|
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مجموعة -قصص إيفا لونا- لإيزابيل أليندي
محمد نجيب السعد
الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 00:17
المحور:
الادب والفن
ربما يكون من الخطير الإدعاء بأن القصة القصيرة تُجسّد الأنوثة بشكل أفضل من الرواية. يمكن القول إن الرواية، بما لديها من متسع من الزمان والمكان، تُعدّ وسيلة فعّالة للتعبير عن سخاء الأنوثة، وهما الزمان والمكان اللذين إستخدمتهما إيزابيل أليندي نفسها في تطوير جميع شخصياتها، بما في ذلك الإناث، وخاصةً كلارا، في روايتها الملحمية "بيت الأرواح". مع ذلك، ولأنها شكلاً أشمل، وبتقديمها حجمًا من العرض يُكشف فيه كل شيء ويُطوّر، وهي تجربة جمالية مُرضية في حد ذاتها، يجب على الرواية منطقيًا أن تتخلى عن التجربة الجمالية الأخرى التي تُشكّل جوهر القصة القصيرة: اللغز. تُصنّف إيلين بالديشويلر القصة القصيرة ضمن نطاق الأعمال" الشعرية الغنائية " مُشيرةً إلى "تركيزها على التغيرات الداخلية والحالات المزاجية والمشاعر". علاوة على ذلك، فإن الشكل الغامض لهذا الجنس الأدبي، والكثافة البنيوية للقصة القصيرة، اللذين يُجبران على الإعتماد شبه الكامل على الوسائط الرمزية والمجازية لدمج المعنى ونقله، يُخلقان سُبُلًا للتعددية ومتاهة من المتغيرات على المستويات المعرفية. إن هذا الشعور بالإمكانيات العديدة التي تمتلكها القصة القصيرة نفسه في تركيبها، هو ما يُكمّل معرفيًا الطبيعة الغامضة للأنثوية. تُجسّد شعرية القصة القصيرة ببراعة السمو الكامن في جسد الأنثى ونفسيتها كذلك. ومن خلال إعتمادها الرمزي والمجازي، فإن القصة القصيرة، مثل الأنثى ، حوارية، وتتطلب تطبيق الحساسيات الشعرية، مما يجعل القصة القصيرة شكلاً مثاليًا لتوظيف سياسة الجسد الأنثوي. إن الجانب المفتوح للقصة القصيرة، الذي يُطلق العنان لفكرة التعددية، يستوعب بسهولة السمة المفتوحة في ثنائية الأنثى/الذكر، وهي محور أهتمام رئيسي في قصص " كلمتان"، و"كلاريسا"، و"فتاة شريرة"، و"فم الضفدع"، و"توسكا"، و"ماريا البسيطة". بتجنبها الهيمنة الذكورية، تُعيد الإناث في هذه القصص ترسيخ الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن الذكر مُحتوى داخل الأنثى - فالذكور من الإناث ومنهن - وأن ثنائية الأنثى/الذكر مُحتواة داخل المرأة. هذه الأولوية الجوهرية للأنثى، والتي غالبًا ما تظهر كإدراكٍ جليّ في الشخصيات الذكورية، مما يُساعد على التخفيف من تبعية المرأة وتقليص شأنها، تُعيد تأكيد الطابع الدوري الطبيعي المُتجسد في الأنثى. إن السمة العضوية الحاسمة للقصة القصيرة - التي تُعزز من خلال خيطيتها المادية مفهوم الدائرية - تُعزز بفعالية الطابع الدوري داخل الأنثى. تُبَرز الأنثوية ، المُعبّر عنها غالبًا بأسلوب تراجيدي كوميدي، في قصص إيفا لونا، تُبَرز الكاتبة والمؤلفة على حد سواء، متجاوزةً التصنيفات الإقليمية والوطنية وحتى العرقية. تستخدم إيزابيل ألينديشعر القصة القصيرة كشكلٍ فعّال لتجسيد الحسية الأنثوية وإستكشاف تأويلات الحالة الأنثوية. لا تقتصر الديناميكيات الأنثوية في قصصها على مكان أو زمان أو حدثٍ محدد. فمن خلال دقة الشكل المتأصلة في القصة القصيرة، تُسلّط قصص أليندي الضوء على الفوارق الجندرية الضارة فكريًا، وتُسخر من المفاهيم الأبوية، وتُنكر في نهاية المطاف هيمنة الذكور. إن لغز الأنثى، والحسية الوهمية للأنوثة، ولغز الصراع الأبدي بين الجنسين، والغموض الذي يميز الرغبة الذكورية المستمرة في فرض التفوق الجنسي، النابع في المقام الأول من التفوق الجنسي المفترض، إلى حد التأثير على السلوك الإجتماعي والإقتصادي والسياسي الضار بالأنثى، تشغل الزمان والمكان داخل السرديات في مجموعة إيفا لونا القصصية. في كتابه "متاهة العزلة"، يلاحظ أوكتافيو باز أن "دونية" المرأة "متأصلة في طبيعتها وترتبط بجنسها". وعلى الرغم من أن باز يأسف لأن الموقع المتدني للمرأة في الثقافة المكسيكية ينبع من "الضعف البدني " للأنثى، مما يدفع الرجال إلى النظر إلى النساء ككيانات يمكن امتلاكها، فإن ملاحظاته تسلط الضوء على حالة مهينة إجتماعيًا ونفسيًا للأنثى تتجاوز الحدود الجيوسياسية والحدود الثقافية. لقد أثّر هذا التحيز الذكوري المطلق لدونية المرأة ورسم معالم كل جانب من جوانب التفاعل بين الرجل والمرأة، لا سيما القمع الذكوري للمرأة فيما يتعلق بالمساواة الإجتماعية والمشاركة السياسية والإقتصادية والإبداع. ومن المؤسف أن هذا التهميش للمرأة في خانة التملك هو موقف ذكوري شائع عالميًا. إلى جانب إشارتها إلى موقف "المرأة كجسد" تشير سيمون دي بوفوار في مقالتها "أساطير: المرأة عند خمسة كتاب " إلى أن وضع المرأة في أدوار مرموقة ظاهريًا يحددها الرجال هو إستراتيجية أنانية من جانب الرجال. فالأنثى "تمثل للرجل التربة الخصبة... الجمال المادي وروح العالم". إنها "الشعر"، و"النعمة"، و"الوحي "، ولديها القدرة على "منح السلام والوئام". بل إنها قادرة على أن تكون "وسيطة" بين هذا العالم وما بعده. ومع ذلك، سارعت دي بوفوار إلى تحديد النفاق الكامن في هذا التعالي الأبوي السطحي: "إذا رفضت [المرأة] هذا الدور، يُنظر إليها على الفور على سعلاة أو غولة". والنتيجة النهائية للأدوار التي يفرضها الذكور والتصنيف الجنسي المحض للمرأة هي الخضوع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي للمرأة، وهي ظروف لا تزال تؤثر على علاقة الذكور/الإناث في المجتمع المعاصر. في تحديها للهيمنة الأبوية، يبدو أن شخصيات إيزابيل أليندي النسائية تُمارس ما طالبت به هيلين سيكسو في "ضحكة ميدوسا" : من خلال كتابة أنفسهن في نص، يُستكشفن فيه هويتهم الجنسية . تُصر سيكسو على أن النساء يجدن "معناهنّ في التاريخ" وأنه من خلال "نضالهنّ الحتمي ضد الرجل التقليدي"، عليهنّ الخروج من "هول ... القمع الذي أبقاهنّ في "الظلام" - ذلك الظلام الذي حاول الناس جعلهنّ يقبلنه كسمة لهنّ". تنجح بطلات أليندي في التخلي عن هذه السمة بإعادة ترسيخ أسبقيتهنّ الطبيعية، مما يُقلب نظام الذكورة/الأنثى. لا يوجد علاقة تبادلية في هذه الديناميكية بين الإناث والذكور. أن هيمنة الذكورة ليست هدفهنّ بل التعايش. تُخلق نساء أليندي تكافلًا بين اللغة والجسد لتحقيق التوازن بين الجنسين. في قصة " كلمتان "، تُعدّ اللغة السلاح الأساسي للبطلة، إذ تُستخدم لتحقيق نتائج وجودية وعملية . وإذ أدركت مبكرًا قوة الكلمات، أطلقت على نفسها اسمًا في فعلٍ مُناقضٍ للسلطة الأبوية. لم تكتسب بيليسا كريبوسكُلَرْيو إسمها من خلال المعمودية، بل بحثت عنه في ذاتها وإخترعته