|
للثقافة جغرافيتها المميزة
مضر خليل عمر
الحوار المتمدن-العدد: 8306 - 2025 / 4 / 8 - 15:12
المحور:
قضايا ثقافية
صنف الفلاسفة ما موجود على سطح الكرة الارضية الى صنفين : الانسان و الطبيعة ، وان الانسان يتمتع بالولاية على الطبيعه ، وله حقوق التصرف بها بما يخدم مصلحته ويحقق الرفاه له اقتصاديا واجتماعيا (نظرة راسمالية – استعمارية) . وقد ادت ممارساته على الطبيعة وعناصرها (ماء ، هواء ، نبات ، حيوان ، جماد) وتباينها مكانيا الى تشكيل ((ثقافاته - حضاراته)) وتطورها ، السابقة والراهنة ، التي عكست بدورها مستوى التقنيات المعتمدة حينها وانواعها واسلوب الانتاج و طريقة المعيشة ونظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية ، وتبايناتها مكانيا (محليا) و جغرافيا (اقليميا ودوليا) وزمانيا . ان الخريطة الجغرافية للثقافة موجودة منذ ظهور الحضارات الاولى ، وقد تشكلت مرات عديدة و تتبدل توزيعاتها المكانية والجغرافية مع كل تقدم وتطور حضاري منذ الازل ، وان تاريخها اعمق بكثير من ما تمكنت اوربا الغربية من رصده من استكشافات . فالتغيرات على سطح الكرة الارضية ، الطبيعية والبشرية ، مستمرة بسبب عوامل طبيعية وبشرية . وما يكتشف حاليا من حضارات قديمة كنا نجهلها وهي الان تحت التراب واخرى تحت المياه لدليل اكيد على صدق هذا . فجغرافيتنا الثقافية – التاريخية قاصرة على ما يمكن تحسسه و الوصول اليه بالمتوفر من التقنيات المعاصرة . وما نعرفه عن ثقافات وحضارات الشعوب الاخرى (الراهنة والبائدة) تعرفنا عليه من خلال كتابات الاخرين وما نقلوه لنا ، وليس من خلال الاحتكاك المباشر . ولان الانسان يمتلك الحقوق المشار اليها انفا ، ولانه كائن مفكر ـ يتميز بعقله عن باقي عناصر الطبيعة الحية و غير الحية ، لذلك انتج انواعا عديدة من الثقافات (الحضارات) ، التي كان لكل منها بصماتها على سطح الارض ، ايجابا و - او سلبا ، عبر الزمان و عبر المكان . فالثقافة قد ارتبطت حصريا بالمجتمع البشري ، وبطريقة تعامله مع الطبيعه واستغلاله لها ، و تنظيمه لسياقات العمل وطريقة تعامله اجتماعيا و سياسيا (محليا واقليميا) مع المجاميع والاقوام والشعوب الاخرى . وقد تبلور الاهتمام بالجانب الاجتماعي – الثقافي – الحضاري ، مع حملة الاستكشافات الجغرافية ، و التسابق لاستعمار الشعوب الاخرى واستغلال الاراض البكر ، و ارتبطت فكريا مع كتابات فيدال لا بلاش وتميزه للجغرافيا كونها بشرية في تخصصها وليس طبيعية . وقد ازدهرت في هذه المرحلة الجغرافيا لانها تخدم مصالح المستعمرين ، واضحت تشكل الارضية التي قسم العالم وشعوبة الى اقاليم واجناس و مستويات ثقافية استنادا على : البيئة الطبيعية و اسلوب الحياة السائد في المجتمعات الاخرى . اعتمد الجغرافيون حينها و بثقل على الدراسات الانثربولوجية الاجتماعية ، واطروها بالابعاد المكانية و الحدود الاقليمية ، فكانت نتيجة ذلك افكار الحتم البيئي (الجغرافي) التي غلفت الفكر الجغرافي ردحا من الزمن . وما استحداث دول اوربا الغربية الا مثال حي على اثر التقسيم الثقافي – الحضاري بين الشعوب عند ترسيم الحدود الدولية . تسعى الورقة الى الاجابة عن مجموعة من التساؤلات التي ترد الى الذهن عند مناقشة (تخصص جغرافية الثقافة Geography of Culture – الجغرافيا الثقافية Cultural Geography) . ستكون اجاباتي مقتضبة بحكم الوقت المتاح ، علما اني قد (ترجمت كتابين منهجيين( )) ، تحت عنوان : دليل جغرافية الثقافة و الحضارة ، و قراءات في جغرافية الثقافة ، ( اضافة الى كتب اخرى ذات صلة ( )) والافكار الواردة في هذا المقال ، والمقتبسات تعود الى هذين الكتابين بشكل مباشر دون الاشارة الى التفاصيل . الاسئلة التي احاول الاجابة عنها هي : ما المقصود بالثقافة ؟ ماهي عناصر الثقافة ؟ ما العلاقة الجدلية بين المكان و الثقافة ؟ ما الفرق بين الفضاء و المكان ؟ ما العلاقة بين البيئة والثقافة ؟ ماذا تدرس جغرافية الثقافة ؟ هل تخضع الثقافة للقياس و التقويم ؟ ما هي جذور دراسة الثقافة جغرافيا ؟ وهل تختلف الثقافة زمنيا ؟ ماهي العوامل التي تؤثر على الثقافة فتغيرها ؟ بماذا تختلف جغرافية الثقافة عن غيرها من فروع الجغرافيا ؟ ما اثر العولمة على الثقافة ؟ ماهي مدن الشتات ؟ لو اردنا دراسة جغرافية الثقافة في العراق ، فمن اين نبدأ ؟ واين سننتهي (بحثيا طبعا) ؟ قد لا اجيب عن جميع الاسئلة ، وبتتابعها المذكور اعلاه ، عن عمد لاترك المجال للقراءات الاخرى و التقصي النظري (على الاقل) ، لمن يجد ان الموضوع يستحق القراءة و التتبع ، والله من وراء القصد .
ماالمقصود بمصطلح الثقافة ؟ منذ القرن الثامن عشر حددت ثلاثة استخدامات واسعة لكلمة "ثقافة" : أولاً ، كاسم يصف عملية عامة من التطور الفكري والروحي والجمالي ؛ ثانيًا ، كاسم يشير إلى طريقة حياة معينة (ما قد نسميه "معنى أنثروبولوجي" للمصطلح) ؛ وثالثًا ، اسم يصف أعمال وممارسات النشاط الفكري والفني بشكل خاص (أي ، معنى "أكثر نخبوية" للمصطلح) . ومن الجوهري الاشارة الى التداخل والتشابه عند العامة بين مصطلحي الثقافة Culture و الحضارة Civilization ، وفي الواقع هناك تداخلا كبيرا بينهما ، اضافة الى فروقات جوهرية بينهما ، ليس مجال مناقشتها في هذه الورقة . فالثقافة قد جعلتنا في نهاية المطاف مختلفين عن النباتات والحيوانات الأخرى في العالم الطبيعي ، وعن بعضنا البعض كبشر ايضا على سطح الكرة الارضية و بمختلف المقاييس (المكانية واللامكانية – ماديا ومعنويا) . لقد كان راتزل مغرمًا بالإشارة إلى أن الثقافة تشير أيضًا إلى حرث الأرض . لقد كشفت الثثقافة عن ارتباطنا بالتربة وهيمنتنا على الطبيعة بفكرنا . ومن خلال حرث التربة ، مع تقسيمات العمل المرتبطة بها ، نشأت الحضارات الأكثر تقدمًا . فنحن من الارض واليها ، وكل ما ننتجه ونستخدمه في حياتنا اليومية عائد لها بطريقة واخرى . ولا ننسى ان اساس الحضارة عند بعض المفكرين راجع الى تقسيم العمل الذي حدد مهام كل فئة او مجموعة او جنس في المجتمع والدولة . فانتقال المجتمع البشري من مرحلة الجمع والالتقاط الى مرحلة تدجين الحيوانات والرعي ، ومن ثم الى مرحلة الزراعة التي استوجبت