صافي صافي
الحوار المتمدن-العدد: 8308 - 2025 / 4 / 10 - 19:54
المحور:
الادب والفن
د.صافي صافي
حلمت أن أصير مدرسا، فصرت، وحلمت فيما بعد أن أكون مدرسا جامعيا، فكنت. كنت أقول وأجادل ويسمعونني وأسمعهم.
حلمت أن أكون سياسيا، فكنت فترة من الزمن. استمتعت بذلك، ووهبت نفسي، ثم حلمت ألا أكون، فكنت.
حلمت أن أصير كاتبا روائيا، فحاولت منذ أوائل الثمانينيات، وفي أواخرها كانت "الحاج إسماعيل" قد فازت بجائزة اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وأصدرت بعدها عشر روايات. حلمت أن أتميز برواية تخصني، ويعرفني الناس بها، ويعرفونها بي، فكانت أكثر من واحدة أولها "الحاج إسماعيل" وآخرها "زرعين".
حلمت أن أعشق وأُعشق، وأخبئه في صدري، فلا يدري به أحد غيرنا، فمرات كنت أنا الذي يدريه، ومرات أخرى دري به كثيرون. سهرت، وجافاني النوم، وهمت في الشوارع، وانزويت في البيت، وبكيت، وغضبت، وحزنت كثيرا، وما زالت بقايا نقاط سوداء ومضيئة داخلي، تظهر حينا، وتختفي حينا آخر. حنان واحدة منهن في روايتي "زرعين". لا تصدقوني تماما، فحنان وصفاء وسما وساما وسامية وريم ونجوى في المخيلة أكثر منها في الواقع. لقد كنا نخترع شخصيات نعيش معها، وتعيش معنا، في الخيال كما في أفلام الستينيات.
في "زرعين" كانت حنان التي عشقت الراوي وعشقها، ابنة بيسان، خفيفة الظل، مليحة الوجه، أصلها من زرعين، فلما تحول أهلها من فلاحين إلى تجار، انتقلوا إلى المدينة، وهجروا منها. حنان التي التقت الراوي في الكويت، أيام الدراسة الجامعية، كانت تبحث عن بيسان، فترى في الراوي، لأنه يسكن فلسطين، ترى فيه عشيقا، أو صديقا، أو رفيقا، سيوصلها إلى بيسان، لكنها لم ترتبط به عاطفيا، ولا زواجا، فأهلها لا يريدون أن يغربوها، فتفقد هويتها البيسانية، وفضلوا أن يزوجوها لواحد من أهل مدينتها، فظلت ظلال علاقة مع الراوي لا نعرف شكلها، وظلال علاقة مع بيسان، وظلال علاقة مع الداخل.
طالبني كثيرون أن أشرح لهم ما تبقى من قصة علاقة الراوي (هم يرون أن هناك تطابقا بيني وبين الراوي، فليكن، لكني لست أنا بالضبط) بحنان، فالقصة غير مكتملة. همهم أن يعرفوا نهاية هذه العلاقة المثيرة غير الواضحة. لم يهمني كثيرا هذا الأمر، إلا أن زرت عين التينة برفقة فريق، وتعرضنا لمضايقات شديدة من شباب وشابات في برنامج تأهيلهم للخدمة العسكرية، وكانت هذه الأحداث هي الوحيدة الحقيقية في رواية عين التينة. فعادت حنان لي مرة أخرى، لأكمل قصتها واستكمال ظلالها، وظل بيسان، وعتمة ليل اللقاء بها.
في العتمة؟ نعم. كل شيء مهم يحدث في العتمة، في الظل، في الوحدة: في الاتحاد مع آخر، الدراسة والنجاح، الالتقاء بحبيب، المكاشفة العاطفية، التحقيق في الزنازين، الاعتراف الديني والأمني، القبلة، الحضن، البكاء بصمت، الألم النفسي والجسدي، الصلاة الخاشعة، الإفطار في رمضان، الرسائل العاطفية، الانتكاس، الفشل، الانسحاب، العثور على كنز، .... فنستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان، ولو لفترة، لكننا ننكشف غالبا، تفضحنا عيوننا، وإيماءاتنا، واختلاف سلوكنا، فيكون الكتمان مؤقتا، وإن لم ننكشف مباشرة، نكشف أنفسنا للأصدقاء، وإن أصبحنا كتابا، نكشفه كتابة، فنختبئ وراء آخرين أو وراء أنفسنا بضمائر مختلفة.
لم تكن "عين التينة" ضمن خططي الروائية، كما غيرها: الحاج إسماعيل، والحلم المسروق، وزرعين، لكنها سقطت علي، وبزخم من الذين سألوني عن حنان، وعلاقتي بها.
