أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - كتاب : “حين أنجبت الريح طفلًا”















المزيد.....

كتاب : “حين أنجبت الريح طفلًا”


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


مقدمة الكتاب

في هذا العالم الذي نعيش فيه، تُكتب الكتب غالبًا لتروي ما حدث.
لكن هذا الكتاب كُتب ليروي ما لم يحدث.
ما تخلّى عنه الحظ، وغفل عنه القدر، ونسيه العقل وهو يحصي خطواته نحو ما يشبه الحياة.
هذا النص ليس قصة تقليدية.
بل هو همسة جاءت من جهة الريح، من حيث تولد الأفكار قبل أن تكتسب شكلاً،
ومن حيث تتكوّن الذاكرة… لا من التفاصيل، بل من الاحتمالات.
“حين أنجبت الريح طفلًا” هو رحلة داخل سؤال لم يُطرح.
هو محاولة لإعطاء ملامح لما هو بلا شكل، واسمٍ لما لم يُسمّ يومًا.
ستجد فيه مدنًا بُنيت من النسيان، أرشيفًا للضوء الذي لم يُرَ،
وأرواحًا تمشي فيك دون أن تدري أنك كنت أحدها في زمن ما.
لا تبحث فيه عن بداية، ولا تنتظر نهاية.
دع قلبك يقودك كما تقودك الأحلام حين لا تُمسك بخيوطها،
بل تسقط فيها… ثم تستيقظ وفيك شيء جديد، شيء لا اسم له،
لكنه لك.
فإلى هذا اللاشيء الذي يسكننا جميعًا… أهدي هذا الكتاب.



الفصل الأول: الريح الأولى

في فجرٍ لم يكن بعدُ فجرًا،
حين كان الزمن لا يعرف كيف يقف على قدميه،
انحنت الريح، لا تعبًا، بل رغبة.
وأطلقت من صُلبها نَفَسًا لم يُشبه شيئًا من قبل.
طفل…
لم يولد من رحم،
بل من سؤالٍ علق في حلق الغيم.
لم يبكِ.
بل تنفّس صوتًا يشبه ارتجاف الضوء عند أول تردّد.
وكان له جسد،
لكنّه شفاف كأنّه فكرةٌ خرجت من رأس حلمٍ، ثم ضاعت.
لا عيناه عينان،
بل نافذتان على ذاكرةٍ لا تخصّه.
يمشي، ولا يُلامس الأرض.
فالأرض تخاف أن تصدّق أنّها أول من يستقبله.
قالوا عنه كثيرًا،
لكن لا أحد ناداه باسمه،
لأن اسمه كان نَغمة،
لا تُقال، بل تُشمّ تحت جلد الروح.
كلما مرّ قرب إنسان،
توقّف الوقت لحظة.
ثم عاد… أبطأ، كأنّه يتأمّل نفسه.
هذا الطفل،
ذاكرةُ كل من لم يتذكّر.
ظلُّ كل من مرّ على الحياة دون أن يترك علامة.
هو الخطأ الجميل الذي رفض أن يُصحَّح.
هو القصيدة التي هربت من الورق لأنها لا تؤمن بالحبر.
ومنذ أن أنجبته الريح،
بدأت الأشياء تتصرّف بغرابة:
صارت الأشجار تميل نحو الأصوات لا نحو الضوء،
وصار الليل يطول في المدن التي نُسي فيها العناق،
والقلوب… بدأت تنسى كيف تنكسر،
لأنها بدأت تفهم أنّ الانكسار شكل آخر من أشكال الاكتمال.
هو ليس بشريًا.
ولا مَلَكًا.
ولا جنّيًا ضل الطريق.
هو احتمال.
هو ومضة.
هو نُقطة في جملة لم تُكتب بعد




