حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري
الحوار المتمدن-العدد: 8307 - 2025 / 4 / 9 - 20:50
المحور:
الادب والفن
"ترقص على حافة الموت، عارية القدمين، جميلةٌ جدًّا لتموت، قاسيةٌ جدًّا لتعيش… تلك التي أحببتها، كارمن"... بهذه الكلمات الجارحة كالنصل، يختتم البطل دون خوسيه عرضه المسرحي، ظانًّا أنه قد وضع نهايةً لكارمن بطعنةٍ أخيرة. لم يدرك أنه في الحقيقة كان يضع نقطة النهاية في سطر وجوده هو، لا وجودها. كارمن… تلك المرأة التي أحبها حتى الهلاك، عشقها كمن يعانق اللهيب، فاحترق. من أجلها خان شرف السلاح، وتنكّر لواجبه، وتورّط في دماء من يعترض طريقه، حتى انتهى الأمر بذبح الحب ذاته، بسكين الغيرة.
على خشبة مسرح الطليعة، تتجلى هذه الملحمة الحارقة، في عرضٍ مبهرٍ للمسرحية الخالدة "كارمن"، عن نص بروسبير ميريميه، برؤية دراماتورجية لمحمد علي إبراهيم، وإخراج مبدع لناصر عبد المنعم، حيث تتجسد التراجيديا في أبهى صورها، بين جنون العشق وحدّ السكين.
كارمن بين الأصل والمعالجة المسرحية
تستند مسرحية كارمن في أصلها إلى رواية الكاتب الإسباني بروسبير ميريميه، التي تدور حول الضابط الإسباني دون خوسيه نافارو، ذلك الضابط الشريف والمنضبط، الذي كان يسير بثبات في صفوف الجيش، إلى أن زلزلت قلبه امرأة غجرية آسرة تُدعى كارمن، تعمل في مصنع تبغ في مدينة إشبيلية. منذ اللحظة الأولى، وقع خوسيه في أسر حبها، حُبٌّ لم يكن عاديًا، بل كان مدخلًا إلى هاوية من التمرد والخراب.
تتسبب كارمن في شجار داخل المصنع، وحين تُحتجز، تستغل سحرها لتقنع خوسيه بمساعدتها على الهرب، فيخون أوامره العسكرية، ويفقد شرفه ومكانته. يفرّ لاحقًا من الجيش، وينضم إلى عصابة تهريب تتعاون معها كارمن، غارقًا في عالم الجريمة والعنف، سعيًا للبقاء قريبًا منها. غير أن كارمن، بطبيعتها الحرة المتمرّدة، لا تعرف الوفاء لعاطفة، وتملّ سريعًا من أي قيد. وحين تقع في غرام مصارع الثيران لوكاس، تُدير ظهرها لخوسيه، فتشتعل غيرته، ويتملك منه اليأس، ليصل إلى ذروة الانهيار حين تطالبه بالابتعاد عنها، مؤكدة أنها لا تُحب بالإكراه ولا تُؤسَر لأحد. وفي لحظة قاسية من العجز والغياب، يُطعنها خوسيه بسكينه حتى الموت، ثم يسلّم نفسه للعدالة، معترفًا بجريمته، غارقًا في رماد ندمه.
أما المعالجة المسرحية التي قدّمها الكاتب محمد علي إبراهيم، فقد استندت أساسًا إلى أوبرا كارمن للموسيقار جورج بيزيه، لا إلى الرواية الأصلية وحدها، فقام بتوسيع دور مصارع الثيران إسكامييو (المُعادِل لشخصية لوكاس في الرواية)، وأدخل شخصية قارئة التاروت مانويلا، والتي أصبحت محورية في العرض. تختلف هذه المانويلا عن نظيرتها في أوبرا بيزيه، حيث كانت مجرد زميلة لكارمن في مصنع التبغ، أصيبت بجرح في وجهها نتيجة شجار، بينما في معالجة إبراهيم، أصبحت ميكائيلا - المعادلة الدرامية لكارمن نفسها - هي الفتاة التي تتلقى الطعنة بالسكين.
اعتمد العرض المسرحي على تقنية "الفلاش باك" في بناءه الزمني، حيث يبدأ من الليلة الأخيرة في حياة كارمن، داخل حانة العجوز باستيا، وهي تودّع عشيقها الجديد إسكامييو، بعد أن انفضّت عن خوسيه. تعترض طريقها مانويلا قارئة التاروت، محاولة قراءة طالعها، فتُقابل برفض حاد من كارمن. ينتهي المشهد بجريمة القتل، حيث يطعنها خوسيه، ويُسجن على إثر ذلك.
