منال حاميش
مهندسة مدني.. باحثة بعلوم ما وراء الطبيعة و العلوم الروحية الحديثة
(Manal Hamesh)
الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 07:35
المحور:
قضايا ثقافية
التجلي والبصيرة وهندسة المصادفة: قراءة ميتافيزيقية بين ابن عربي وسويدنبرج
تمهيد:
في قلب التجربة الروحية، يظهر سؤال التجلي: كيف تظهر الحقيقة؟ ولمن؟ وهل ما نراه يحدث لنا صدفة، أم أن خلف المصادفات هندسة خفية؟
يحاول هذا المقال أن يبني جسرًا بين رؤى ابن عربي المتصوف الإسلامي العظيم، وعمانوئيل سويدنبرج، الحكيم المسيحي الذي صعد إلى العوالم الروحية.
ومن خلال مزج هذين التيارين، نناقش سبعة تأملات تتعلق بـالتجلي، البصيرة، وانكسار الزمن أمام الوعي، ضمن إطار أسميناه هندسة المصادفة.
---
1. التجلي: من الخارج إلى الداخل
> "التجلي لا يحدث في الخارج، بل في داخل الرائي؛ الخارج مرآة، والداخل سر المصادقة."
عند ابن عربي، لا يُفهم التجلي باعتباره "ظهور الله في شيء"، بل باعتباره استجابة الوجود لتلقي العارف. فالعين البصيرة لا ترى ما في الخارج إلا إذا تهيأت في داخلها رؤية توافقية.
أما سويدنبرج، فيرى أن الكائنات في العالم الروحي ترى الصور والرموز بحسب طبيعة نواياها الداخلية. كل ما يظهر هناك مرآة صادقة لنية القلب.
ومن زاوية فيزيائية، تشبه هذه الرؤية مبدأ المراقب في ميكانيكا الكم: لا يتحدد موقع الجسيم حتى يتم رصده، أي أن الرؤية مرتبطة بالقابلية والوعي.
المنطق الذي يجمع هؤلاء أن الوعي هو المفتاح، وليس الحدث نفسه. التجلي ليس شيئًا "يحدث لك"، بل "ينعكس فيك".
---
2. انكسار الزمن في لحظة البصيرة
> "عندما تنكسر حركة الزمن أمام عين البصيرة، يولد الإدراك النقي؛ كأن الماضي والمستقبل يركعان للحظة واحدة أبدية."
الزمن في رؤية ابن عربي دائرة، لا خطًّا مستقيمًا. وكل لحظة حقيقية هي صورة عن الأبد. أما الزمن في رؤيا سويدنبرج، فلا وجود له في العوالم العليا، بل هو ترتيب نفسي.
علميًّا، تؤكد النسبية أن الزمن ليس ثابتًا، بل يتغير حسب الحركة والمجال. وفي ميكانيكا الكم، توجد اقتراحات بأن الزمن ليس إلا وهمًا رياضيًا، وأن الواقع "كتلة زمنية" ثابتة.
في التجربة الصوفية، ينكسر الشعور بالزمن حين يذوب الإدراك في لحظة "الآن" الخالصة. ويشعر العارف وكأنه يطل من نافذة على الأبدية. وهذا "الانكسار" ليس هلوسة، بل هو وعي ببنية الزمن من خارج الزمن.
---
3. المصادفة كهندسة روحانية
> "كل مصادفة هي هندسة روحية متقنة؛ لا عبث في الوجود، بل توافق خفي بين الكائن والكينونة."
منطقيًّا، من المستحيل افتراض أن الأحداث تجري دون ترابط ثم نعتبر ذلك "قانونًا". ابن عربي يربط الأحداث دائمًا بعلم الله الأزلي: كل شيء يحدث لسبب، لكنه لا يُقال دومًا.
سويدنبرج يذهب لأبعد من ذلك: المصادفات هي إشارات موجهة من العالم الروحي؛ ترتيبات دقيقة تهدف لإرشاد الروح.
العلم يحاول تفسير بعض الظواهر عبر مفاهيم مثل "الترابط الكمومي" و"تأثير الفراشة". ورغم أن هذه المفاهيم مادية، إلا أنها توحي بأن الكون ليس منفصلًا بل مرتبط بخيوط غير مرئية.
في ضوء الميتافيزياء الحية، المصادفة تصبح نقطة تلاقٍ بين النية والحدث. إنها لحظة يتطابق فيها التردد الداخلي مع البنية الشفرية للكون.
---
4. الواحد والكثرة: التجلي في التعدد
> "في لحظة الشعور بالانتماء المطلق، يتجلى "الواحد" في تعددية الصور؛ ويُدرك السالك أن الوحدة ليست نفيًا للكثرة، بل معناها الأعمق."