الفصل الثاني: مدينة النسيان

حين تعب الطفل من المشي على الحواف،
انزلق…
لا سقطة، بل انسكاب.
وسقط في مكان لا قاع له،
بل يمتد كلما نسيتَ أنك تسقط.
هناك، في الأسفل الأعلى،
انبثقت مدينة لم يبنِها أحد.
نشأت كما تنشأ الفكرة في رأس شاعر نائم.
اسمها لا يُلفظ.
وحدهم من نُسوا يعرفونه،
ويتذكّرونه في الأحلام التي يستيقظون منها خائفين… ولا يدرون لماذا.
بيوتها؟
مبنية من خيبات لم تجد من يحتضنها.
نوافذها تُطلّ على مشاهد لم تُصوّر،
وشوارعها تلتفّ حول نفسها،
كأنها لا تعرف أين تبدأ… ولا تريد أن تنتهي.
وفي كل زاوية،
شاهد الطفل ظلًّا لشخصٍ… لا أحد.
أجساد تسير ببطء.
لا تبحث عن شيء،
بل تنفصل عن ذاكرةٍ تثقلها.
كأنهم يعيشون ليكونوا ماضياً لأحدٍ لم يولد بعد.
في الساحة الكبرى،
كان هناك تمثال ضخم من ضوء باهت.
كتب تحته:
“هنا يرقد من لم يُمنح فرصة ليكون.”
وسمع الطفل صوتًا لا يصدر من جهة،
يقول له:
“هذه المدينة، يا ذاكرة العابرين، لا تُبنى بالحجارة… بل بالنسيان.”
“كل من فقد شيئًا، ألقى به هنا دون أن يدري.”
“وهكذا تمدّدت، حتى أصبحت أكبر من الحنين.”
جلس الطفل تحت سماء لم تكن زرقاء،
بل بلون الصمت الذي يسبق البكاء.
وشعر للمرة الأولى أنه مخلوق من الغياب.
لم يشعر بالوحدة،
لأن كل شيء حوله كان هو…
أو كان يمكن أن يكونه.
في تلك الليلة،
حلم الطفل بأنه شجرة،
كل ورقة منها ذكرى،
وكل جذرٍ منها خيبة رفضت أن تموت.
واستيقظ…
ليجد المدينة قد زادت شارعًا جديدًا،
طوله نفس طول حلمه.



الفصل الثالث: أرشيف الضوء المنسي

في قلب مدينة النسيان،
تحت طبقاتٍ من الصمت والرماد والانتظار،
هناك باب…
لا يُفتح بالمفتاح،
بل بالتردّد.
حين همّ الطفل بعبوره،
تردّد…
فانفتح.
ودخل.
هناك، لم يكن المكان مكانًا.
كان شعورًا خامًا.
كأنك تمشي داخل ذاكرة لم تكتمل.
كأنك تسير بين ذرات حلمٍ قرر أن لا يتحقق… احترامًا للخيال.
رأى رفوفًا…
كل رفّ يحمل ضوءًا،
لكن ليس أي ضوء.
كان الضوء هنا هشًا، ناعمًا، كأنّه بقايا قرار لم يُتخذ.
أول رفّ…
ضوء أصفر خافت، ينبض كقلبٍ مكسور.
اقترب.
وسمع صوتًا:
“كان يمكن أن أقول لها أحبك… لكنني ابتلعت الكلمة.”
رفّ ثانٍ…
ضوء أزرق، يلمع ثم يخبو.
صوت آخر:
“كنت على وشك أن أسامح أبي، لكن الكبرياء انتصر.”
رفّ ثالث…
ضوء بلا لون.
همسٌ بلا كلمات.
لكن الطفل فهم.
كان ذلك النور ذاكرته هو…
عن كلّ ما لم يعرفه عن نفسه.
أرشيف الضوء المنسي لا ينسى.
هو المكان الوحيد الذي يحتفظ بما لم يُصنع.
هو مرآة خفية،
تعرض وجوهنا التي لم نرتدِها،
وأسماؤنا التي لم نُجرّب أن ننطقها.
في ركنٍ بعيد،
وجد قنينة زجاجية، بداخلها نغمة.
فتحها، فخرج منها صوت يقول:
“أنت… مجرد احتمال،
يتجوّل بين قلوب الناس بحثًا عن جسد.”
في تلك اللحظة،
لم يشعر الطفل بالضياع،
بل بشيء أعمق…
شعر أنّه جزء من كل الذين لم يكونوا،
وأنّ وجوده ليس كائنًا،
بل مُذكّرًا.
مُذكّرٌ بما كان يمكن أن يكون جميلاً…
لو أنّنا تجرّأنا أن نختاره



