وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 04:56
المحور:
الادب والفن
في 22 نوفمبر 1916، توفي جاك لندن، لكن شبحه الهائل ما يزال يحوم فوق الأدب، حاضرا في كل مكان، مصدرا عالميا لمسارات الكتابة، من غوركي إلى همنغواي، ومن آرتو باسيلينا إلى جيم هاريسون، وآلاف آخرين.
تشير كل الدراسات التي تناولت أعمال جاك لندن إلى ما يمكنني أن أعبر عنه بالتالي: هناك "اثنان" من جاك لندن. جاك لندن "المغامر"، وجاك لندن "الاشتراكي". أرى أن هذه الدراسات ليست دقيقة -حتى لا أقول إنها خاطئة- فيما ذهبت إليه. ولإثبات صواب قناعتي في هذا الباب أضع بين أيديكم قراءتي الخاصة:
جاك لندن "الأول" المرتبط بالسنين الأولى من مراهقتي: ملتهم المساحات الجليدية اللانهائية، بكلابه الشرسة، ورجاله القساة المنعزلين، ورحلاته التي لا تنتهي في زلاجات محملة بجلود الأيائل، وعواصفه الثلجية القاتلة. جاك لندن، المغامر، مراسل من عالم قاسٍ وإنساني للغاية، جليدي ودافئ. كان باك، البطل الحقيقي الوحيد في "نداء البرية"، أول بطل خيالي في مسارات القراءة الخاصة بي، قبل دارتانيان، وجان فالجان، وإيفانهو. بطلي الأول، هو كلب! ومن فرط تأثري به عشقت الكلاب، واقتنيت كلبا. وعند قراءتي قصة "إشعال النار"، كشفت لي عن أصل هذا الانبهار بكلاب جاك لندن: يموت البطل البشري من البرد في هذه القصة الرائعة لأنه لم يدرك تماما شراسة الطبيعة. بخلاف الكلب. لأن كلاب جاك لندن لديها تصور صحيح عن الطبيعة. عندما كنت مراهقا، كنت أحب الأبطال الخارقين حتى لو كانوا كلابا: فمثلما أن هناك سوبرمان، لا ضير أن يكون هناك "سوبر كلب" Superdog.
ثم يأتي جاك لندن "الثاني": حيث يخوض الكاتب صراعات اجتماعية بأفكاره الاشتراكية القريبة من الأطروحات الماركسية. أشهر رواياته في هذا الباب هي رواية "الكعب الحديدي"، وهي رواية نشرت عام 1908، عندما كان المؤلف في ذروة شهرته. إنها رواية من نوع "الخيال السياسي". كما هو الحال مع جول فيرن "السياسي"، يتخيل جاك لندن عالم المستقبل القريب: يتنبأ بحرب عالمية بين ألمانيا والولايات المتحدة، وثورة أكتوبر (في عام 1917، ولكن في شيكاغو)... وظهور نوع جديد من الديكتاتورية (دعوني أقول الفاشية)... على مدى القرون الثلاثة التالية. وكما هو الحال مع جول فيرن، فإن جاك لندن "نبوئي"، فقصصه الخيالية لا تبعد سوى مليمترات قليلة عن الحقائق التي ستصبح بعد بضع سنوات تاريخا.
هل هناك حقا اثنان من جاك لندن؟ تظهر الشكوك لدى القارئ المحترف واليقظ بمجرد اكتشافه الجزء "الملتزم" من عمل جاك لندن، وغالبا ما يحدث هذا في نقطة متقدمة جدا في مسارات القراءة. اليوم، أصبح الشك بالنسبة لي يقينا: كتابات جاك لندن، واضحة، سلسة، منحوتة بشكل لا يصدق، هي نفسها، من أول أعماله (ابن الذئب، 1900) إلى آخرها (جيري، كلب الجزر، 1917). كتابة مصنوعة من الوضوح مع طريقة فريدة من نوعها في صياغة الكلمات، وتكرارها. إن شخصياته البشرية كلها تشبه بعضها البعض: من الجبناء الأكثر دناءة إلى أنبل القلوب، فإن سادة الكلاب (مالِكُو الكلاب) يكررون عظمة ودناءة سادة البشر. أتذكر مشهدا من بداية "نداء البرية". يقول السيد الأول للكلب باك بعد أن يضربه بالهراوة: "حسنا، يا باك، يا صديقي، إليك ما أود قوله: أعتقد أننا نفهم بعضنا البعض. لقد عرفتَ مكانك للتو. سأحتفظ بمكاني. إذا كنتَ كلبا جيدا، فسينجح الأمر. إذا لعبتَ بشكل سيء، فهذه العصا ستعلمك الحكمة. فهمت، أليس كذلك؟".
