محمود محمد رياض عبدالعال
الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 00:14
المحور:
قضايا ثقافية
القهاوي الشعبية: رؤية سوسيولوجية
تُمثِّل "القهاوي الشعبية"(المقاهي التقليدية) فضاءً اجتماعيًا وثقافيًا مهمًّا في العديد من المجتمعات، خاصة في العالم العربي. من خلال عدسة علم الاجتماع، يمكن تحليل هذه الظاهرة كمرآة تعكس التفاعلات الاجتماعية، والطبقات الاقتصادية، والتحولات الثقافية. فيما يلي بعض الأبعاد السوسيولوجية لـ القهاوي الشعبية:
الوظيفة الاجتماعية للقهاوي
- فضاء للتجمع غير الرسمي: تُعدُّ القهاوي أماكن للالتقاء اليومي، حيث تُبنى العلاقات عبر الحوارات حول السياسة، الرياضة، الشؤون المحلية، وحتى الأساطير الشعبية.
- تعزيز التماسك المجتمعي: في الأحياء الشعبية، تلعب القهاوي دورًا مشابهًا لدور "الساحات العامة" في الماضي، حيث تُذوب الفوارق الطبقية مؤقتًا.
- نقطة التقاء الأجيال: يجلس كبار السن والشباب معًا، مما يُسهِّل نقل القصص والتقاليد الشفوية.
البُعد الاقتصادي والطبقي
-انعكاس للهيكل الطبقي: تُظهر القهاوي الشعبية التمايز بين فئات المجتمع؛ فبعضها يُخصَّص للعمال، والبعض الآخر للمثقفين أو كبار السن.
- اقتصاد غير رسمي: تُشكِّل القهاوي مركزًا للتبادل الاقتصادي البسيط (مثل بيع السجائر، المراهنات، أو حتى التوظيف العابر).
- التكلفة الرمزية: أسعار الخدمات فيها منخفضة مقارنة بالمقاهي الحديثة، مما يجعلها ملاذًا للفئات محدودة الدخل.
التحولات الثقافية والهوية
- صراع التقليد والحداثة: مع ظهور المقاهي الحديثة (كالكافيهات الغربية)، أصبحت القهاوي الشعبية رمزًا للهوية المحلية المهدَّدة بالانقراض.
- الفنون الشعبية: في بعض المناطق، تُحيي القهاوي فنونًا مثل السرد القصصي، لعبة الطاولة (الطاولي)، أو الموسيقى الشعبية (كالمزمار في العراق أو الدومينو في مصر).
- الذكورة والفضاء العام: تاريخيًا، تُعتبر القهاوي فضاءً ذكوريًا بامتياز، مما يعكس أدوار الجندر في المجتمع التقليدي، لكن بعض المجتمعات شهدت مؤخرًا محاولات لكسر هذا النمط.
السياسة والقوة
- نقاشات سياسية تحت الرادار: في فترات القمع السياسي، كانت القهاوي أماكن للتعبير عن الرأي بعيدًا عن الرقابة الرسمية.
- تمثيل السلطة: أحيانًا تُستخدم القهاوي من قبل الأجهزة الأمنية لمراقبة الرأي العام أو تجنيد المخبرين.
التحديات والانقراض المحتمل
- العولمة والاستبدال: مع انتشار المقاهي التجارية (مثل ستاربكس)، تضمحلُّ القهاوي التقليدية، خاصة بين الشباب.
- التهميش الحضري: في المدن الكبرى، تختفي القهاوي بسبب سياسات التطوير العمراني التي تُفضِّل المشاريع الربحية.
- المحافظة على التراث: في بعض البلدان (مثل المغرب أو اليمن)، تُحاول جمعيات حماية التراث إدراج القهاوي كجزء من الذاكرة الجماعية.
القهاوي الشعبية ليست مجرد أماكن لشرب القهوة، بل مؤسسات اجتماعية مصغَّرة تُجسِّد تاريخًا من العلاقات الإنسانية والصراعات الطبقية والثقافية. دراستها سوسيولوجيًا تُظهِر كيف أن الفضاءات البسيطة قد تحمل في طياتها أسرارَ المجتمع وتناقضاته.
هل ترى أن القهاوي الشعبية ستختفي في المستقبل، أم أنها ستتكيف مع التغيرات؟
الإجابة على سؤال مصير القهاوي الشعبية:
من خلال الرؤية السوسيولوجية، يُمكن القول إن مصير القهاوي الشعبية لن يكون اختفاؤها الكامل، بل تحوُّلها أو تَقلُّص دورها، وذلك وفقًا للعوامل التالية:
احتمالية البقاء (لكن بتحوُّلات):
- الوظيفة الاجتماعية المستمرة: طالما وُجِدَت فئات مجتمعية تبحث عن فضاءات غير رسمية منخفضة التكلفة، ستظل القهاوي موجودة، خاصة في الأحياء الشعبية والمناطق الريفية.