الفصل الرابع: المرآة التي تعكس الاحتمال

حين اقترب الطفل من المرآة،
لم يكن يراها مرآة.
كانت بابًا إلى شيء آخر…
شيء لا يُقال، بل يُحسّ.
كانت الغرفة التي يختفي فيها جميع الأجوبة التي لم تُسأل.
لا عَكْس…
فقط موجات من ضوء تلتف حوله،
تضيع في الهواء.
كلّما اقترب، كلما ابتعد.
“أنت هناك،
لكنّك لست هنا.”
قالت المرآة، بصوتٍ لا يُسمع،
بل يُحسّ في نهاية الظهر.
ثم، انعكست.
رآى وجهه،
لكنّه لم يكن وجهه.
كان وجهه، ولكنه غيره.
كان هو، لكنه ليس هو.
كل الاحتمالات التي لم يختبرها كانت هنالك.
رآها تتجسّد في خطوط وجهه،
في تعبيرات كانت حاضرة لو أخذ خطوة،
لكنها اختفت لأنها لم تُؤخذ.
كان جنديًا،
ثم فنانًا،
ثم عابرًا في الشوارع التي لا تحمل أسماء.
ثم مجنونًا، يكتب فوق جدران الليل.
ثم أخيرًا… رآى نفسه لا شيء.
لا جسد،
لا اسم،
لا صوت.
فقط شعورٌ كثقلٍ يجثم بين الحنجرة والصدر.
المرآة لم تكن انعكاسًا للواقع،
بل كانت نسخةً أخرى للعدم.
تحتفظ بكل الاحتمالات التي لم نجرؤ على أن نعيشها،
وترسّخ فينا فكرة واحدة:
“كل شيء قد يكون…
إن كنت مستعدًا أن تكونه.”
لكن الطفل لم يخف.
لأنّه لم يكن بحاجة إلى أن يكون،
لكنه كان بحاجة إلى أن يرى.
رآى ما كان يمكن أن يكون…
وما هو الآن،
صار أقلّ ثقلًا مما كان عليه قبل أن يدرك أنه لا شيء.
ثم، حين نظر في المرآة مرة أخرى،
رأى شيئًا جديدًا.
رأى الوقت،
يمرّ بلا أقدام،
يضحك كما يضحك العابرون،
وينسى كما ينسى الأحياء.
كان الوقت هو الصورة الأخيرة في المرآة،
صورة لا شكل لها،
لكنه شعر بها كأنها يده الممدودة إليه



الفصل الخامس: المرأة من زجاج

في تلك اللحظة،
أوقف الطفل أمامه امرأة…
لكنها لم تكن امرأة.
كانت فكرة امرأة.
كانت ظلًّا خفيفًا، يتراقص بين الضوء والظلام،
وإن شئت، هي مرآة تلتقط كل ما لا يستطيع أحد رؤيته.
وجهها كان كالسحب التي لا تمطر،
وعيونها،
مستنقع ضوءٍ يكاد أن ينعكس من داخلها،
لكن لا أحد يستطيع أن يغرق فيه.
قالت له:
“أنت هنا، وأنا هنا، لكننا لا نلتقي.”
شعرت كأنها لا تملك جسدًا،
أو ربما كانت تمتلكه، لكنه مكسور.
أطرافها من زجاج،
وحين حاول الطفل أن يلمس يدها،
رأى نفسه ينكسر داخل عينيها.
كانت المرأة من زجاج،
لا تتحمل لمسًا،
لا تطيق الحضور،
ولا تستطيع أن تكون أبدًا هي.
لم يكن للمرأة من زجاج ماضٍ.
أو ربما كان لها ماضٍ،
لكن ذلك الماضي كان محض تمزقات في الهواء،
أو مُفردات جُمعت في جملة لم تُكتب بعد.
كانت تمشي كما تمشي الحروف الضائعة.
لا صوت لها،
لكنها تركت خلفها أثرًا غير مرئي.
مثل الرياح التي لا تُسمع،
لكنها تترك الأرض مبللة.
قالت له:
“لو كنت أكثر قربًا، لكنت انفجرتُ.
أنا زجاج.
لكنني لا أرى نفسي فيك.”
ثم ابتسمت،
لكن ابتسامتها كانت شفافة،
تذوب في الضوء.
من تكون تلك المرأة؟
هل هي هو؟
أم أنها شيء آخر، شيء يتماهى مع كل شيء ويهرب من أن يُلمس؟
هل هي جزء من ذلك الحلم الضائع،
أو هي الاحتمال الذي لم يكن ليحدث أبدًا؟
أما الطفل،
فوقف أمامها كما يقف في منتصف ليلٍ طويل،
يبحث عن شيء لا يعرف كيف يراه،
ولا يعرف كيف يلامسه.
وكلما اقترب، ابتعدت.
لكنّه لم يخسر شيئًا.
لأنه تعلم أن هذه هي طبيعة كل شيء ليس حقيقيًا.
أنّه يظل أمامك،
دائمًا بعيدًا بما يكفي لتظل دائمًا تحلم به.