استقراره مكانيا ، قرب مصادر المياه ، و تشكيله مجاميع مهنية متخصصة ، وتنظيم حياته الاجتماعية و تشكيله تدريجيا مستقرات كبيرة ، المدن و دولها التي وثقت الحضارة الانسانية و طورت اساليب الانتاج و التسويق و طرائق التنقل والاتصالات . فمن هنا بدأت الحضارة الانسانية التي نعرفها ، ومن هنا حددت المناطق الثقافية على سطح الكرة الارضية ، دون توثيقها . معنى الثقافة : "كلُّ ما يضيء العقل ، ويهذّب الذوق ، وينمّي موهبة النقد ، وباشتقاق كلمة ثقافة من الثِّقاف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة ، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَّف على أنّه شخصٌ مثقّف ، وتُعرّف الثقافة أيضًا -اصطلاحاً- على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات ، والإجراءات ، والمعارف ، والسلوكيّات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئةٍ معيّنة ، والثقافة التي يكوّنها أي شخص يكون لها تأثير قويّ على سلوكه" . يعني هذا ، فيما يعنيه ، ان هناك ثقافات تخصصية (مهنية) ، وان سلوك الفرد انما هو تعبير عن مستوى ثقافته . وتعكس المفردات المتداولة و طراز الملبس على هوية الشخص ، مما يعني ان الثقافة قد ارتبطت بالمهنة ، بالفئة او المجموعة (الاجتماعية ، المهنية ، ... الخ) وتجسدت بالبيئة (الطبيعية و الاجتماعية) وحددت هوية الفرد والمجتمع الذي ينتمي اليه . فهي خلاصة مرأية و مقروءة بطرق متباينة للفرد و المجتمع الذي ينتمي اليه . هناك اتفاق بين المعنيين بأنَّ الثقافة تتمحور حول الإنسان والمجتمع ، فهي ترسم خارطة ثقافيّة للمجتمع لفهم الماضي وعيش الحاضر وتصور المستقبل ، ثم إنها تُعطي سببًا للأفعّال التي يقوم بها الأفراد ، وبدون ثقافة يصبح المجتمع بلا هويّة تائهًا في حاضر الحياة لا يستطيع إعادة إحياء ماضيه أو صنع مستقبله . تتمثل العملية الفكرية هنا ب: فهم الماضي ، عيش الحاضر ، تصور المستقبل . عندما تتحقق هذه العملية تكون ثقافة المجموعة - المجتمع قد نضجت وانها قادرة على الحفاظ على هويتها ومكانتها بين شعوب الارض . ويتمثل جانبها العملي بافعال وسلوكيات افراد المجتمع المنضوين تحت هذه الثقافة دون غيرها . ولعل سياسات التجهيل ونشر ثقافة التفاهة والتغريب الناشطة حاليا هدفها محو الهوية و الغاء السمات الشخصية للمجاميع والشعوب بقصد الهيمنة و نهب الثروات بدون مقاومة او رد فعل . وقد لخصت مفاهيم الثقافة في نهجين عامين للغاية : أولاً ، الثقافة كفئة مجردة من الحياة الاجتماعية - أي فئة اشتقها العلماء للمساعدة في فهم وتحليل جزء معين من الحياة الاجتماعية ؛ وثانيًا ، الثقافة كعوالم مميزة من المعنى تشير إلى "عالم ملموس ومحدود من المعتقدات والممارسات" . أي الثقافة كطريقة حياة مميزة لمجموعة معينة من الناس . النهج الأول هو في الأساس معرفي ، يركز على الثقافة كوسيلة لمعرفة العالم الاجتماعي ، في حين أن الأخير هو وجودي في الأساس ، يركز على الثقافة كجزء موجود بالفعل من العالم . في النهج الأخير، يمكن تعدد الثقافة (هناك العديد من الثقافات