أنا لست أنا، والمكان الروائي ليس المكان الحقيقي، فالمكان الروائي غير حقيقي وإن حاولنا ذلك، وأنا ليست أنا مهما تشاطرت، والزمن ليس هو بالضبط، لكني أجد أني أستطيع التعبير عن دواخل شخصية ما إذا تقمصتها، وهكذا فعلت في أكثر من مكان. ربما تلاحظون أني لم أستطع التعبير عن مشاعر حنان من داخلها، إلا من خلال سلوكها وكلماتها وإيماءاتها، لكني انطلق بالتعبير عن الراوي أكثر. هناك تشابك بيني وبين الراوي، حتى إن كثيرين رأوا ذلك، لكنه ليس أنا بالضبط، فأعرف الكويت، والأردن، وفلسطين، فأستطيع العيش فيها شخصيا وروائيا. هل ما أفعله هو هروب من علاقتي بحنان؟ لا، فكل له حنانه، وحنانات أصاب فيهن وخاب، وخرج من أزمة مؤقتة أو دائمة، وأنا لست متأزما، بل أتصالح مع نفسي كثيرا، فأغضب وأنسحب، وأضحك وأبكي، وأحزن وأفرح، وأخالط الناس وأنزوي، وأقرأ وأكتب.
إذا كانت ظلال العلاقة هي الأكثر ظهورا في "زرعين"، فإن هذه الظلال لم تنته تماما في "عين التينة"، فحنان دخلت بتصريح "فيزا" من الاحتلال. التقى الراوي (الداخل) بها (الخارج) في فندق في رام الله، ورفضت أن تتجول في المدينة، أو أي مدينة بما فيها القدس، فهي لم تود أن تشغل بالها أو ذاكرتها بغير بيسان. قطعوا البلاد من وسطها، من "عابرها"، وصلوا شمال البلاد حتى الجليل الأعلى، حتى الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية، وعادوا نحو بيسان، في الشارع الموازي تقريبا ل" عابرها"، اتجهوا شمالا أولا، ثم جنوبا في النهاية، نحو قبلتهم، قبلتها، فلم يروا المدينة، مدينتها، بل ظلالها أيضا، وظلال علاقة لم تكتمل أيام الشباب، ولن تكتمل في الشيخوخة، في معتقل مؤقت، في محطة قطار قديمة مهجورة، ونباتات صفراء، وحشرات، وأصوات رعاة على أحد جوانب النهر. توحدا بهدوء الإله شان، ولا نعرف لأي حد فعلا ذلك. ما سر هذه العلاقة؟ هل تطورت؟ هل هي واقعية؟ أممكنة؟ لا أعرف.
هل ما كتبته في "تايه" و "الباطن" و "زرعين" و "عين التينة" هو من أدب الرحلات، كما كتب بعض الأصدقاء؟ لا، طبعا. لم أقصد ذلك وإن اقتربت منه، فما كتبته هو نص أدبي إبداعي، وليس المقصود منه تسجيل الأحداث والأماكن والعادات والتقاليد والمعتقدات، وإن كانت هذه جزءا من العمل الفني. إنها رواية فحسب. صحيح أني تجولت بقدر مهم في أرض الوطن، لكني ما زلت أشعر بأني لم امتلكها تماما، فما زلت على السطح. هل سلوكي في الروايات الأخيرة نحو القرى المدمرة المهجرة هو "ثيمتي"؟ إذا كان كذلك، فقد جاء بشكل عرضي، ليس مخططا له تماما، رغم سعادتي بأن أكون، فأنا ابن واحدة منها، وإن ولدت بعدها بأعوام.
نسيت أن أقول بأنني حلمت أن أكون معماريا كما رغب بعض أهلي، فلم أكن، وعرض علي أن أكون طبيبا، ولم أرغب، ولم أسعى إليه، أو مهندسا بحريا، ولم أحسم أمري، أو قبطان طائرة، فتراجعت حالا، فلم أحب أن أهجر الأرض مبحرا أو طائرا، ورغم ما في السفر من فائدة، فأفضل المدينة التي أعيش فيها. وحلمت أن أكون رياضيا، فكنت "على قدي". وأشعر بالنقص لأنني لم أتعلم الموسيقى، رغم حبي لها، وحلمت أن أكون مفكرا، فكنت قريبا إلى حد ما. هذه أحلام طارت، وطواها الزمن. أنا أنا الآن، وأنا راض بها، وأحاول أن أسد بعض الثغرات رغم ما قطعته من سنين.
ما زالت مشاريعي الروائية قائمة، ولم اكتبها لأسباب اقتحام أخرى لحياتي الأدبية، وهناك اقتحام آخر يتعلق بفقداني لأخي المقرب لي، أخي الإسباني، الذي عانيت ما عانيت لفقدانه، فابتعدت قليلا، وربما أعود إخلاصا له ولذاتي. أوصاني أن آتي برفاته وأرشه في البحر، أو في مسقط رأسه. لم أستطع، فالحمل ثقيل ثقيل. وربما أعود لذكريات بعد 67 والمجند العربي الذي جاء يبحث عن اخته، وحين عبرت الجسر بما فيها من أمل وأوجاع ومقت وصناعة مستقبلي الذي ترون.
نسيت أيضا كتابي "النمل"، الذي لم أجرؤ على نشره حتى الآن رغم كتابتي له منذ أكثر من عشر سنوات، فهو تخيل لما أنزل على النمل، فيه محاكاة للواقع، وفيه إعادة قراءة للمعتقدات، بصورة حداثية كما أتخيل.
أتمنى ألا تكون هذه شهادتي الأخيرة حول رواياتي، ففقدان الأصدقاء ما زال مستمرا، فهم كانوا أصدقائي، وكنت أحد أصدقائهم.
#صافي_صافي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