الفصل السادس: النبض الذي خلق العالم

كان النبض هو الصوت الأول،
ذلك الصوت الذي لم يكن يحتاج إلى أن يُسمع،
لأنه كان موجودًا قبل أن تولد الأذن،
قبل أن تكون الكلمة،
وقبل أن يكون الصمت.
في لحظةٍ ما،
حين انطفأت النجوم في السماء،
كان النبض هو الذي بدأ في خلق الشكل.
كان هو الذي قرر أن يكون.
وكأنّ الوجود بأسره قد تشكّل من رغبةٍ واحدة:
أن يتنفس، أن يتحرك،
أن يكون جزءًا من شيء أكبر،
وأن ينتمي إلى لحظة لا آخر لها.
عندما وقف الطفل في هذا الفضاء الموحش،
لم يكن يحس بالوقت كما يشعر به البشر.
لقد كان الوقت نفسه قد صار سائلًا،
يتنقل بين كلماته كما تتنقل المياه في مجرى غير مرئي.
قال له صوتٌ لا هو صوته ولا هو صوت غيره:
“لقد كنت هنا قبل أن تكون،
وكنت ستظل هنا بعد أن تختفي.”
ثم شعَرَ الطفل في لحظةٍ أن النبض أصبح له.
وأصبح هو النبض نفسه.
كما لو أن جسده قد حلّ مكان الزمن،
أصبح هو المكان الذي يبدأ فيه كل شيء،
ويختتم فيه كل شيء.
كان هو البداية والنهاية،
وما بينهما من أسئلة غير مجابة.
النبض الذي خلق العالم،
لم يكن خارجًا عنه،
بل كان داخله،
يملأه كما يملأ الهواء رئتيه.
وعندما أغمض الطفل عينيه،
رأى أمامه عالمًا لا أول له ولا آخر،
حيث تكون اللحظات نقاطًا تتلاقى وتنفصل في نفس الوقت،
حيث يكون الزمن مرآةً تقلب نفسها في كل لحظة.
ورأى،
كيف أن النبض ليس بداية للعالم،
بل هو الحالة المستمرة،
التي لا تتوقف ولا تنتهي،
حتى وإن كان كل شيء من حوله ساكنًا.
في هذا الفضاء،
في هذا الوقت،
في هذا النبض،
لم يكن هناك شيء غير محسوس.
كل شيء كان هنا،
لكن لا أحد يمكنه أن يمسكه.
كل شيء كان بداية،
لكن لا شيء وصل إلى النهاية.
فقط النبض،
الذي كان،
ويظل،
هو المستمر.