في جميع أنحاء العالم) بينما لا يمكن للنهج الأول أن يظل منفردًا . وفقًا لصيغة كروبر- كلوكوهن ، يمكن عد الثقافة مجموعة منظمة وتقليدية من أنماط السلوك ، أو رمزًا أو قالبًا للأفكار والأفعال . فالثقافة هي في الواقع إنجاز بشري خالص . ومجموع الثقافة أعظم كثيراً من مجموع أجزائها البسيطة ، إلى الحد الذي يجعلها تبدو وكأنها كيان فائق العضوية يعيش ويتغير وفقاً لمجموعة من القوانين الداخلية التي ما زالت غامضة . فمجموع الاجزاء لا يشكل الكل ، فالثقافة لا يمكن تجزئتها و اخذ ما يناسب وترك غيره لاسباب ذاتية . انها لوحة (موزائكية) جمالها بتكاملها و وحدتها وليس باجزائها . كان يُنظَر إلى الثقافة في بعض الأحيان كونها ما يفصل البشر عن الطبيعة ، ولكن يُنظَر إليها أيضًا كونها شيئًا يعكس تأثير الطبيعة على البشر. وكان يُنظَر إلى الثقافة كونها تنتج مناطق دون وطنية ذات أنماط حياة مميزة ، ولكن تم حشدها أيضًا لوصف وحدة الدول القومية . وقد أنتجت هذه الاقترانات بين الأفكار المختلفة تفسيرات قوية في الجغرافيا . ففي غضون العقود القليلة الماضية فقط بدأ طلاب الجغرافيا البشرية يدركون وجود كيان يُطلق عليه "الثقافة" ، وهو شيء داخل عقول البشر الأفراد ، ولكنه يتجاوزها . إنها مجموعة كبيرة ومعقدة للغاية من العناصر، والتي قد تشكل ، إذا ما أخذت مجتمعة ، متغيراً مهماً مثل أي متغير آخر في تفسير سلوك الأفراد أو المجتمعات أو الأنماط القابلة للرسم الخرائطي للأنشطة والأشياء التي صنعها الإنسان على وجه الأرض . ويمكن أن يُعزى الظهور المتأخر لأي مظهر من مظاهر "علم الثقافة" جزئياً إلى التطور غير العادي الذي شهده علم الثقافة في القرن العشرين . لا يقاس النشاط الإبداعي الصامت للثقافة بزيادة المسافة ، بل بنمو عدد الأشخاص الذين يستطيعون العيش بشكل دائم في منطقة ضيقة . ففي التربة الخصبة ومع العمل الجاد تنمو الكثافة السكانية ، وهذا ما تحتاج إليه الثقافة . إن الحقائق العظيمة لانتشار البشر على الأرض ، بكثافة أكبر وأقل ، تقف في ارتباط وثيق بتطور الثقافة . فحيثما يكون السكان متناثرين بشكل ضئيل على مناطق واسعة ، تكون الثقافة منخفضة . ولهذا السبب نرى ان المدن الكبرى تجذب المفكرين والمنتجين و العلماء لما توفره من فرص للعمل والابداع ، و اللقاء مع الاقران ( ) . فالاماكن الهادئة والخلوات تكون للتفكير والتامل ، اما المدن فللتحدي و لابراز الافكار و الابداعات للمحك على ارض الواقع ، والتنافس لتقديم الافضل . أن الاختلافات بين الثقافات لا تنشأ بسبب عزلتها عن بعضها البعض ، بل بسبب ارتباطها ببعضها البعض . ويشير هذا الاستنتاج أيضًا إلى أنه جنبًا إلى جنب مع الاختلاف تأتي التسلسلات الهرمية للسلطة . فالثقافة ليست مجرد مفهوم يعبر عن الاختلاف بين الشعوب ، بل هي أيضًا مفهوم يخفي علاقات القوة غير المتكافئة بين الشعوب ، ولا يمكن لعلاقات القوة غير المتكافئة هذه أن توجد إلا من خلال الاتصال ، وليس العزلة . إن ثقافة معينة ، أو مجموعة من الثقافات الفرعية ، تساعد في إضفاء قدر كبير من طابعها