة على الأفكار وعبودية الشعور
- هروب فرانسواز ساجان من سجن النُّخبة
- عندما خرج ويلز من بلد العميان
- هكذا تحدَّث زوربا: حُرِّيات كازانتزاكيس
- الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي


المزيد.....




- تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد -خروج الثورة من المساجد-، ماذا ...
- تحقيق جديد لواشنطن بوست ينسف الرواية الإسرائيلية عن مذبحة مس ...
- -فيلم ماينكرافت- إيرادات قياسية وفانتازيا صاخبة وعمل مخيب لل ...
- هكذا قاد حلم الطفولة فاطمة الرميحي إلى نهضة السينما القطرية ...
- ستوكهولم: مشاركة حاشدة في فعاليات مهرجان الفيلم الفلسطيني لل ...
- بعد منعه من دور العرض في السينما .. ما هي حقيقة نزول فيلم اس ...
- هل تخاف السلطة من المسرح؟ كينيا على وقع احتجاجات طلابية
- تتويج أحمد حلمي بجائزة الإنجاز في مهرجان هوليود للفيلم العرب ...
- فيلم -إسكندر- لم يعوض غياب سلمان خان السينمائي
- خسر ابنه مجد مرتين.. مشهد تمثيلي يكشف -ألم- فنان سوري


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - ليو تولستوي دروس في الأخلاق بطريقة فوضوية