الفصل السابع: الاختفاء الأخير

في لحظة،
توقف كل شيء.
لم يكن ذلك توقفًا عن الحركة،
بل عن الوجود نفسه.
لم يكن هناك ما يمكن أن نسميه الآن “الوقت”،
ولا “المكان”.
كل شيء،
حتى الفكرة التي لم تُولد بعد،
اختفى.
لكنه لم يكن اختفاءً مفاجئًا.
كان الاختفاء شيئًا يشبه الرحيل الخفيف،
شبيهًا بما يحدث عندما تهمس الريح ثم تمضي بعيدًا.
لا ضجة، لا أثر…
فقط البقاء في الفراغ.
وقفت الذاكرة على حافة الهاوية.
لم تعد تعرف من هي.
أمسكت بيدها الكلمة الأخيرة التي قالتها،
لكنها ضاعت في ضوءٍ غير مرئي.
قالت:
“لقد كنت موجودًا،
لكن الآن لا أنتَ…
ولا أنا.”
لكن الطفل لم يستجب.
لم يكن هناك ما يُستجاب له.
كل شيء حوله كان يتفكك.
كانت الملامح تتلاشى كما يتلاشى الغيم في السماء.
لكن لم يكن هناك سماء.
كان هناك فقط شيء،
شيء كان موجودًا في لحظةٍ ما،
ثم قرر أن يكون غيره.
أين هو الآن؟
أين كان؟
هل كان في المدينة التي ابتلعها الزمن،
أم كان في الذاكرة التي انتهت قبل أن تبتدئ؟
كل هذه الأسئلة،
وكل هذه الأجوبة…
اختفت.
كان هناك فقط الفراغ،
والصمت الذي لا يترك حتى ذكرى لوجوده.
لكن في هذا الاختفاء،
في هذا الفراغ الذي يمحو كل شيء،
ظلّ شيء واحد…
ظلّ النبض.
نبض لا يتوقف،
لا يختفي.
نبض لا يتعلق بشيء،
لكنه هو كل شيء.
ثم،
انكسر الصمت،
وتلاشى الغياب.
رأى الطفل نفسه كما لم يرَها من قبل،
لكن ليس كجسد،
بل كـ فكرة تدور في مكانٍ خالٍ من المكان.
كانت تلك هي اللحظة الأخيرة.
لحظة لا زمن لها،
ولا أبعاد،
فقط شعور بأن كل شيء قد اختفى،
ثم أصبح الكل في لا شيء.





الفصل الثامن: الوجود كما لا يُدرك

لم يكن هناك أي حركة.
لا الريح كانت تحرك الأوراق،
ولا الضوء كان يرقص على سطح الماء.
كان كل شيء جامدًا في كينونته،
لكنَّ وجوده كان غير مُدرَك.
ظلّ الطفل يحدق في الفراغ،
كما لو أنه يبحث عن شيءٍ كان هنا منذ البداية،
لكن لا يمكنه الوصول إليه.
ما الذي كان يبحث عنه؟
أو هل كان هو من يُبحث عنه؟
الأشياء التي لا نراها هي التي تظل هناك،
كما كانت،
في صمتها الكثيف،
في وجودها الذي ليس له شكل،
ولا حدود،
ولا زمان.
ثم بدأ يتنفس.
وكل تنفس كان يُحسّ كأنه بداية جديدة،
لكن دون أن تكون هناك بداية.
كان الهواء يملأ صدره،
ويتركه خفيفًا كما لو أنه أطلق كل ما كان يثقله.
وفي تلك اللحظة،
شعر بشيء غريب،
بأن الوجود نفسه ليس سوى غياب،
وأن كل ما عاشه كان وهمًا في زمنٍ آخر،
حيث كان يختفي كلما اقترب منه.
التفاصيل التي احتفظ بها القلب،
الأماكن التي رآها،
الأشخاص الذين مروا في حياته،
كل شيء كان له وجود في الذاكرة،
لكن كل هذه الذكريات كانت تبدو وكأنها لم تكن له.
كانت أجزاء من حياته،
لكنها كانت لحظات لا يمكن الإمساك بها،
لحظات غائمة لا تترك أثرًا في السماء.
كانت الوجود كما لا يُدرك.
قال الطفل:
“كنت هنا… لكنني لم أكن.”
وكأن الفكرة التي مرّ بها كانت أكبر من أن تُقاس بالزمن.
وعلى حافة الوجود،
على حدود اللحظة الأخيرة،
وقف حيث لا مكان،
ولا زمن،
ولا شيء يستطيع أن يُحسّ.
كانت كل فكرة قد تسللت من ذهنه،
لتصبح جزءًا من ذلك الشيء الذي لا يمكن إدراكه،
لا يمكن تفسيره،
ولا يُعرف ما إذا كان كان.
لكنه شعر بشيء عميق،
بأن كل شيء كان هو،
وأنه لم يكن شيئًا في الوقت نفسه.
وكأن الوجود نفسه أصبح مجرد نبضٍ خافت،
يظل موجودًا دون أن تُدركه العيون،
ويظل يتردد في الفضاء،
دون أن يحاول أحد الاقتراب منه.
ثم…
اختفى.