بدافع الحاجة إلى الوجود. بعد الخطوة الأولى في بناء الذات، أصبحت بيليسا مستقلة ماليًا، تبيع الكلمات، كلماتٍ تستطيع من خلالها إختراع "شتائم لأعداءٍ لا يمكن التصالح معهم" إن شاءت، أو حتى تغيير اللاوعي، لتحسين "نوعية الأحلام". براعتها اللغوية، إلى جانب كونها مصدر دخلها، تُعدّ أيضًا بمثابة مُحفّز وسيط يُساعدها على المناورة عبر شبكة الخداع السياسي التي تواجهها عندما يُطلب منها تأليف خطاب للعقيد الأمي والطاغية الطامح إلى الرئاسة. تُفكّر بيليسا في إختيار كلمات الخطاب، مُستبعدةً تلك التي كانت غير مُجدية، أو مُراوغة، أو غير نزيهة، أو تفتقر إلى الشعور بالإهتمام بالشعب، لتستقر في النهاية على الكلمات التي كان من شأنها إثارة "حدس" الناس. إن السياق الإجتماعي والسياسي لقراءة بيليسا التأملية للكلمات المناسبة هو مركزية الأنثى التي تقدم تعريفًا للذكر وتخلق النظام للعشوائية الذكورية الطاغية . بعد صياغة خطاب رئاسي مؤثر، منحت بيليسا العقيد "كلمتين سريتين... لإستخدامه الحصري".أحدثت هاتان الكلمتان تغييرًا كارثيًا في العقيد، الذي ارتبطت سمعته السيئة ارتباطًا وثيقًا بالدمار والمصائب . وفي كل مرة كان العقيد يفكر فيها بهاتين الكلمتين، كانتا تستحضران صورة بيليسا كريبوسكيولار، الأنثى ذات " الساقين القويتين المتعبتين من الترحال والصدر العذري". وتثير ذكريات "حرارتها النارية" و"همس شعرها" رجولته. وطاردته الكلمتان في نومه يقظته بإستمرار، مما حوّله إلى "مسرنم "، مما تسبب في إنهيار عصبي لدى الرئيس المحتمل، وأجبره على الاعتراف لإل مولاتو، أحد ضباط جيشه " بأن "حيرته نابعة من "هاتين الكلمتين اللتين غرزتا كخنجرين في جوفه ..." أدرك ذلك الضابط أن كلمتي بيليسا قد أربكتا العقيد، وأن "التعويذة التي همست في أذنيه فعلت ما عجزت عنه سنوات من القتال". يعتقل الضابط بيليسا، على أمل أن يعيد العقيد الكلمتين إلى بيليسا ويستعيد "رجولته". تفشل نوايا الضابط وهو يشاهد "عيني الكوجر الشرهتين" تلينان عند رؤية بيليسا. هذه الهيمنة الكاملة للذكر ممكنة لأن الكلمات والجسد الأنثوي قد إندمجا لخلق هذه السيطرة؛ في هذا السيناريو، حتى الحفاظ على الرجولة أو فقدانها ليس قرارًا ذكوريًا. بالنسبة لامرأة وُلدت في "عائلة فقيرة لدرجة أنها لم يكن لديها حتى أسماء تُطلقها على أطفالها"، فإن إكتساب المهارة اللغوية يُمكن أن يُحرر بيليسا ليس من الفقر فقط : يُمكنه أن يضمن لها حياةً خاليةً من عبودية الذكور، ويمنحها سلطاتٍ عليا، لأن "الكلمات تشق طريقها في العالم دون أن يحكمها أحد". وبينما إنهمك الرجال في خطط الحروب المدمرة والفساد والاستغلال المُفرط للنساء، مكّنت بيليسا نفسها من "البديل المُشرّف"، الكلمات التي تفوقت بها في عالم الإقتصاد الذي إستبعد النساء عمومًا، وخاصةً النساء اللواتي وُلدن فقيرات . تلتهم القاموس "من الألف إلى الياء" لكنها تتخلص منه، رافضةً تقديم "كلمات جاهزة " لعملائها؛ وبدلًا من ذلك، تُقرر تطبيق قدراتها المعرفية على الكلمات المناسبة التي تُناسب إحتياجات عملائها على النحو الأمثل، على غرار قدراتها الشعرية التي بنت بها إسمها، بيليسا كريبسكولاريو، "الجمال" و"الشفق". تمنحها براعتها المعجمية قوة "إحتمالات لا متناهية " تستخدمها كوسيلة أساسية لنجاحها الخاص ونجاح الآخرين. معجمها متنوع وساحر. الكلمات التي باعتها كانت فريدة لكل شخص ، لأن استخدام الكلمات نفسها للجميع، بالإضافة إلى كونه "خداعًا جماعيًا"، يتعارض مع الإمكانيات اللامحدودة للكلمات. بيليسا كريبسكولاريو هي شهرزاد الكلمات في هذه القصة. بفضل مزيجها الذي لا يُقهر من الجمال الجسدي والقدرة اللغوية الخارقة، تتجاوز وتتحدى وتتجنب الخطر من رجال مثل إل مولاتو، الذي "تحولت رغبتهم فيها إلى غضب، ولم يمنعه من تقطيعها إربًا بسوطه إلا خوفها من لسانها"، والسوط هو إمتداد رمزي للقضيب الذكوري . لم تأتي مقابلة اللسان/السوط المُوحية في صالح إل مولاتو؛ بل على العكس، أدى خوف بيليسا من الكلمات المنبعثة من لسانها إلى إخصاء مجازي لمولاتو المُغرم. ومن خلال التلاعب الماهر باللغة، تولد بيليسا كريبوسكيولار من جديد كامرأة قوية تُحدث تغييرات في قمة العملية السياسية: تُحوّل العقيد من رجل مستبد إلى شريك مُستعبد. كما يُعزز هذا الإستسلام إمكانية أن يصبح العقيد قائدًا سياسيًا مسؤولًا أيضًا. إن التحول الذي حدث للذكر غير المنتظم، العقيد، يحمل في طياته وعدًا بالديمومة، لأن القوى التحويلية للأنثى، بيليسا، أصبحت الآن جزءًا من المعادلة النفسية الإجتماعية. في قصة "كلاريسا"، تُعدّ الجنسانية واللغة قوتين متلازمتين، توظّفهما كلاريسا لتحقيق نجاحها وأمن أطفالها و"المعجزات" التي تُقدّمها للمحتاجين. ولضمان رعاية طويلة الأمد لطفلين مُعاقين، تُضطر إلى التخلي عن زوجها، القاضي الذي ورّثته جيناته طفلين مُعاقين ، مُفضّلةً جينات عضو كونغرس مُتحمّس. تُفسد جنسانية كلاريسا بسهولة السياسي "النزيه"، وتُساعدها على تطبيق "نظريتها في التعويض" من أجل "الحفاظ على إنسجام الخلق". أنجبت كلاريسا، بتخطيطها، ولدين من هذه العلاقة غير الشرعية، الطفلين اللذين سيتولّيان في النهاية مسؤولية رعاية إخويهما المُعاقين. تتمتع كلاريسا بالفطرة بموهبة "المنطق القاطع". تتجلى قوة كلاريسا الإقناعية في قدرتها على حشد الدعم المالي للقضايا الإجتماعية من جماعات يُملي المنطق أنها مُتعارضة بطبيعتها: المنظمات الألمانية التي تدعم المشاريع العبرية، والراهبات اللواتي يُساعدن البغايا، وصناعة العنب التي تُساعد في علاج إدمان الكحول. يُشير التناقض الفكاهي والساخر في آنٍ واحد بين "الفنانين الشباب/اليسوعيين"، و"البغايا/رابطة السيدات الكاثوليكيات"، و"جوقة العبرية/المعهد الألماني"، و"إعادة تأهيل مدمني الكحول/مزارعي الكروم" إلى فطنة كلاريسا الإجتماعية والسياسية في التفاوض دبلوماسيًا، وليس بالقوة كما يفعل الرجال عادةً، وهي نتيجة إيجابية من مصادر غير مُتوقعة. عند الضرورة، تنتقل من السياسة الجنسية إلى السياسة الإجتماعية لتحقيق أهدافها، مما يضمن نجاحها في التغلب على المُعارضات الظاهرة. حتى خيانتها، التي قد تُثير غضب المعتقدات الإجتماعية والدينية السائدة، تُشكّل جزءًا من منطق كلاريسا. فخيانتها عملية، خالية من العاطفة، ومن الانغماس المُفرط في الجنس؛ إنها إستجابة مُدروسة لموقف يتطلب حلاً أموميًا فوريًا، نداءً داخليًا يتجاوز القواعد المُحددة. كما يُسهم الاقتصاد في اللغة، وهو سمة سائدة في القصة القصيرة تُضفي على هذه المجموعة تكاملًا بنيوياً ، في تطوير الموضوعة في قصتي " كلمتان " و"كلاريسا". يُولّد