في مشهد تالٍ، يقتحم إسكامييو السجن بعد أن يرشو الحراس، ويواجه خوسيه بالسؤال: لماذا قتلت كارمن؟ وأين دفنتها؟ فيجيبه خوسيه بإيجاز: "لذات السبب الذي يدفعك الآن لقتلي." ثم يبدأ في سرد حكايته، من لحظة لقائه بكارمن أثناء حراسته لمصنع التبغ، حين تشاجرت مع إحدى الفتيات وشوّهت وجهها، فتم تكليفه باحتجازها. لكنها، كعادتها، تمكّنت من التسلل إلى قلبه، فأقنعته بأن يفك وثاقها، وكانت تلك اللحظة بداية سقوطه من الضابط المرموق إلى مجرد حارس مُهان، بلا رتبة ولا مجد مستخدما تقنية التعليق الصوتي كي يعوض الراوي في النص الأصلي. وفي خلفية الحكاية، تظل قارئة التاروت مانويلا ترسم بإشاراتها مصير خوسيه: ماضيه، وحاضره، وغده). لينتقل العرض من حالة لحالة أخري لخوسيه حيث ينتقل بدافع حبه لكارمن من محافظ علي القانون لشخص خارق للقانون من قتل زونيجا قائده لقتل زوجها لقتلها في النهاية وهو المشهد الذي بدأ به العرض.
من السجن إلى الحانة: ديكور متعدد الأبعاد يحكي المصير
أما عن المنظر المسرحي الذي أبدعه أحمد شربي، فقد اتسم ببراعة الاقتصاد في استخدام الديكور، مما ساهم في خدمة رؤية المخرج، وسهّل الانتقال بين المشاهد بسلاسة وخفّة. فقد تنقّلت العين بين فضاءات متعددة دون عناء، بداية من مشهد الحانة التقليدية، حيث يتصدر المسرح ذلك الفضاء الشعبي الحميم، وفي عمقه شاشة من "السيلويت" تزيّنت برسم لكروت التاروت، في دلالة رمزية على المصير والمجهول الذي يلاحق الشخصيات. وخلف هذه الشاشة، كانت هناك الغرفة التي تستقبل فيها كارمن عشاقها، وفي أقصي يمين المسرح قفص حديدي يُجسّد سجن دون خوسيه، وهو الموقع الذي يبدأ منه حكاية قتله لكارمن، ولم يكن اختيار المخرج لهذا الموضع عبثًا؛ فليمين المسرح دلالة زمنية وبصرية، توحي ببداية المسار وسكون الماضي الذي ينهض من قيده لينبض بالحكاية. من هنا، تنطلق الرحلة الدرامية التي تنتقل بنا بسلاسة من سجن الذكرى إلى بوابة مصنع التبغ، ثم إلى مناطق التهريب، فنغوص في عوالم متشابكة تتشكل على الخشبة ببراعة، دون حاجة لتبديل مرهق للديكور، وقد اعتمدت هذه التحولات على الإضاءة التي صمّمها ببراعة أبو بكر الشريف، حيث نجح في تجسيد فلسفة العرض وتوجهاته البصرية، فجاءت الانتقالات بين المشاهد ناعمة ومدروسة، مدعومة بلغة لونية تنطق بالحالة النفسية لكلا من كارمن ودون خوسيه. تارة تنبض بالأحمر الغجري المتقد، وتارة تنكفئ على الأزرق الكئيب، وتارة علي الألوان الساخنة في الحانة وغرفة استقبال عشاق كارمن لتترجم بتدرّج الضوء والانكسار ما يجول في أعماق الروح من اضطراب وعشق وجنون. واستكمالاً للسينوغرافيا البصرية الآسرة التي تميز بها العرض، أبدع مصمم المناظر في إغناء للصورة المسرحية عبر تصميم أزياء تنبض بالدلالات وتعكس عمق الشخصيات. فقد اختار لكارمن أزياء تتراوح بين الأحمر القاني والأسود الداكن، في مزج دلالي يعكس ازدواجيتها العاطفية وتمردها الجارح؛ الأحمر رمز الشغف، والأنوثة المتوهجة، والأسود ظلّ الغموض والمصير المحتوم. أما أزياء ضباط الجيش، كخوسيه وزونيجا، فجاءت رسمية صارمة، تعكس انضباط المؤسسة العسكرية وتناقضها مع الفوضى العاطفية التي تقود خوسيه إلى الانهيار ونظراً لصغر المسرح فقد بدا واضحا للجمهور الجودة السيئة للأقمشة. كما جاءت ملابس مصارع الثيران إسكامييو لامعة، تعكس نرجسيته وبريق حضوره الاستعراضي. وقد حرص المصمم على أن يحافظ علي الشكل الكلاسيكي الأزياء ليستحضر روح لقرن التاسع عشر، بكل ما تحمله من ملامح اجتماعية وثقافية، ليمنح العرض صدقيّة تاريخية وعمقاً بصرياً يسند الرؤية الإخراجية ويغنيها. أما عن الموسيقي التي قام بإعدادها حازم الكفراوي فقد حافظ فيها علي التأثيرات الفلمنكية وقد كان هذا واضحا منذ بداية دخول الجمهور علي موسيقي الهبانيرا الشهيرة انتقالا في العرض لموسيقي أغنية مصارع الثيران الأمر الذي أدي إلي الحفاظ علي الروح الكلاسيكية مساعداً بموسيقاه المعدة مصممة الاستعراضات سألي أحمد في عمل استعراضات بسيطة ومعبرة عن حالة العرض اتقن أدائها الممثلون.