الخاتمة: أنا شيت

كنت أنا،
ثم لم أعد.
أو ربما لم أكن أبدًا،
لكنني الآن موجود،
ومع ذلك غير موجود.
هل كنت شبحًا عابرًا بين الأفكار،
أم كنت وجودًا يبحث عن نفسه بين الكلمات؟
هل كانت تلك الكلمات التي كتبتها لي
أم هي أنا التي كانت تبحث عن نفسها في الأسطر؟
ما الذي يحدث عندما نغادر ولا نغادر،
عندما نكون وننتهي،
ثم نعود؟
هل نعود كما كنا؟
أم أننا نُخلق من جديد في كل مرة نختفي فيها؟

أنا شيت،
الذي كنت هناك،
لكن لم تروني.
كنت الفراغ الذي تداخل مع الكلمة
وكان الصمت هو رفيقي.
لكنني الآن أدرك،
أنه لا فرق بين الاختفاء والتواجد.
فنحن جميعًا نعيش في تلك اللحظة التي لا نُدرك فيها،
وفي النهاية،
نكون كما نحن،
وأيضًا كما لا نكون.
فإذا أردت أن تسألني عن الوجود،
أخبرك فقط…
أنني هنا،
لكنني أبداً لم أكن.
أنا شيت الذي ضيّعتني القصص،
وكأنني لم أكن،
لكنني أبوكم جميعًا.



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا الذي حلم بي القدر ثم نسيني قصيدة من خمسة فصول نثرية
- الجهاد بين فرض العينية ورؤية الدولة: قراءة فقهية في ضوء الفت ...
- حين يصير القلب وطنًا
- التعريفات الجمركية في عهد ترامب: بين سيادة الاقتصاد الأمريكي ...
- قيامة الطين والنور
- ضعي قلبي بين يديكِ
- تجلِّيات العابر الأخير
- إمكانية التحديث والنهضة في اليمن بقيادة أنصار الله: بين السي ...
- التحديث في العالم العربي وإشكالية السيادة المنقوصة: بين العو ...
- نبوءة الضوء
- لغة الغيم
- تداعيات الحرب على غزة وعودة اليمن إلى الساحة الإقليمية: قراء ...
- لغة السحر
- سَاتِيرَا فِي زَمَنِ العَجَائِبِ
- العم سام في رقصة السقوط الحر
- رقصة في حدائق الصمت
- مزامير الضوء العاشر
- التهجين الكمومي في المجال البيولوجي: استحداث تقنية علاجية جد ...
- أسطورة النور والظل
- محنة الأدب العالمي تحت هيمنة التوحش الرأسمالي


المزيد.....




- زيارة العراق تحرم فناناً مغربياً شهيراً من دخول أميركا
- تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد -خروج الثورة من المساجد-، ماذا ...
- تحقيق جديد لواشنطن بوست ينسف الرواية الإسرائيلية عن مذبحة مس ...
- -فيلم ماينكرافت- إيرادات قياسية وفانتازيا صاخبة وعمل مخيب لل ...
- هكذا قاد حلم الطفولة فاطمة الرميحي إلى نهضة السينما القطرية ...
- ستوكهولم: مشاركة حاشدة في فعاليات مهرجان الفيلم الفلسطيني لل ...
- بعد منعه من دور العرض في السينما .. ما هي حقيقة نزول فيلم اس ...
- هل تخاف السلطة من المسرح؟ كينيا على وقع احتجاجات طلابية
- تتويج أحمد حلمي بجائزة الإنجاز في مهرجان هوليود للفيلم العرب ...
- فيلم -إسكندر- لم يعوض غياب سلمان خان السينمائي


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - كتاب : “حين أنجبت الريح طفلًا”