ابن عربي يرى أن الكثرة لا تعارض التوحيد، بل تُظهره. يقول: "الحق في كل صورة، لكن لا تحتكر صورة الحق".
أما سويدنبرج، فيفهم الكثرة كتجليات مختلفة لوظائف الجسد الروحي الواحد. كل عضو يُظهر صفة.
الفيزياء الحديثة (وخاصة في الحقول الموحدة) تشير إلى أن كل الجسيمات والمجالات قد تنبثق من واحدية طاقية أولى. ما يبدو كثرة هو تنويع في التردد والاهتزاز.
المعنى هنا أن الوحدة ليست إلغاءً للفروقات، بل كشفٌ عن الأصل الواحد خلفها. وهي لحظة وعي توسعي حيث يرى السالك الله في كل شيء، دون أن يتقيد بشيء.
---
5. البصيرة كحب قديم
> "البصيرة ليست رؤية ما لا يُرى فقط، بل شعور داخلي بأن ما يحدث الآن هو نتيجة حب قديم بين الروح والحقيقة."
يربط ابن عربي بين المعرفة والحب، ويقول إن الحق لا يُعرف إلا بمحبة. البصيرة عنده ليست تحليلًا، بل انجذاب وانكشاف.
سويدنبرج يتحدث عن نوايا الروح كوقود للرؤية الروحية؛ من أحب الحق، أُعطي أن يراه.
علم النفس الحديث يرى أن الانجذاب المسبق هو مفتاح التعلم العميق. النية توجه الانتباه، والانتباه يفتح المجال للرؤية.
في الميتافيزياء الحية، نقول إن البصيرة هي لحظة تردد عاطفي متطابق مع الحقيقة، وكأن هناك حبًا سابقًا يعود في الظهور.
---
6. المصادفة والذاكرة الكونية
> "المصادفة ليست حدثًا، بل توقيتًا مخططًا بدقة من العقل الكوني؛ كل شعور بالدهشة هو تذكير بأنك كنت تعلم مسبقًا."
المصادفة، من منظور روحي، ليست مفاجأة بل تذكُّر. وكأن هناك خريطة كونية نُسيت مؤقتًا، ثم تذكرتها الروح.
ابن عربي يتحدث عن اللوح المحفوظ، حيث كل شيء مكتوب، ويُكشف في حينه.
سويدنبرج يعتقد أن الأرواح تعرف طريقها، وتُنسّق لحظات الكشف بترتيب علوي.
الفيزياء النظرية الحديثة (مثل نموذج "الكون الكتلي") تقترح أن كل لحظات الزمن موجودة بالفعل، ونحن فقط نمر بها شعوريًا.
ما نراه كمصادفة، هو في الحقيقة تزامن بين وعينا الفردي ووعي أعمق كان دومًا هناك.
---
7. التجلي الأعظم: الذوبان في الحضرة
> "التجلي الأعظم لا يُرى بالعين ولا يُفهم بالعقل، بل يُعاش كذوبان في حضرة لم تكن غائبة يومًا، لكنك كنت غائبًا عنها."
هذا هو أعلى مستويات الإدراك في التصوف: الفناء في الوجود الحق. ابن عربي يسميه "الشهود"، حيث لا يبقى للذات أثر، بل "يفنى العبد عن نفسه ويبقى بالحق".
سويدنبرج يسميه "الاتحاد الداخلي"، حيث يشعر الإنسان أنه في حضرة الله، لا يفكر بل يُساق بالحب والنور.
علميًّا، لا يمكن إثبات هذه اللحظة، ولكن يمكن مقاربة أثرها: ذوبان الإيغو، اتساع الوعي، شعور الوحدة مع كل شيء.
في الميتافيزياء الحية، هذه اللحظة تُعاش كـ"طيف ذهبي" داخلي، حيث تتسارع الطاقة وترتفع الترددات، ويذوب الحاجز بين الداخل والخارج.
---
ختام:
هذه التأملات السبعة ليست مجرد أفكار نظرية، بل خرائط وجدانية وفكرية لحالات الوعي العليا.
في عالم يبدو ماديًا وفوضويًا، تقدم لنا رؤية ابن عربي وسويدنبرج وعدًا ضمنيًا:
أن الحقيقة ليست غائبة، بل نحن من نغيب عنها حين ننسى بصيرتنا.
وأن المصادفة، في أعمق معانيها، هي توقيع من الله بلغة لا يفهمها إلا من فتح قلبه.
#منال_حاميش (هاشتاغ)
Manal_Hamesh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