البناء المُحكم لهذه القصص توترًا موضوعاتياً ويُعزز المفاهيم النسوية للمساواة. تُزيّن أناقة وشعرية القصة القصيرة أناقة وشعرية بيليسا كريبوسكُلارْيو وكلاريسا، وهما تسعيان ببلاغة إلى خلق توازن أنثروبولوجي بين الجنسين. ينبع التوتر في هذه القصص من الحاجة إلى التعبير عن الذات الأنثوية لفظيًا. يُسبب تمرين بيليسا اللغوي خللاً في التوازن الذهني العصبي، مُجبراً الذكور ذوي الشخصية القوية على إعادة النظر في الأنثى، وتعديل إنشغالهم المُفرط بالثديين والفخذين المثيرين ليشمل الدماغ، رافعاً بذلك الأنثى من مستوى القاعدة إلى مستوى العمق. كما يضع هذا التقييم الجديد الأنثى في موضع الفاعل. ونظرًا لعجز الذكور الأكثر دناءة، مثل إل مولاتو، عن إدارة التقلبات التي تُقدمها الأنثى، يتبنون مواقف عنيفة تُعزز فكرة أن المشاريع الفكرية للإناث تستحق الإزدراء لا التقدير. ومع ذلك، فإن بيليسا، بتحليلها للأنثى من خلال سعة الإطلاع، تُبطل الإفتراضات الذكورية الراسخة، وتُنشئ توازناً تصحيحياً في ديناميكيات العلاقة بين الأنثى والذكر. وتُحقق سياسات كلاريسا الأنثوية أمناً اقتصادياً لكل من الأم والطفل. تُحقق بيليسا كريبوسكُلَرْيو وكلاريسا أهدافهما في هذه القصص ببراعة فكرية تفوق الرجال، دون أن تفقدا أنوثتهما وقدرتهما على تحقيق الإثارة الجنسية. في هذه القصص، يبدو تعريف "الأنثى" مُبهمًا - غريبًا كميل كلاريسا إلى صنع المعجزات، وغامضًا ككلمتي بيليسا. إن مشكلة التعريف التي تُضفي سحرًا على القصة القصيرة هي نفسها المشكلة التي تُولّد التصوف لدى الأنثى، مما يجعل القصة القصيرة والأنثى متطابقتين مجازيًا. الجنسانية الأنثوية هي لغة التفاعل في قصتي "الفتاة الشريرة" و"فم الضفدع". هاتان القصتان، في الواقع، دراسة لفعالية جسد الأنثى وضعف رجولة الرجل. في إحداهما، تكشف سياسة الجسد الجندري هذه عن إدراك الرجل لقابلية الجنس غير المدروس للتغير، وفي الأخرى عن القيمة المتحققة من الناحية الإقتصادية والرضا الناتج عن الجنس المدروس. في "الفتاة الشريرة"، تتعلم إيلينا، وهي فتاة في سن البلوغ، في وقت مبكر، من خلال مراقبة والدتها، فن الإغواء وقوة جسد الأنثى. تستخدم هذه المعرفة، بشكل شبه غريزي، لإغواء خوان خوسيه بيرنال، عشيق والدتها. على الرغم من أن بيرنال، المغني الذي يُطلق على نفسه اسم "العندليب"، يُحبط محاولات إيلينا ويتزوج أمها، إلا أن ذلك لم يُخفف من مشكلته: "... كان يفكر في [إيلينا] بإستمرار... صورة الطفلة... لا تزال معه، سليمة، لم تمسسها السنين؛ ظلت الفتاة العاطفية التي رفضها". وبينما ينحصر إهتمام الرجل في التملك الجسدي فقط، فإن الجنسانية الأنثوية أكثر ديمومة، لأنها تُجسد الرجل على المستويين الواعي واللاواعي. في الواقع، إن سياسات جسد الأنثى، حتى في صغر سن إيلينا وقلة خبرتها، كافية لإجبار الرجل على تغيير رأيه بشكل منحرف. لقد حُفر جسد إيلينا في ذاكرته، وغيّرت نفسيته، لدرجة أن بيرنال لم يعد قادرًا على ممارسة الحب مع "جسد زوجته الضخم" دون "إستحضار صورة إيلينا بدقة" في ذهنه. فقط بجسد إيلينا الشاب كصورة ذهنية، يستطيع بيرنال "إيقاظ ... دافع المتعة المتشتت ". هذه الذكريات المحفورة لجسد إيلينا الشاب تدفع بيرنال إلى حافة الإعتداء الجنسي على الأطفال. عاجزًا عن إستخدام الدين لمساعدته في فعله الفدائي الزائف، يحاول بيرنال التكفير عن نفسه بحرق سراويل الأطفال الداخلية التي كان يستمني بها. إن قوة جسد إيلينا تُبقي بيرنال في حالة من الضيق والرغبة، بينما تواصل إيلينا مسيرتها. بعد سنوات، عندما حاول الإعتذار لإيلينا لتخليه عنها ووصفها بـ"الفتاة الشريرة"، حدقت به صامتة، لا تدري ماذا تجيب. عن أي فتاة شريرة كان يتحدث؟ لقد تركت طفولتها بعيدًا؛ لم تتذكر أي خميس تحديداً من ماضيها. لا تعاني الأنثى في هذه القصة من المعايير المزدوجة ، بل يعاني منها الذكر وحده. الندم ينتاب برنال وحده، لفشله في البداية في مقاومة ممارسة الحب مع فتاة مراهقة، ثم رفضها، ليظل يشتيهها دوماً . بالنسبة لبرنال، إيلينا هي النشوة؛ وبالنسبة لإيلينا، برنال مجرد مرحلة عابرة في رحلتها نحو الأنوثة. في قصة "الفتاة الشريرة"، يُختزل برنال إلى مُتحرش جنسي منحرف من خلال سياسات الجنس الأنثوي. وفي قصة "فم الضفدع"، تُساعد هذه السياسات هيرميليندا على تأسيس مشروع تجاري مزدهر على "أرض قاحلة يسكنها رجالٌ فظّون" يعملون رعاة في شركة مربي الأغنام المحدودة، التي يديرها البريطانيون، والذين لم يجدوا في هذه الأرض القاحلة ما "يحملونه"، فقرروا تربية الأغنام. ما لم يستطع البريطانيون إزالته فعليًا، استطاعت أغنامهم إزالته. التهمت القطعان الكبيرة كل "النباتات وداست على آخر مذابح الثقافات الأصلية". مارس "الرعاة الإنجليز" فظائعهم الإستعمارية بتجاهلهم محنة رعاة الأغنام، الذين "عاشوا في بؤس" في البرد القارس، يمضون "أشهرًا" دون قوت مناسب. ونتيجة لإهمالهم لكل من رعاة الأغنام والأغنام، تشابهت معاناة الرجال والحيوانات. وقد تحملت الحيوانات وطأة هذه المعاناة. سعيًا وراء الدفء والرفقة، و"لأنهم فقراء بسبب الحب"، كان رعاة الماشية "يطأون أغنامهم، أو حتى فقمة إن استطاعوا الوصول إلى الساحل وإصطياد واحدة". يكشف الإثم المرتبط بالحيوانية عن الفراغ الأخلاقي لرعاة الماشية، ويعكس فراغ الأرض القاحلة بفعل الطبيعة والإنسان والحيوان. هذه البيئة التي تفتقر إلى المعايير الأخلاقية والمبادئ التوجيهية الإجتماعية والمسؤوليات السياسية، من المفارقات، توفر لهيرميليندا مجالًا مفتوحًا "تحكم فيه" كـ"ملكة نحل"، الأنثى المسؤولة عن خلق عالم "خيالي" من "الألعاب" بتصميمها الخاص وبمحض إرادتها، يُعيد تأكيد الإنضباط ويعد بمتعة شديدة. في أجواء معسكر رعاة الأغنام المتعطشة للحب، "صنعت هييرميليندا ثروتها [مستلقية] على فراش". كان الرجال يسافرون أميالاً للإستمتاع بـ"ساقيها وثدييها النابضة بالحياة " اللتين لم تظهر عليهما "أي آثار تآكل.... في أيام الجمعة، كان الفرسان يتسابقون بجنون من مسافات بعيدة، وعندما يصلون، تنهار دوابهم المتعبة تحتهم".