- القيمة الرمزية: بالنسبة للكثيرين، تمثِّل هذه الأماكن ذاكرة جماعية وارتباطًا بالهوية المحلية، مما قد يُبطئ انقراضها (مثل مقاهي الحكواتي في المغرب أو المقاهي الأدبية في مصر).
- التكيُّف مع العصر: بعض القهاوي بدأت تدمج عناصر حديثة (مثل الواي فاي، أو تقديم مشروبات جديدة) لجذب الشباب، مع الحفاظ على طابعها التقليدي.
عوامل التهديد (الانقراض الجزئي):
- العولمة والاستهلاك: تفضيل الأجيال الجديدة للمقاهي ذات الطابع الغربي (التي تُقدِّم خدمات فردية وعزلةً عن الآخرين بدلًا من التفاعل الجماعي).
- التحوُّلات الحضرية: سياسات التطوير العمراني التي تستبدل الأماكن الشعبية بمراكز تجارية أو مشاريع سياحية.
- تغيُّر أنماط التواصل: انخفاض الحاجة إلى الفضاءات العامة المباشرة مع انتشار التواصل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
سيناريوهات محتملة:
- التحوُّل إلى تراث ثقافي: قد تُصبح بعض القهاوي أماكنَ جذب سياحي أو فضاءاتٍ فنية (كما حدث في بعض مقاهي إسطنبول أو دمشق القديمة).
- الانحصار في فئات محددة: قد تبقى كمُلجأ للفئات العمرية الكبيرة أو العمالة البسيطة، بينما تختفي من أحياء الطبقة المتوسطة.
- الصمود في الريف والأحياء المهمَّشة: حيث لا تزال تلعب دورًا اجتماعيًا واقتصاديًا أساسيًا.
القهاوي الشعبية لن تنقرض تمامًا، لكنها ستشهد إما انحسارًا تدريجيًا في المدن الكبرى لصالح النمط الاستهلاكي الحديث، أو تحوُّلًا يحافظ على جوهرها مع تجديد شكلها. بقاؤها مرتبط بقدرتها على التكيُّف مع حاجات المجتمع المتغيرة، وفي الوقت نفسه بحركة المجتمع نفسه في الحفاظ على تراثه كفضاء حيوي للتفاعل الإنساني.
السؤال الأعمق: هل فقدان هذه الفضاءات يعني فقدانًا لـ "روح المجتمع التقليدي" لصالح فردانية العصر الحديث؟
مصير القهاوي الشعبية بين الصمود والتحول:
تظل القهاوي الشعبية في مفترق طرق تاريخي، حيث تواجه تحديات مصيرية تتراوح بين الاندثار الكامل والتكيف الناجح. من خلال تحليل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يمكن استشراف عدة سيناريوهات لمستقبلها:
سيناريو الصمود النسبي:
- ستستمر القهاوي في المناطق الريفية والأحياء الشعبية حيث تحافظ على وظيفتها كمركز اجتماعي واقتصادي
- ستبقى كفضاء للفئات العمرية الكبيرة والعمالة اليومية الذين يشكلون جمهورها التقليدي
- ستتحول بعضها إلى أماكن تراثية تقدم تجربة ثقافية سياحية، كما حدث في بعض المدن العتيقة
سيناريو التحول والتجديد:
- ستضطر بعض القهاوي لتبني عناصر حديثة (خدمات رقمية، قوائم متنوعة) مع الحفاظ على هويتها
- قد تظهر أجيال جديدة من القهاوي "الهجينة" التي تزاوج بين الأصالة والمعاصرة
- سيتقلص دورها كفضاء للنقاش السياسي لصالح المنصات الرقمية، لكنها قد تحافظ على دورها الثقافي
سيناريو الانحسار التدريجي:
- ستواجه ضغوطاً متزايدة في المدن الكبرى بسبب تغير أنماط الاستهلاك والعمران
- ستفقد تدريجياً جمهور الشباب لصالح المقاهي الحديثة التي توفر خصوصية أكثر
- قد تتحول إلى ظاهرة نادرة أو متخصصة تخدم جمهوراً محدوداً
العامل الحاسم:
سيعتمد مصير القهاوي الشعبية على قدرتها على:
- تجديد نفسها دون فقدان هويتها
- جذب الأجيال الجديدة عبر ابتكار أدوار جديدة
- التكيف مع التحولات الحضرية والرقمية
التأثير المجتمعي الأعمق:
في حال اندثارها، سنفقد أكثر من مجرد أماكن لشرب القهوة، بل سنفقد:
- مساحات التفاعل الاجتماعي العفوي
- قنوات نقل الثقافة الشعبية بين الأجيال
- منصات الحوار المجتمعي غير الرسمي
بينما يتجه العالم نحو الفردانية والعزلة الرقمية، قد تكتسب القهاوي الشعبية قيمة جديدة كواحات للتواصل الإنساني المباشر، مما قد يمنحها فرصة للبقاء في صيغة متجددة.
#محمود_محمد_رياض_عبدالعال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