الخاص وتصميمها السلوكي على منطقة ما - وهو ما تدور حوله الجغرافيا بشكل أساسي . وعلى العكس من ذلك ، قد تكون شخصية مكان معين مؤثرة تكوينية قوية في نشأة ثقافة معينة ، وهو الشغل الشاغل لعلم الأنثروبولوجيا الثقافية . يتكون المشهد الثقافي من مشهد طبيعي بواسطة مجموعة ثقافية ، فالثقافة هي الوكيل ، والمنطقة الطبيعية هي الوسيلة ، والمشهد الثقافي هو النتيجة . وتحت تأثير ثقافة معينة ، التي تتغير هي نفسها بمرور الوقت ، فإن المشهد الطبيعي يمر بمراحل عديدة من التطور، وربما يصل إلى نهاية دورة تطوره . (لكل شيء دورة حياة) . ومع ظهور ثقافة مختلفة ـ أي ثقافة غريبة ـ يبدأ تجديد المشهد الثقافي ، أو يفرض مشهد طبيعي جديد على بقايا مشهد قديم . ولا شك أن المشهد الطبيعي يشكل أهمية أساسية ، لأنه يوفر المواد التي يتشكل منها المشهد الثقافي ، ولكن القوة التي تشكله تكمن في الثقافة نفسها . لهذا السبب هناك من يرى ان ما نراه على سطح الارض حاليا لم يكون هكذا قبل قرن من الزمان ، مثلا . فالطبيعة (تيارات الهواء و الحركات الارضية و المياه ) اضافة الى نشاطات الانسان (زراعة وتعدين و تعمير) قد غيرت المظاهر الارضية بشكل كبير في كل مكان وعبر الزمان . فسطح الارض التي نعيش عليه الان لم يكن هكذا قبل قرن من الزمان ، ولن يكون بعد قرن . في عصر النهضة الاوربية ، وما يماثلها من حضارة الاندلس وغيرها من الحضارات الاخرى ، كانت العمارة ، و ما يرتبط بها من مظاهر ارضية Landscapes و تنظيم عمراني و حدائق و تماثيل انما تعكس عقلية الحاكم و رؤيته لموقعه هو و البيئة التي يريد ان يعيش بها و ينظر لها العامة . فحدائق سان بتسبرك تحكي قصص تتجاوز جمال الطبيعة التي تجسدها النافورات و التماثيل و هندسة الحدائق . بالمقابل ، فان تنظيم مزارع الكروم في كاليفورنيا تخفي في حناياها البؤس والظلم الذي عانى منه عمالها المهاجرون من دول الجوار . فالمناظر الطبيعية و المظاهر الارضية يجب ان ينظر لهما بعمق و تحري تطورهما الزمني وما رافق ذلك من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية ، وتقنية بالتاكيد . انها مشاهد ثقافية تحكي قصصا لمن يقرأها بعمق و ببصيره نفاذة . في الدراسة الجغرافية ، الميدانية مقولة (تحدث مع الارض وحاورها ، و وجه لها الاسئلة و استشعر اجاباتها) ( ) ، فهي اكثر من منظر جميل للذكرى . يخضع المشهد الثقافي للتغيير إما بتطور ثقافة ما أو باستبدال ثقافات أخرى . إن خط البيانات الذي يقاس منه التغيير هو الحالة الطبيعية للمشهد . إن تقسيم الأشكال إلى طبيعية وثقافية هو الأساس الضروري لتحديد الأهمية المكانية وطبيعة نشاط الإنسان . بالمعنى العالمي ، ولكن ليس بالضرورة بالمعنى الكوني ، تصبح الجغرافيا ذلك الجزء من أحدث فصل بشري في تاريخ الأرض والذي يهتم بتمييز المشهد المكاني من قبل الإنسان . فكل منظر- مظهر طبيعي له فردية بالإضافة إلى علاقته بالمظاهر الطبيعية الأخرى ، وينطبق الشيء نفسه على الأشكال التي يتكون منها . فلا يوجد وادٍ يشبه أي وادٍ آخر ؛ ولا توجد مدينة هي النسخة