على الرغم من أن الرعاة الإنجليز حرموا الكحول واستنكروا ألعاب هيرميليندا "المحظورة"، إلا أنها إزدهرت في كلا الأمرين، متجاوزةً القيود الإستعمارية بجسدها، وفرضت حياتها الجنسية على جميع الرجال في السهوب . كان الكحول الذي تُخمّره، بينما يُثير معنويات ضيوفها ويُفسد أكبادهم، يُستخدم أيضًا "لإشعال المصابيح في ساعات الترفيه". كانت المرح مصدر دخلها. حققت هيرميليندا ربحها من خلال إستخدام عدد لا يُحصى من الألعاب، وكانت لعبتها المفضلة والأكثر ترقبًا هي "فم الضفدع"، حيث "رسمت هيرميليندا دائرة إستلقت وسطهاا... على ظهرها، وركبتاها مفرودتان... إنكشف مركز جسدها المظلم... مفتوحًا كثمرة، كفم ضفدع مرح... إتخذ اللاعبون مواقعهم خلف خط الطباشير وألقوا عملاتهم المعدنية نحو الهدف. " كانت العملات التي سقطت داخل علامة الطباشير المحيطة تخص هيرميليندا. أما الجائزة الكبرى للرجال فكانت حق إمتلاك هيرميليندا جسديًا بإسقاط عملة معدنية داخل تجويفها الأنثوي. ضحى رعاة الماشية طواعيةً بـ"راتب شهر" غالبًا "في غضون خمس عشرة دقيقة" طمعاً في ساعتين مع هيرميليندا بعد رمية ناجحة، ووقتًا واعدًا بـ"نشوة مطلقة" وجماعًا يوفر "العزاء لجميع رغبات الماضي وأحلامه بمتعة الجنة". كانت ساقاها "الذهبيتان" وجسدها المتين يحملان صفات سحرية، "أسرار حب عتيقة قد تقود الرجل إلى حافة الموت وتعيده إلى رشده حكيمًا". هيرميليندا، بصفتها صاحبة تجارتها، تنتهك كل قواعد اللياقة بإستخدام جسدها للسيطرة المطلقة على زبائنها، مستغلةً ضعف الرجل البدائي، أي امتلاك الأنثى. وبافتراض بسيط مفاده أنه لا يمكن لأي رجل في المخيم مقاومة فرصة الإيلاج بإنثى وبسرعة كما في لعبة الإرجوحة حيث كانت تتأرجح بفخذيها المفتوحتين نحو رجل مُثار، فإن هيرميليندا قادرة على إمتلاك ما هو أكثر بكثير مما يمتلكه الرجال: فهي تُثبت نفسها كوعاء وهمي يُسيطر على عالم الواقع وحلم هؤلاء الرعاة الفقراء، الذين أصبحت أجسادهم "القوية " "مرنة بين يديها". أن الألعاب الجنسية الشبقة هي الغطاء الفني لقصة "فم الضفدع". بتحويل لعبة أطفال (هي لعبة اللا رانا، حيث يحاول الأطفال رمي أشياء صغيرة في فم مفتوح للعبة الضفدع ) إلى لعبة للبالغين حيث يرمي الذكور العملات المعدنية في مهبل مفتوح، تسخر القصة من إنهيار النظام الاجتماعي الذي أعقب التداعي السياسي، وهو إنهيار يُنتج سكانًا مُعدمين اقتصاديًا وأخلاقيًا، يأتي خلاصهم من خلال تحرر جنسي مؤقت ومنحرف. الذكور هم من يتعرضون لهذا الإنهيار الإجتماعي والإقتصادي في السهوب . تجلب سياسة جسد الأنثى النظام والإنضباط إلى الفوضى. لا تبدو هيرميليندا إلا كعاهرة. تجارتها ليست معاملة جنسية مباشرة مقابل المال. إنها بحاجة إلى العملات المعدنية للبقاء على قيد الحياة؛ ومع ذلك، فهي تُقدّم أيضًا "العزاء" والأمل وطريقًا للعودة إلى بعض مظاهر الأخلاق لرعاة الماشية، وذلك بإنقاذهم من البهيمية، ذلك السلوك الجنسي المنحرف الذي دُفعوا إليه نتيجةً للفساد البشري على أيدي المستعمرين البريطانيين الذين يدعون التحضر. ومن المفارقات أن أرض النار (تييرا ديل فويغو) لا تحمل أي شرارة تُبقي على الحياة، بشرية كانت أم حيوانية - فهيرميليندا هي التي تُشعل نار الخلاص حرفيًا ومجازيًا في هذه الأرض القاحلة. الأنثى هي العامل المُجدّد. وبدلًا من أن يكون مصطلح "فم الضفدع" مُهينًا، فإن إشارة "المركز المظلم" لجسد هيميليندا تربطه بدلالات الضفادع الأسطورية. أدرج المايا الضفدع كواحد من الكيانات الحيوانية الثلاثة التي تُشكّل أمنا الأرض: أما الكائنان الآخران فهما التمساح والسلحفاة. قد تُحاكي هيرميليندا، وهي مُستلقية على ظهرها وهي تلتهم الرجال، تمساحًا وسلحفاة. في الأساطير الشرقية، يمتلك الضفدع قوى شفاء؛ كما يرمز إلى القوة والعمر المديد، على غرار ما تُقدمه هيرميليندا. تُمثل قصة "فم الضفدع" محاكاة ساخرة إجتماعية وسياسية للأعراف والأخلاق والسلوكيات "المتحضرة". كما تُحاكي القصص الخيالية والأساطير والإملاءات الدينية المُقيدة. تحتوي القصة على لمحات من قصص "الأمير الضفدع" و"سندريلا" الخيالية، بالإضافة إلى مجموعة من أساطير الخلق. تُذكرنا، بتشابهٍ غريب، بالأسطورة الصينية لليو هاي، الخيميائي من القرن العاشر، الذي كان صديقه المُقرب ضفدعًا كبيرًا ثلاثي الأرجل، كان يختبئ غالبًا في بئر، وكان لا بد من إغرائه بالصعود إلى السطح بعملة ذهبية. تُصوَّر صور ليو هاي، إله الثروة والازدهار، وهو مبتسم ويقف على ضفدعه ويلعب بالعملات الذهبية. تنعكس هذه الصورة في "فم الضفدع" حيث تبتسم هيرميليندا وتستلقي على ظهرها، فاتحة ساقيها، كاشفة عن أنوثتها بينما يرمي الرجال العملات المعدنية على "فم الضفدع البهيج". تجسد قصة "فم الضفدع" محاكاة ساخرة منحرفة للبنى الإجتماعية الفاشلة والأساطير وألعاب الأطفال اليومية والحكايات الخرافية وحتى المعتقدات الدينية مثل أسطورة ليو هاي، وهي بناء ما بعد حداثوي يسخر من النفاق والقصور في البنى التحتية والمعتقدات الإجتماعية. ومن خلال تخريبها، تسعى القصة إلى موازنة هذه العيوب ومعالجتها بإستخدام جسد الأنثى كمحفز للتغيير. تنتقل القصة بسلاسة من السياسة الإجتماعية إلى السياسة الجنسية الأنثوية. هنا، تعيد هيرميليندا خلق الحياة على أرض طبيعية مهجورة لا ترحم، من خلال أنوثتها، بتقديم نفسها كجائزة نهائية، ومن خلال مزيج من الجاذبية الجنسية الشديدة و"حنان الأم". إنها تُسيطر وتُعيد النظام إلى مجتمعٍ فاشلٍ من الرعاة الذين يقتربون منها بـ"قوةٍ وهميةٍ" فظةٍ للقضيب، ليُصبحوا "مُطيعين" و"مُتحولين" بفعل سياساتها المُتعلقة بجسد الأنثى. تُجسد مرونة شكل القصة القصيرة ببراعةٍ كنايات الخطاب الجنسي والشخصي الأنثوي في قصتي "الفتاة الشريرة" و"فم الضفدع". تسعى النماذج الذكورية إلى طمس الأنوثة. يتحدى وجودها الدائم السلطة الأخلاقية الذكورية المُفترضة. تتحايل نساءٌ مثل إيلينا وهيرميليندا على الهيمنة القضيبية المُفترضة، ليس من خلال الإنكار أو الإخصاء، بل من خلال التجنيد، مما يخلق وحدةً شاملةً تتضمن رجولة الذكر وقوة الأنثى. هذا التوحيد بين الأنثى والذكر في الأنوثة يُحيل الأنثى إلى عوالم دينية وأسطورية، إلى إلهة وأم حاضرة في كل مكان، قادرة، بصفتها خالقة ومدمرة، على فرض توازنات دقيقة بحرية. في هذا الشكل الشامل، تكون الأنثى أعظم من مكوناتها الفردية، وأكثر تعقيدًا من تعريفاتها الفسيولوجية الأساسية، مما يُلزم بالإعتراف بالكيان الأنثوي ككلٍ متكامل . يُكمل الشكل الأسطوري للقصة القصيرة الطبيعة الأسطورية للأنثى بسهولة، ويُعد الشكل المُحكم، وإن كان مرنًا، للقصة القصيرة وسيلةً فعّالة لدمج وجود الأنثى في كل مكان. يندمج مفهوم المرأة ككل متكامل بسلاسة في القصة القصيرة ككل متكامل. تدور قصة "توسكا" حول فشل موريزيا روجيري وتحولها . تُعرّف الطموحات الأبوية موريزيا على البيانو في سن الخامسة، وتُجبرها على عزف أول حفل لها في سن العاشرة أمام جمهورٍ مُتعاطف من الإيطاليين. يُحطّم أداء موريزيا المُحرج الرغبة الأبوية في خلق "موزارت جديد". تُلاقي أحلام موريزيا في أن تُصبح مغنية أوبرا نفس النهاية