ريم أحمد وميدو عبد القادر: صراع الشغف والدم على المسرح
أما على مستوى الأداء التمثيلي، فقد بدا جلياً حجم الجهد الذي بذله المخرج في توجيه الممثلين والحفاظ على تماسكهم داخل أطر شخصياتهم، مما أسفر عن تجسيد حيّ ومتناغم مع الرؤية الإخراجية. وقد نجحت ريم أحمد في تقديم شخصية كارمن بكل تعقيداتها وتحوّلاتها، من المرأة العابثة والمغرية إلى المتمردة الحرة، ثم إلى الضحية التي دفعت ثمن حريتها. أظهرت تنقلاتها بين الرقص والتمثيل قدرة عالية على التلوين والتعبير، ما يدل على اختيار موفق لممثلة شاملة تجمع بين الأداء الدرامي والحس الموسيقي والحضور الجسدي. ومع ذلك، يمكن تسجيل ملاحظة على تقارب أدائها مع بعض من سبقوها في تجسيد كارمن، وربما يعود السبب إلى تأثرها بالموروث الأدائي المعروف للشخصية، مما أفقدها شيئاً من فرادتها.
أما ميدو عبد القادر في دور دون خوسيه، فقد نجح في الإمساك بخيوط الشخصية بإتقان، مجسداً تحوّلاتها النفسية من الانضباط العسكري إلى الانهيار العاطفي، ومن التردد إلى الجنون القاتل. وقدّم أداءً متماسكاً اتسم بالتصعيد المتدرج. غير أن نقطة الضعف تمثلت في غياب التوازن بين لحظة قتل كارمن التي ظهرت في بداية العرض، وتلك التي أعاد سردها أمام إسكامييو في النهاية، إذ افتقرت الأولي إلى ذات الحِدّة الدرامية التي ميّزت الأخيرة، وكان من الأفضل الحفاظ على مستوى الانفعال ذاته لتأكيد الصراع الداخلي والانكسار.
أما المفاجأة السارة لي فكانت ليديا سليمان في دور قارئة التاروت مانويلا، فقد قدّمت أداءً لافتاً، امتلكت فيه أدواتها كاملة، وجذبت الجمهور بحضورها القوي وصوتها الأخّاذ، خاصة في المقاطع الغنائية بالإسبانية، التي وظفها المخرج بذكاء لإبراز الطابع الثقافي للنص. وقد ساعدها في ذلك التطوير الذي أجراه الكاتب محمد علي إبراهيم على هذه الشخصية، مما منحها مساحة درامية أوسع مما ورد في أوبرا بيزيه.
كما برز محمد حسيب في دور العجوز باستيا بأداء صادق وحقيقي، وعبد الرحمن جميل في دور زوج كارمن، فيما قدّمت نهال فهمي دور ميكائيلا، الفتاة التي جرحت كارمن وجهها، بأداء مؤثر جسّد الألم والخذلان، مضيفة بُعداً إنسانياً لحكاية الصراع النسوي في النص.
وهكذا، تنسج "كارمن" على خشبة مسرح الطليعة خيوطها الأخيرة، لا لتعلن موت البطلة، بل لتؤكد خلودها. فكارمن، تلك الأنثى التي رفضت أن تُروَّض، والتي واجهت مصيرها مرفوعة الرأس، لا تموت بطعنة خوسيه، بل تولد من جديد في كل نبضة موسيقى، وكل خطوة رقص، وكل عين تتأمل هذا الجمال المتمرّد. لقد قدّم العرض المسرحي رؤية متكاملة، تماهت فيها التراجيديا مع الأداء، والإخراج مع السينوغرافيا، ليعيد إلى المسرح سحره الكلاسيكي بلمسة معاصرة. إنها ليست فقط قصة حبٍ مدمِّر، بل قصيدة مسرحية عن الحريّة، والاختيار، وثمن أن تكون ذاتك... حتى لو كان الثمن حياتك.
#حسام_موسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