الدقيقة لمدينة أخرى . إن التمثيل الصحيح لشكل السطح ، والتربة ، والكتل البارزة على السطح من الصخور، والغطاء النباتي والمسطحات المائية ، والسواحل والبحر، والحياة الحيوانية البارزة على السطح ، والتعبير عن الثقافة البشرية هو هدف الاستقصاء الجغرافي . إن الأشياء التي توجد معًا في المشهد توجد في علاقة متبادلة . و أنها تشكل واقعًا ككل لا يتم التعبير عنه من خلال النظر إلى الأجزاء المكونة كل على حدة ، يجعل من المنطقة ذات شكل وبنية و وظيفة ، ومن ثم موضع في نظام ، وأنها تخضع للتطور والتغيير والاكتمال . وبدون هذه النظرة إلى الواقع والعلاقة المساحية ، لن توجد سوى تخصصات دقيقة خاصة ، وليس الجغرافيا كما تفهَم اصلا . ولبلونتشلي قول مفاده بأن المرء لا يفهم طبيعة منطقة ما بشكل كامل حتى "يتعلم أن ينظر إليها كوحدة عضوية ، وأن يفهم الأرض والحياة من حيث كل منهما الأخرى ". فكل منظر طبيعي له فردية بالإضافة إلى علاقته بالمظاهر الطبيعية الأخرى ، وينطبق الشيء نفسه على الأشكال التي يتكون منها . وفي الواقع ، حتى ما انتجه الانسان من اعمار (مدن ، مصانع ، مزارع) و غيرها لها علاقاتها من نظيراتها وما يحيط بها ، فهي ليست بمعزل عن غيرها . ودراستها تستوجب النظرة الشمولية لاستيعاب طبيعتها و وظيفتها وخصوصيتها . لا يوجد وادٍ يشبه أي وادٍ آخر؛ ولا توجد مدينة هي النسخة الدقيقة لمدينة أخرى . وبافتراض بناء مجمع سكني من (100) وحدة سكنية خصصت للمتزوجين حديثا من الشباب (دون 25 سنة) ، وكانت بطراز معماري موحد . و عند زيارتها بعد عقد من الزمان ، ماهي التغيرات المتوقعة في الجوانب الاتية : العمراني ، الديموغرافي ، و البيئي ؟ وكما قيل ليس هناك مدينتان توأمان نهائيا ، ولا جبلين متطابقين في التفاصيل رغم كونهما ضمن السلسلة الجبلية نفسها (ينظر الفصل الخاص بجغرافية الجبل ( )) . فالتباين طبيعيا وبشريا من سنن الحياة على كوكب الارض . إن التمثيل الصحيح لشكل السطح ، والتربة ، والكتل البارزة على السطح من الصخور، والغطاء النباتي والمسطحات المائية ، والسواحل والبحر، والحياة الحيوانية البارزة على السطح ، والتعبير عن الثقافة البشرية هو هدف الاستقصاء الجغرافي . فبدون ذلك لا وجود للجغرافيا اصلا ، ولا حاجة لدراستها . "إن الجغرافيا البشرية لا تعارض الجغرافيا التي يستبعد منها العنصر البشري ؛ فلم توجد مثل هذه الجغرافيا إلا في أذهان قِلة من المتخصصين الحصريين" [فيدال ، 1922]. إن النظر إلى المظاهر الطبيعية وكأنها خالية من الحياة هو تجريد قسري ، من قِبَل كل تقاليد الجغرافيا الجيدة . ولأننا مهتمون في المقام الأول بـ "الثقافات التي تنمو بقوة أصلية من حضن المظاهر الطبيعية الأمومية ، والتي يرتبط بكل منها طوال مسار وجودها" [شبنجلر، 1920] ، فإن الجغرافيا تستند إلى حقيقة اتحاد العناصر المادية والثقافية للمظاهر الطبيعية . إن محتوى المظاهر الطبيعية يكمن إذن في الصفات المادية للمنطقة التي تهم الإنسان وفي أشكال استخدامه للمنطقة ، وفي حقائق الخلفية المادية وحقائق الثقافة البشرية .