المُحرجة نتيجةً لـ"صوتها الخافت الشبيه بصوت الطائر، والذي بالكاد يكفي لتهدئة رضيع في مهده ". ذاعنة للعادات والتقاليد الإجتماعية المُحددة مُسبقًا والتي تُطبّق بصرامة أكبر على الإناث، تُجبر موريزيا في سن التاسعة عشرة على "إستبدال أحلامها في أن تُصبح مغنية أوبرا بمصيرٍ أكثر بساطةً"، وهو الزواج. يُقارب زوجها، إزيو لونغو، الزواج والحب بالتوقعات التقليدية للرجل كمُعيل للأسرة. يحمل حبه لموريزيا نفس سمات الإحتراف التي يُضفيها المهندسون المعماريون على مشاريعهم. في الخامسة والثلاثين من عمره، أسس إزيو "إمبراطوريةً من الأسمنت". إن "تفانيه في عمله" يُمكّنه من "نثر مبانيه في العاصمة". على الرغم من أن إزيو وفّر لموريزيا "قصرًا ضخمًا [حيث] ... كان الخدم يعملون بإستمرار لمجرد تلميع البرونز وتلميع الأرضيات وتنظيف الثريات الكريستالية المتلألئة، و... الأثاث ذي الأرجل الذهبية"، ورغم أنه بنى لها مدرجًا يُمكّن موريزيا من ترفيه ضيوفها بـ"تغريدها الذي يُشبه زقزقة الطيور"، إلا أنه لم يحصل على رد فعل مماثل من موريزيا من "المودة بنفس الشدة" التي كان يُبديها هو. تكمن المشكلة في قطبية الأنثى/الذكر. هذا الصدع غير المحدد، والذي غالبًا ما يكون غير قابل للتجسير، يُفضي إلى تقييمات جنسانية متعارضة؛ وبالتالي، فإن "الخيال" ذاته الذي "يُشعل" دوماً ويُعرّف موريزيا معرفيًا إعتبره ُ إزيو مرضاً وهمياً لدى. معماريًا، يستطيع إزيو تشييد صروح فخمة "بمزيج من الأساليب... ووفرة من الزينة" التي "تربك الحواس"؛ ومع ذلك، فقد إفتقر إلى "رقي الروح والرقة" اللذين كبحا قدرته على "ترجمة الأفعال إلى أقوال"، مما "جعل من المستحيل عليه التعبير عن مشاعره تجاه موريزيا". يحاول إزيو سد إحتياجات موريزيا المادية، "أملًا في سد الفجوة بينهما". حتى ولادة طفل ذكر لا تُخفف من القلق الناتج عن غياب العاطفة والتواصل. أن موريزيا ، التي آنستها أوبرا فيردي وبوتشيني، وجدت في ليوناردو غوميز، الذي إلتقته في الترام، توأمها الروحي . على الرغم من أنه طالب طب، إلا أن ليوناردو مهتمٌ بالأوبرا. خلال لقائهما الأول، إلتقت ماوريتسيا بليوناردو في حفل أوبرا ، حيث كان "يدندن موسيقى من الفصل الثالث" من أوبرا "توسكا" لجياكومو بوتشيني، بينما غنت ماوريتسيا "كلمات ماريو التعيس" من نفس الأوبرا. "أن مظهر ليوناردو، الذي يوصف بأنه يشبه تمثالًا رومانيًا، وأدائه لجزء من أوبرا توسكا يُبلل "صدرها ... بترقبٍ حلو"، و"بين سطري النوتة" اللذين يتبادلانهما "بدأت قصة الحب". أصبح ليوناردو "شغف ماوريتسيا الخالد"؛ تتبعه إلى مناطق نائية حيث يعمل "طبيبًا في مخيم". إن الحاجة الأساسية التي تدفع ماوريتسيا إلى خيانة زوجها وتخليها عن طفل تحبه حبًا عميقًا تتجاوز فهم إيزيو. يكمن جزء من الإجابة في إندفاع إيزيو الغاضب و"المهزوم": "يا إلهي، أود أن أعرف ما الذي لا تملكينه في هذا العالم؛ أخبريني، وسأحاول الحصول عليه لك". يفهم إيزيو ويتحكم في عالم من المادية الملموسة والقابلة للتحديد، عالم من الإستبدال السهل حيث يمكن إستبدال شيء من الواقع بشيء آخر من الواقع ذي قيمة مساوية أو أكبر. عالم إيزيو عملي وخيطي. أما الديناميكيات غير الخيطية لعالم ماوريتسيا فهي غريبة عن إدراكه، وتتجاوز نطاقه المعرفي. في الواقع، إنها تتجاوز أيضًا الحقائق القاسية التي تُحيط بمهنة ليوناردو التي تشمل الفقراء والمرضى. إن إتصال الروح الذي يحدث في الترام عبر تبادل أوبرالي عابر لا يترك أي أثر تحويلي أو لا يُمحى عند ليوناردو، الذي ينغمس تمامًا في مهنته، ويُكرّس كيانه الداخلي لعلاج مرضاه ورعايتهم، ويموت في النهاية بجسد منهك من الإرهاق والأمراض الإستوائية. إن خيال ماوريتسيا وإبتكاراتها المستمرة، وحساسيتها المفرطة لا تُعرّفها وتُعيد تعريفها فحسب، بل تُعطي من خلالها أيضًا، خصائص ليوناردو. على الرغم من التشابه بين ماريو/توسكا، لا توجد مأساة مشتركة في حياة ماوريتسيا وليوناردو تصل ولو عن بُعد إلى الوحشية المُصوّرة في توسكا. على الرغم من أن رغبة ماوريتسيا الشديدة في التحرر من القيود الناتجة عن الضوابط الأبوية الذكورية تُجبرها على الإنتقال من حياة الرفاهية إلى حياة مليئة بالتوتر والضيق والمشقة، إلا أن حياة ماوريتسيا وليوناردو تخلو من المعاناة الشديدة والمؤامرات السياسية والجشع والوحشية التي واجهها ماريو كافارادوسي وفلوريا توسكا في أوبرا "توسكا" لبوتشيني، حيث يبدو أن الشر يسود مع مقتل ماريو وإنتحار فلوريا. أن الرسالة الثابتة للأوبرا ليست إنتصار الشر بل قوة الحب الراسخة بين ماريو وتوسكا. هذا الحب العاطفي الشديد، هذه الإستحالة الرومانسية، هو ما تسعى إليه ماوريتسيا ، وتبني حوله عالمًا مبتكرًا تعشق فيه بالإيطالية والفرنسية والألمانية؛ هي عايدة وكارمن ولوسيا دي لاميرمور، وفي كل مرة يكون ليوناردو غوميز موضوع شغفها الخالد". ولأنها غير راغبة في الإستسلام لحياة عادية، وغير قادرة على إستخلاص رد فعل عاطفي متبادل تمامًا من ليوناردو، يجب على ماوريتسيا أن تخلق نفسها وليوناردو في واقعها الخاص، وأن تُعرّف نفسها في آنٍ واحد من خلال الوعي واللاوعي. إن خلق نفسها وليوناردو على صورتها الخاصة ضرورة نفسية لماوريتسيا لأنها مصممة على أن تعيش "قدرها في عظمة". بالنسبة للعالم الذكوري المحيط، تبدو خيالاتها المفرطة سلوكًا شاذًا، "كشخصية هربت من قصة ما". في قصة "توسكا"، يُمثل الخيال والإبداع المجال الحقيقي للأنثى، الذي يُنتج في آنٍ واحد ثنائية الخالق/المدمر في ماوريتسيا . تُضفي هذه الثنائية على الأنثى إمتيازًا ليس فقط كعامل مُحفِّز لتحقيق المساواة في إختلال التوازن بين الذكورة والإنوثة داخل النظام الأبوي، بل أيضًا للكشف عن التفوق الطبيعي للأنثى في جدلية الذكورة والإنوثة . في هذه الثنائية يتضمن فهمنا للذكر عكس ترتيب كلمتي "أنثى" و"ذكر". هذا العكس المادي تصحيحٌ ضروريٌّ لتمثيل النظرة التقليدية للأنثى بدقةٍ بإعتبارها العنصر الأساسي، النابعة من فكرة أنها المصدر الطبيعي لكلا الجنسين. هذا هو الدور الذي أُعيد تعريفه والذي أنجزته ماوريتسيا من خلال تصميم صارم، ويسمح بإدراج ليوناردو في هذا التشكيل الجديد، لأنه على عكس إيزيو، الذي يفتقر إلى "الثقافة"، يُقدّر ليوناردو الأوبرا، وبالتالي يتمتع بمرونة في الشخصية يمكن لماوريتسيا إستخدامها لإعادة تشكيل ليوناردو في مخيلتها أولاً، ثم نقل ذلك كواقع إلى محيطه الإجتماعي. نتيجةً لذلك، يُصبح ليوناردو "ماريو" ويحتفظ بهذا التصنيف الرومانسي طوال القصة: فهو "شاعر"، و"بطل أوبراها الشخصية"، وأخيرًا "قديس مُكرّس لخدمة البشرية". هذه العملية