من الممكن أن نستمتع بنقل هذا المشهد والكلام إلى قمع ثورة العمال في ذلك الوقت، دون تغيير كلمة واحدة.
إن عالمه الأخلاقي ثابت أيضا: تمجيد دائم للتضامن الجماعي، والشجاعة الفردية، ورفض الخضوع. ومن المثير للاهتمام بشكل خاص أن نلاحظ أن أحد أشهر عشاق جاك لندن كان مقاتلا ثوريا مشهورا: فعندما أصيب تشي جيفارا في عام 1958، في وسط سييرا مايسترا، وظن أنه سيموت، استند إلى شجرة حتى لا يموت مستلقيا. وفي وقت لاحق، في هافانا، أثناء سرده لهذه الحلقة من نضال مقاتلي كاسترو، قال للصحافي الذي أجرى معه المقابلة إنه قام بهذه الإشارة وهو يفكر في قصة "إشعال النار" لجاك لندن. هكذا يحلم بطل القصة بالموت: أن ينهض من أجل أن "يبقى واقفا". إنها إذن قصة "مغامرة"، "مغامرة شمالية" يفكر فيها تشي جيفارا في ساعة الموت، وليست مقطعا من رواية "اشتراكية" كتبها لندن.
عند قراءة القصة، نفهم بسرعة اِلتحام العالمين:
رجل وكلب. لا يمكنك السفر بمفردك في يوكون عند درجة حرارة أربعين درجة تحت الصفر. إنه صباح ثلجي أبيض، يحمل من الاستياء والقلق أكثر مما يحمله عمر كامل من حياة الإنسان. لكن الرجل هادئ. سينضم الليلة إلى الرجال في المنجم. ويكون له طعام ساخن ونار. والكلب ينتظر النار أيضا. يعلم الكلب أنه لا ينبغي السفر على الإطلاق في درجة حرارة أربعين تحت الصفر. في طقس كهذا تلتف الكلاب حول نفسها وتنتظر الأيام الأكثر اعتدالا، أو تتبع الرجل باعث النار. ولهذا السبب يدعم الكلب سيده ويتبعه في القصة: يتحمل ضرباته وكلماته الشبيهة بضربات السياط. لكن الرجل يواصل التقدم في الثلج، متجاهلا النار. يعتقد الإنسان أنه أقوى من الثلج، أقوى من البرد. يفهم الكلب أن هذا الرجل جاهل. لقد فهم أنه سيموت.
بدأت هذه القصة قصة للأطفال، ولكن بسبب عدم رضا جاك لندن عن الأسلوب، طورها وصنع منها قصة طويلة مأساوية. إن إشعال النار، عندما يخدر البرد الأصابع ويجمد الدم، هو عملية خطيرة. وفي نفس الوقت، إذا انطفأت النار، فإن البرد سوف يسيطر على جسد الإنسان بأكمله، ويحيط بأطرافه وقلبه ورأسه، ويجعله يشعر كما لو كان في معطف ضيق للغاية، ثم ينام إلى الأبد في الصحراء البيضاء الكبيرة.
"تشي جيفارا"، الذي كان يعتقد أنه يموت، انزلق في جلد الشخص الذي ارتكب الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه: المبالغة في تقدير نفسه وعدم إدراك ضخامة المهمة المخطط لها! تلتقط هذه الحكاية الدرس العظيم الذي تعلمه جاك لندن، وهو درس الإنسان في عالمنا، الذي حُكم عليه فيه بتجربة حدوده، بالتأكيد، ولكن أيضا أحلامه التي لا حدود لها.
لا يوجد سوى جاك لندن واحد، وهو كاتب الشجاعة والإخاء. قد يبدو هذا الأمر متناقضا مع ما تم إلصاقه به من "تشاؤم": تنتهي أغلب أعماله الاجتماعية العظيمة (ولكن أيضا بعض قصصه القصيرة الخاصة بالمغامرة) نهاية سيئة: يتم سحق العمال، وانتصار الديكتاتوريات، وموت الأبطال. يفشل الصيادون، ويختفون في الصحراء البيضاء الكبرى، وتمزق الكلاب بعضها البعض عند أول فرصة للحصول على قطعة من اللحم. لكن الضوء يغمر أعمال جاك لندن باستمرار. قد تكون حياة الإنسان والحيوان معركة شرسة دائمة، ولكنها معركة تقطعها ومضات من النور تسمى حب الآخرين، والشجاعة للعيش والقتال بلا هوادة، حتى ضد ما لا مفر منه.
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