الإبداعية ليست مجرد تسلية أو فرض تعسفي، إذ إن إعادة ماوريتسيا خلق ليوناردو تنطوي على تضحية كبيرة بالنفس. فهي تُكرّس نفسها "لرعايته"، وتُرافق ليوناردو إلى "المستشفيات النائية "، وتتولى "واجبات الممرضة لمساعدته". تُمكّن القوة الإبداعية الفطرية لدى الأنثى ماوريتسيا من المشاركة في الواقع، مع توظيف القدرات العقلية العليا والخيال والإبداع في الوقت نفسه، إذ تتخيل نفسها ليست مجرد ممرضة، بل "فلورنس نايتنغيل" الأسطورية نفسها. وكما هو الحال في جميع الولادات، حيث يصبح الذكر ثانويًا وغير ضروري لعملية الخلق، فإن مشاركة ليوناردو في أدواره المُعاد تشكيلها خياليًا لا أهمية لها: "إعطاء ليوناردو فضائل طوباوية... لم تتوقف [ماوريتسيا ] أبدًا لقياس رد فعل حبيبها، أو معرفة ما إذا كان يُواكبها في شغفهما الكبير". وبصفتها الأم المُهيمنة المسؤولة عن الخلق، فإن كل ما تحتاجه ماوريتسيا لتُظهر " للعالم أنهما بطلا حب إستثنائي" هو أن تُدرك أن الذكر (ليوناردو من خلال خدمته الطبية وإرتباطه بـ"ريفية المُخيم") مثل الأنثى "على إتصال بالطبيعة". إن إرتباطها البدائي بالطبيعة يسمح لماوريتسيا بالعمل بالنيابة في الواقع والخيال، وبين الحدود الجندرية الجامدة الناتجة عن هيمنة المعايير الجنسية المغايرة. بصفتها الأنثى، المبدعة الطبيعية، يمكن لماوريتسيا أن تكون في آنٍ واحد سيدةً ترتدي "حجابًا" و"مظلة"، و"مدام بترفلاي"، وتُبدي "عزمًا إنتحاريًا" أو "دلالًا خجولًا"، وتعيش في ظروفٍ تنطوي على "بعوض وحشرات سامة وإغوانا، وحرارة جهنمية"، وتُنشئ ما قد يراه الآخرون وهماً أو "هلوسة"، وتنجو من "الألم الحيواني" الناشئ عن ذكرياتها عن الإبن الذي اضطرت إلى تركه. بهذا الإصرار، تُنشئ عالمًا لنفسها، كل ذلك دون أن تُلغي أنوثتها أو أن تضطر إلى رسم خط فاصل بين الواقع والحلم. بصفتها رائدة أوبراها التي أبدعتها بنفسها، فإن إدراك ماوريتسيا الثابت بأن "البطل الحقيقي للدراما" ربما كان زوجها، إزيو لونغو، الذي "أرادت أن تصدق أنه ظلّ يرغب بها"، يكشف عن ضغوط الأنثى لتعريف نفسها بالوجود. إن "الحب الدائم والعاطفي" الذي قدمه إزيو "لم يكن من طبيعة [ليوناردو]". إبنها البالغ، الذي ترى فيه اندماجًا بين الجنسين، يتمتع "بعظامها الطويلة وبشرتها الرقيقة"، لكنه يحمل أيضًا فظاظة والده، "يدقّ على الطاولة ليؤكد كلماته". في نهاية أوبراها، تقف ماوريتسيا وحيدة تراقب من بعيد تفاعل الأب والابن، وتدرك أنه حتى بعد أن خلقت "بعدًا جديدًا" لنفسها، فإن "الحنان الرجولي والتواطؤ الراسخ" الموجود في الرجولة يستبعد ماوريتسيا ، الأنثى. تتراجع دون أن تتدخل في هذا العالم الذكوري للأب/الابن؛ وبنفس "الإحساس الراسخ بقيمة الذات" الذي تلاحظه في إبنها، تقف ماوريتسيا على " الحد الفاصل بين الواقع والحلم"، وتغادر الحانة وتعود إلى منزلها. الببغاء الذي يحلق فوق رأسها كـ" ملاك غريب" يربطها بالطبيعة ويرفع تجربتها إلى ما وراء الماديات. في هذا التكوين، تكون ماوريتسيا الأنثى مكتملة العقل والجسد والروح؛ فهي الدال الذي يوفر القواعد التي يمكن للمدلول من خلالها أن يجعل نفسه مقبولاً والشروط التي يجب الإعتراف بها. ومع ذلك، فإن عبء التحول عبء وحيد. بإعادة هيكلة ليوناردو على صورتها الخاصة، ليناسب معاييرها الخاصة من الرقي والحساسية، تُحوّله ماوريتسيا إلى مشروع، وهو النهج نفسه الذي إتبعه إزيو في محاولاته الفاشلة لتصوير شغفه بها. في هذا التمرين، يُصبح ليوناردو أقرب إلى قطعة فنية منه إلى عشيق يبادلها الحب . ولعلّ أحد الرسائل المهمة لقصة "توسكا" لأليندي تقول أنه في خضم الحاجة لتعريف ماذا تعني الأنثى حقاً ، فإن جدلية الأنثى/الذكر تجعل الأنثى غير مفهومة تقريبًا للذكر. بدءًا من الصفة "بسيطة"، تُشكّل الطبيعة الخطابية لسياسات جسد الأنثى ساحة اللعب في القصة القصيرة "ماريا البسيطة". إنها قصة تفكيك وإعادة بناء كاملة للأنثى. تبدأ القصة بوفاة ماريا، "عاهرة عجوز بروح فتاة". لكن لم تكن هذه هي البداية. بدأت حياتها في عالم تقليدي يهيمن عليه الذكور، حيث تُفرض القيود في المقام الأول على الأنثى. ماريا هي "إبنة" عائلة إسبانية "فخورة". في الثانية عشرة من عمرها، مع بداية سن البلوغ، "صدمها قطار شحن... نقلها إلى حالة من البراءة". نسيت "دراستها... دروس البيانو [و] استخدام إبرة التطريز". بعد أن دخلت ماريا في حالة من البراءة التامة، ومع فقدانها قبعتها، وهو ما يرمز إلى التخلي عن التقاليد واللياقة، أصبحت متحررة نسبيًا من التصنيفات الأبوية. ورغم أنها فقدت قدرتها على التفكير وفقًا للمعايير التقليدية، إلا أن ما إحتفظت به ماريا، بعد الحادث، هو "كياستها". فأثر الحادثة جعلها "خالية من العداوة... ومهيأة تمامًا للسعادة". في السادسة عشرة من عمرها، إعتبرها والداها عبئًا عليهما، فزوجاها من "عريس يكبرها بعقود". هذا الزواج الغريب كان أقرب الى الصفقة منه الى التفاهم والحب: ماريا بمثابة سلعة تُسقط دين العريس، الدكتور غيرا، لعائلتها. بعقلية بريئة في جسد امرأة، تدخل ماريا "سرير الزوجية" بمعرفة جنسية مبنية على الملاحظة فقط. لقد رأت "ماءً باردًا يُستخدم لفصل الكلاب... غير القادرة على الإنفصال بعد التزاوج [و]... الديك ينفش ريشه ويصيح عندما يريد وطأ دجاجة". كانت هذه أمورًا لوجستية "لم تجد لها أي غرض مفيد"، ولم تُعرّفها تجربتها مع "رجل عجوز يرتجف وعنده شيء غير متوقع أسفل سرته" على أي شيء سوى العجز الذكوري وآلام الولادة. مع وفاة زوجها، تقترب ماريا من التحرر من السيطرة الأبوية، على الرغم من أنها لا تزال مقيدة بالتقاليد وهي تخضع لطقوس الحداد، التي يتخذ خلالها الآخرون "حتى أبسط القرارات نيابةً عنها". بعد عامين من هذه الفترة التي تبدو بلا نهاية من الحداد، والتي تُنسب في الغالب إلى النساء، تُنهي ماريا سيطرتها الأبوية بشكل نهائي، فترفع حجابها، وتبتسم، وتستجيب لنداء الجنس "الذي لا يُطاق"، ذلك "صوت الدم الذي يتدفق في دمها". على متن سفينة متجهة إلى إسبانيا، حيث توقعت العائلة أن تحمي ماريا "تقاليد راسخة وقوة الكنيسة"، إختبرَت ماريا بالفعل قوى القضيب و المهبل عندما سمحت لرجلٍ ذي بشرة داكنة بـ"إزالة حجابها الأسود" وإغوائها. مستلقيةً على "لفافة حبل"، وهو تمثيلٌ مشترك للقضيب والمهبل ، تعلمت ماريا " في أقل من ثلاث دقائق الفرق بين زوجٍ عجوزٍ خدعه خوف الله وبحارٍ يونانيٍّ نهمٍ متأججٍ من ... أسابيع من العفة المحيطية". في هذه الرحلة التحويلية، تفقد إبنها الرضيع في حادث غريب، وعذريتها النسبية أمام "ظلٍّ مظلم في ضوء القمر". ورغم قصر مدة الجماع، يبقى البحار وزوجها القديم متطابقين، إلا أن قوة البحار الذكرية تُلهب شهوة ماريا. ما يوقظ فيها ليس رهبتها من القضيب، بل التلذذ المطلق. مغمورةً بضوء قمر أفروديت، تكتشف ماريا الشهوة الجنسية ليس فقط من منظور مهبلي، بل من منظور جسدي وروحي ككل. هذا التكافل يُزيل شهوة ماريا من دناءتها المرتبطة تقليديًا بالسلوك الفاحش، ويرفعها إلى جوهرها الأنثوي الذي لا يمكن تفسيره. فالتلذذ الذي تتمتع به ماريا يخلو من الإنزعاج الذي يربطه جاك لاكان بالمتعة الجنسية الشديدة أو الشعور الفرويدي بالعودة إلى تجربة شبيهة بالموت ناتجة عن متعة النشوة. تلذذ ماريا هو قوة حياة خالصة، عملية توليدية مستمرة، شاملة، تُزيل التوترات التاريخية بين قطبي الذكور والإناث، مما يؤدي إلى تقارب بين الجنسين من خلال التجلي الجنسي. تمتزج متعتها بسهولة مع إيمانها بأن هذه المتعة هي "نعمة من السماء وعدت بها الراهبات في مدرستها فتيات صالحات في الآخرة". في غياب الضوابط الإجتماعية وتحررها من كونها سلعة جنسية، ودفعها إلى البراءة من خلال إصطدام عنيف بقاطرة (في جوهرها قضيب)، فإن الجنسانية والروحانية المندمجة لماريا تُحدد سياسات جسدها، وهي لغة التواصل الجديدة التي يمكن أن تنقل متعتها إلى أولئك الذين يشاركونها جوهرها، مما يؤدي إلى التحلل الإنتروبي للقواعد الإجتماعية التي تتسم بالأحادية الذكورية. أن البحار "المشاجر والسكير"، الذي لا يستطيع سوى "ممارسة... الألعاب البهلوانية التي تعلمها في بيوت الدعارة من سنغافورة إلى فالبارايسو"، مُقيدٌ بطاقةٍ قضيبيةٍ خام، وعاجزٌ عن الإستجابة لتلذذ ماريا، فيفرّ منها كما لو كانت أرملةً سوداء، "عنكبوتًا منحرفًا سيلتهمه كذبابٍ أعزلٍ في ضجيج فراشهما". ما هو بيولوجي أو طبيعي لماريا يتجلى كتجربةٍ ميتافيزيقيةٍ لكل رجلٍ تصادفه. بعد رحيل البحار اليوناني، يقترب أول "غريب" يختبر تلذذ ماريا من اللقاء الجنسي بموقفٍ تقليدي عن تفوق الرجولة، مُعتقدًا أنه "سيستمتع معها لعشر دقائق... دون أن يشكّ أبدًا... أنه سيجد نفسه في دوامةٍ من شغفٍ صادق". ينشر خبرًا مفاده أن ماريا تملك القدرة على بيع "وهم الحب". وإرتفعت نسبة رضاها بشكل كبير، جاعلةً منها "أشهر عاهرة في الميناء". حوّلها زبائنها إلى أيقونة، وشموا "إسمها على أذرعهم" وحكوا "قصتها في بحار أخرى، حتى إنتشرت الأسطورة... في جميع أنحاء العالم". يتغير الدافع الذكوري الفطري لإمتلاك الأنثى لدى شركائها بعد تجربتهم مع ماريا، جاعلاً إياهم هدفًا مُستقبِلًا لهذه الإلهة الشهوانية. بجسدها وحماسها وأسلوبها الأنيق، تُغيّر ماريا سيميائية الرموز الإجتماعية والسياسية التي تضع الرجل تقليديًا في موقع الهيمنة. بتلذذها، تبرز كفاعل، مُغيّرةً بإستمرار هذا الإفتراض بالهيمنة الذكورية. حتى مع تقدمها في السن الذي جعلها مجرد "جرادة صغيرة"، "كومة عظام بائسة"، "نكرة صغيرة" رفضت العديد من الزبائن حزنًا، ومع ذلك، عندما امتنع أحد العملاء عن ذلك بسبب الشفقة، تم مكافأته بشكل غير متوقع "، غادر "مذهولًا... يحمل معه صورة فتاة أسطورية، وليست تلك العاهرة العجوز البائسة التي ظن أنه رآها عند وصوله". لا يوجد إتزان عاطفي في هذه التجربة مع ماريا. يغادر الرجال وقد ضاعت أفكارهم الرجولية . مدركين لعمل ماريا لكنهم غير قادرين على إيجاد اللغة التي يمكن أن تُعرّف متعتها، يلجأون إلى تأليهها وتأليه التجربة. أن متعة ماريا منضبطة، سلسة، وشاملة، تُزيل الفوارق بين اللياقة الذكورية والتنافر الأخلاقي واللاعقلانية الدينية. لكل زبون ، "وهبت نفسها" "بنفس الحب الذي لا هوادة فيه، متوقعةً، كعروس جريئة، رغبات الأخرين". لم ترَ ماريا فيهم قط أشياءً مجهولة، بل مجرد إنعكاسٍ لنفسها بين ذراعي حبيبها الخيالي. إن قدرة ماريا على التعبير عن شخصيتها وشخصية شركائها الذكور، بالإضافة إلى أسلوبها المُركّز والمُتعمّد في التعبير عن شغفها، هما محور متعتها التي تتوسط من خلالها في المجال الخطابي لديناميكيات الإناث/الذكور. مكفّرةً، في الوقت نفسه، عن أوجه عدم المساواة التي يُسبّبها الرجال والصراع المُصاحب لها. وفي النهاية، تُبيّن أن تحقيق المساواة بين الرجال والنساء ضروريٌّ لمواجهة التحديات التي تواجهها النساء نتيجةً للأنظمة التي يُهيمن عليها الرجال. أن "ماريا البسيطة" هي قصة واقعية سحرية تمثل إدانة للمعتقدات الأبوية التقليدية الضيقة حول المجتمع والأخلاق والدين والأساطير، والتي تبقي المرأة عالقة في دور متكرر ومهين. تُغيّر القصة هذا التهميش المُتجذّر والمُستمرّ للمرأة بفعلٍ عنيفٍ سريعٍ يضع ماريا في حالةٍ دائمةٍ من البراءة، حالةٍ معرفيةٍ تُتيح لها المسافةَ الإبداعيةَ اللازمةَ لابتكارِ أنماطٍ سلوكيةٍ تتحدى المألوف. في هذا الإطار تستعمل جسدها لإعادةِ خلقِ القواعدِ الإجتماعيةِ التي يُهيمنُ عليها الذكور، فتُصبحَ مُثيرةً للشهوةِ الجنسيةِ التي تُسمو بها إلى عالمِ الألوهية، الإلهةِ القادرةِ على تحويلِ الأفكارِ والممارساتِ الإجتماعيةِ والأخلاقيةِ والدينيةِ والأسطوريةِ المُتمركزةِ حولَ الذكورة. إن تصوير وفاتها الذي يكاد يكون تدنيسًا يظهرها مستلقية مثل العذراء مريم، وهي تحمل طفلها ، الذي كاد أن يكون معجزة ، بين ذراعيها. يمثل تحدي ماريا للنظامِ الأبويِّ سعيًا وراءَ السلطةِ الشخصيةِ للأنثى. عقلها "البسيط" يسمح لها برؤية الجنس كهبة سماوية، وبالتالي يُخلّصه من الخطيئة، تاركًا عذريتها الروحية سليمة. يحتضنها زوجها المُسنّ بخوف الرب في قلبه، وفي الواقع، إنها لمعجزة أن يُلقّح ماريا، التي، كالعذراء مريم، لا تُدرك حملها. تتحدى ماريا الأعراف القديمة وتلجأ إلى شرب الشوكولاتة، المُنشّط الجنسي لآلهة المايا والأزتك والمُحرّم على النساء، متبعةً نفس الطقوس تقريبًا التي اتبعتها آلهة أمريكا الوسطى: إستهلاك كميات كبيرة من هذا المشروب السحري الذي يُعتقد أنه يمنح من يتناوله الحكمة والقوة. إن تعميد ماريا على ضوء القمر على لفافة حبل يرفعها إلى مستوى الثالوث: إلهة القمر، العذراء، الأم والعجوز، مما يمنحها القدرة على الحفاظ على لذتها بمقاييس أسطورية. تُفكك المحاكاة الساخرة الواضحة في هذه القصة العالم الذكوري الذي تخضع له النساء، مما يُحدث تحولات في اللعبة السيميائية للعلامات والإشارات في المجتمع الذي يفرض حاليًا قانونًا ذكوريًا على سلوك الأنثى. تُعدّل ماريا، بصفتها أداة هذا التفكيك، قواعد الأدوار الراسخة بين الرجال والنساء، مما يُؤدي في النهاية إلى تحولات في شخصيات زبائنها ، الذين يعملون ضمن القواعد الإجتماعية والأخلاقية والدينية الراسخة، مما يجعلهم متلقين لرمزية ماريا. تكشف قصتا "توسكا" و"ماريا البسيطة"، من خلال الكوميديا السوداء والمحاكاة الساخرة الدينية والإجتماعية، عن المبادئ الأساسية المعيبة للنظام الأبوي التي غالبًا ما تُهدد بتغيير البنية الأساسية للأنوثة. تتحدى بطلات هذه القصص السيطرة الأبوية، ويحققن فرديتهن من خلال التضحية بالنفس والعناد الراسخ. يُوازي تحوّل شكل القصة القصيرة تحوّل سياسات الجسد الأنثوي، والطبيعة المتغيرة والأسطورية للأنوثة التي غالبًا ما تبدو غامضة للنفس الذكورية. يُسرّع هذا الترابط بين الشكل والمضمون وتيرة الأحداث داخل القصص، ويُضخّم التوترات بين الجنسين بشكل كبير، مُلفتًا الإنتباه إلى أوجه عدم المساواة بين الجنسين، وتحديدًا تبعية الأنثى. على الرغم من أن الذكور في هذه القصص لا يزالون مُنعزلين عن حساسيات الأنوثة، كما في قصة "توسكا"، أو غير قادرين على إستيعاب التصوف الكامن في الجنسانية الأنثوية تمامًا، كما هو مُعبّر عنه في قصة "ماريا البسيطة"، فإن النتيجة المُتأتية في هذه القصص ليست إستقطابًا ذكوريًا/أنثويًا لا يُمكن تجاوزه، بل تقاربًا بين الجنسين في إعادة تدوين أنثوي/ذكري واضح في قصة "توسكا"، واندماج السيميائيات الكامنة في التوترات بين الذكور والإناث من خلال التجلي الجنسي المُصوّر في قصة "ماريا البسيطة". على عكس نظرائها الذكور، تعيش الإناث في هذه السرديات حالة تطور مستمر. تتطلب الرغبة في تعريف أنفسهن، وكذلك إستيعاب الذكور ضمن هذا التعريف، تزامنًا بين التفكيك وإعادة البناء، وهي عملية إبداعية دورية تعكس كرم الأنثى، وتحتضن تعديلات لا حصر لها، وتقدم نتائج لا حصر لها. الأنثى، مثل الشكل الطبيعي للقصة القصيرة، دائرية، وبالتالي مفتوحة على بدايات ونهايات متعددة. وبالتالي، فإن تعريف الأنثى، كما هو الحال في تعريف القصة القصيرة، هو أمر مطول وأسطوري. هذا هو الترابط السامي الذي يشترك فيه الجنس الأدبي والجندر الأنثوي. ومثل القصص نفسها، فإن الشخصيات النسائية في "قصص إيفا لونا" هي شخصيات من خيال الكاتبة . إناثٌ مثل بيليسا كريبوسكُلَرْيو وهيرميليندا وإيلينا وكلاريسا وماوريتسيا وماريا، هنّ أفرادٌ ورائدات أعمالٍ صنعن أنفسهن بإنفسهن . تكمن قوتهنّ المطلقة في سياسات اللغة والجسد، في توجيه الذكور بشكلٍ منهجيٍّ، لغويًا وجسديًا، إلى نقطة بعثٍ حيثُ يجب على الذكور إعادة إكتشاف الإناث اللواتي يقابلونهن معرفيًا، لا جسديًا. الشخصيات النسائية حاضرة لا من خلال الغياب بل بحكم كونهن أساسيات . إنها تحقق التأثير المطلوب من خلال السلطة البدائية وتغير الوصفات الذكورية التعسفية الموجودة دون تحيز. أن بيليسا كريبوسكيولار و كلاريسا وإيلينا وهيرميليندا وماوريتسيا وماريا بطلات متكاملات قادرات على السيطرة على الوضع بمجرد وجودهن، دون شغل أي منصب رفيع أو تسميات مثل العقيد أو الرعاة. إنهن ناجحات في سياساتهن لأنهن يدمجن العاطفة والمنطق في قوة واحدة لا يمكن التغلب عليها. يأتي التفوق السياسي لهؤلاء الإناث من خلال بنيتهن الجينية. اللغة والجنس والحدس هي التوقيع الموحد لهذا النمط الجيني، الكل الكنكامل . عند الذكور، يصعب العثور على الحدس، والجنسانية فعل تملكي وعنيف بشكل سادي، واللغة بناء نظري. وهكذا، ما تستطيع الأنثى إنجازه بمجرد إطراء بسيط، يُكافح الذكر للفصل والفهم والتركيب ثم التصرف، ولكن بحلول ذلك الوقت يكون قد خسر اللعبة السياسية. أن قصص"كلمتان"، "كلاريسا"، "فتاة شريرة"، "فم الضفدع"، "توسكا"، و"ماريا البسيطة" ليست ليست مجرد جدالات أو قصص تهدف إلى إثبات وجهة نظر . بل على العكس، مستفيدةً من الجماليات الغامضة لشكل القصة القصيرة، إلى جانب إنفتاح هذا الجنس الأدبي الذي يسمح بإدراج إمكانيات لا تنضب في الشكل والمعنى، تستكشف القصص لغز الأنوثة ووبائيات السيطرة الذكورية. إلى جانب إدراك الصراعات الراسخة المُحددة على أسس جندرية، تُشير هذه القصص إلى الإمكانيات العديدة للتعايش المتوازن. في إطار سعيها إلى جلب الأنوثة إلى الوجود وضمان المساواة للنساء في عالم يهيمن عليه الذكور في المقام الأول، تؤكد النساء في هذه القصص على وجودهن ويستخدمن أساليب بديهية تحافظ على الخلق الدائم لكلا الجنسين. تُكمّل البنية المفتوحة للقصة القصيرة عدم الحسم الموضوعاتي في علاقة الأنثى/الذكر والإنفتاح المُبهم في مفهوم الأنثى. على أقل تقدير، يكشف محتوى هذه القصص عن الحاجة إلى إعادة تقييم مدروسة للمعتقدات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والدينية، مع إدراك أن القضايا المتعلقة بالأنثى والجندر، بأنماطها غير المنتظمة المستمرة التي تتحدى التعريف الواضح، تُشبه الكسيريات ، مُعقدة بشكل لا نهائي.
#محمد_نجيب_السعد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التقليلية في الشعر : مقدمة تعريفية
-
القصة المايكرو
-
قصص همنغواي القصيرة /3:
-
حروف سوداء فوق صفحات بيض: أدب سكان استراليا الأصليون
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-5
-
قصص همنغواي القصيرة/2
-
قصص همنغواي القصيرة /1
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-4
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-3
-
وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاين
...
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-1
-
هل الأكثر يعني أكثر أم الأقل يعني الأكثر : بين التقليلية و ا
...
-
رسائل إليوت الى إميلي هيل تكشف عن لوعة حب كبيرة
-
لماذا ما زلنا نقرأ إرنست همنغواي؟
-
صور الحرب عند همنغواي
-
همنغواي : أسلوب اللاأسلوب
-
الشمس تشرق أيضا : قراءة في مسودات رواية همنغواي
-
شعر الغاوتشو:رعاة البقر الأرجنتينيين
-
شعر الأحراش : شعر رعاة البقر الأستراليون
-
قراءة في شعر رعاة البقر الأميركيين 2
المزيد.....
-
زيارة العراق تحرم فناناً مغربياً شهيراً من دخول أميركا
-
تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد -خروج الثورة من المساجد-، ماذا
...
-
تحقيق جديد لواشنطن بوست ينسف الرواية الإسرائيلية عن مذبحة مس
...
-
-فيلم ماينكرافت- إيرادات قياسية وفانتازيا صاخبة وعمل مخيب لل
...
-
هكذا قاد حلم الطفولة فاطمة الرميحي إلى نهضة السينما القطرية
...
-
ستوكهولم: مشاركة حاشدة في فعاليات مهرجان الفيلم الفلسطيني لل
...
-
بعد منعه من دور العرض في السينما .. ما هي حقيقة نزول فيلم اس
...
-
هل تخاف السلطة من المسرح؟ كينيا على وقع احتجاجات طلابية
-
تتويج أحمد حلمي بجائزة الإنجاز في مهرجان هوليود للفيلم العرب
...
-
فيلم -إسكندر- لم يعوض غياب سلمان خان السينمائي
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|