العلاقة الجدلية بين المكان والثقافة لقد كتب الكثير عن جدلية المكان الاجتماعية ( ) ، ومنها تشتق العلاقة الجدلية بالثقافة ، فالبيئة الاجتماعية وعاء تطبخ به ثقافة المجموعة و يتاطر من خلالها سلوكها وتتحدد المفاهيم والقيم المعتمدة من قبل اعضائها . فالأماكن تحتاجنا بقدر ما يبدو أننا نحتاجها . وقد صاغ الجغرافي الثقافي يي- فو توان مصطلحًا لهذا : "حب المكان" . فحقيقة وجودنا مرتبطة بالمكان : فنحن نشغل مساحات منفصلة بأجسادنا ، ونعيش حياتنا في أماكن محددة ، ونستنشق هواء وماء وقوت المكان نفسه - إن لم يكن المكان الذي نتواجد فيه حاليًا ، فهو مكان ما . مع تزايد أعداد الأشخاص المتنقلين طوعًا أو كرهًا إلى ذروتها عالميًا ، ماذا عن المكان إذًا ؟ هل ما زال للمكان أية أهمية ؟ هل أصبح العالم سلسلة من اللاأماكن المتجانسة التي يكاد يكون من المستحيل تمييزها ؟ أم أن الناس في الواقع أكثر ميلًا لتسليط الضوء على تميز المكان ، وتعلقهم الخاص به ، كاستراتيجية للدفاع ضد تآكل الهوية المهددة بالعولمة ؟ وقبيل الحديث عن العولمة ودورها في اعادة رسم الخريطة الثقافية للعالم ، من الجوهري التنوية الى الفرق بين المكان Place و الفضاء Space ، يُعدّ الفضاء أكثر تجريدًا . إذ يُوحي الفضاء بالأبعاد (العمق ، الحجم ، المساحة) ، واللانهائي ، والفراغ ، كما في "الفضاء الخارجي . فإن الفضاء أبعد ما يكون عن الخواء من التشابك في العلاقات الاجتماعية . بل إن الفضاء يُنتَج اجتماعيًا . أما المكان فهو أقل تجريدًا ، إذ يُشير إلى الألفة ، والحدودية ، والمباشرة . المكان هو فضاء مُشبع بالمعنى . فتعلقنا في الواقع بفضاء المكان وليس المكان بحد ذاته . يمكن النظر إلى المكان كحلقة وصل متدفقة من العلاقات الاجتماعية المعاشة على مقاييس متنوعة ، من المجرد إلى الملموس ، ومن العالمي إلى المحلي . المكان" نظام ثقافي آخر... نستخدم خطاب "المكان" لإعطاء معنى للحياة ولتحديد مكانتنا بطرق محددة داخل المجتمع ونظام معتقداته . بعبارة جغرافية دقيقة ، قيمة موضع المكان (و طبيعة وثقافة مجتمعه) تتحدد بموقعه من المجتمع الاكبر . وهنا ننتقل فكريا الى التركيب الاجتماعي للمدينة وما يتعلق به من مشكلات و مواقف و تاثيرات ايجابية وسلبية ( ) فالمكان قد يعني الاستقرار والألفة والانتماء . ومن هذا المنظور، يُصنع المكان من خلال التكرار النمطي للسلوكيات في مكان واحد على مر الأجيال . يكشف تاريخ أي موقع جغرافي عن تدفق مضطرب للغرباء ، وصراعات على الانتماء ، ونزوح ، واختلاط ثقافي . أن فقدان الأرض يُعادل فقدان الشعور بالذات والمجتمع . لذا فان فهم الاماكن ليس كاشياء ، بل كعناقيد في شبكات اجتماعية – مكانية ، يتيح تقديرا لمدى عمق ارتباط حياتنا بحياة الناس في اماكن اخرى . ويثير تساؤلا حول ما اذا كان الموقف الدفاعي المتعلق بالمكان يمكن ان يكون تقدميا سياسيا في الواقع (فلسطين – غزة على سبيل المثال لا الحصر) ؟ ان وجودنا ضمن مجموعة من المعاني المشتركة يمنحنا شعورا ب(من نحن) ، و (الى اين نتمي) ، اي شعور بهويتنا الخاصة . وهكذا تعد الثقافة احدى الوسائل الرئيسة لبناء الهويات واستخداماتها وتحويلها . على الرغم من أن "المكان" ليس ضروريًا حرفيًا للثقافة ، إلا أنه يبدو بمثابة ضمان رمزي للانتماء الثقافي . فهو يضع حدودًا رمزية حول ثقافة ما ، ويميز بين من ينتمون إليها ومن لا ينتمون إليها... يضمن استمرارية أنماط الحياة والتقاليد بين سكان متجمعين ومترابطين ، يعيشون معًا في البيئة المكانية نفسها ، منذ "أزل" . عندما نفكر في الهوية الثقافية أو نتخيلها ، فإننا نميل إلى "رؤيتها" في مكان ، في بيئة ، كجزء من مشهد أو "مشهد" خيالي ، نمنحها خلفية ، ونضعها في إطار، لفهمها . أن نكون بين أولئك الذين يتشاركون الهوية الثقافية نفسها يجعلنا نشعر ، ثقافيًا ، بأننا في وطننا . تمنحنا الثقافات شعورًا قويًا بالانتماء ، والأمان ، والألفة . تلعب الدول دوراً حاسماً في السياسات الشعبية المتعلقة بصنع المكان وفي خلق روابط طبيعية بين الأماكن والشعوب . ولكن من المهم أن نلاحظ أن إيديولوجيات الدولة بعيدة كل البعد عن كونها النقطة الوحيدة التي يتم عندها تسييس خيال المكان . بطبيعة الحال ، كانت الصور المعارضة للمكان مهمة للغاية في الحركات القومية المناهضة للاستعمار، وكذلك في الحملات من أجل تقرير المصير والسيادة من جانب الدول المتنازع عليها مثل شعب الهوم ، والإريتريين ، والأرمن ، أو الفلسطينيين . كذلك ، نحن بحاجة إلى شرح اجتماعي لحقيقة مفادها أن "المسافة" بين الأغنياء في بومباي وأولئك في لندن قد تكون أقصر كثيرًا من المسافة بين الطبقات المختلفة في المدينة "نفسها". ((المسافة المكانية مقابل الفاصل الاجتماعي)) . إن الموقع الجغرافي والإقليم الجغرافي ، اللذين كانا لفترة طويلة الشبكة الوحيدة التي يمكن من خلالها رسم خريطة للاختلافات الثقافية ، يحتاجان إلى استبدالهما بشبكات متعددة تمكننا من رؤية أن الاتصال والتجاور ــ أو بشكل أكثر عمومية ، تمثيل الإقليم ــ يختلفان بشكل كبير بعوامل مثل الطبقة والجنس والعرق والتوجه الجنسي ، ويتوفران بشكل مختلف لأولئك الموجودين في مواقع مختلفة في مجال السلطة . العولمة و الثقافة تشير العولمة ، من منظور تاريخي طويل ، إلى عدد من العمليات المختلفة : استكشاف الغرب لأجزاء من العالم كانت "مجهولة" حتى ذلك الحين (أي غير معروفة لأوروبا) . توسع التجارة العالمية والمراحل الأولى لبناء "سوق عالمية" . حركة استثمارات رأس المال ونقل الأرباح والموارد بين المدن الكبرى والأطراف . الإنتاج واسع النطاق للمواد الخام والأغذية والمعادن والسلع للصناعات والأسواق في أماكن أخرى . عملية الغزو والاستعمار التي فرضت أنظمة حكم ومعايير وممارسات ثقافية أخرى على الثقافات الخاضعة . لقد استغلت الشركات المتعددة الجنسيات ، تحت قيادة الولايات المتحدة ، بشكل مطرد المواد الخام والسلع الأولية والعمالة الرخيصة في الدول القومية المستقلة في "العالم الثالث" ما بعد الاستعمار . وكانت الوكالات المتعددة الأطراف والدول الغربية القوية تبشر، وحيثما كان ذلك ضرورياً ، تطبق "قوانين" السوق عسكرياً لتشجيع التدفق الدولي لرأس المال ، في حين ضمنت سياسات الهجرة الوطنية عدم وجود تدفق حر (أي فوضوي ومزعج) للعمالة إلى الجزر ذات الأجور المرتفعة في قلب الرأسمالية . والآن حلت محل أنماط التراكم الفوردية نظام التراكم المرن ــ الذي يتميز بالإنتاج على دفعات صغيرة ، والتحولات السريعة في خطوط الإنتاج ، والحركات السريعة للغاية لرأس المال لاستغلال أصغر الفوارق في تكاليف العمالة والمواد الخام ــ المبني على شبكة اتصالات ومعلومات أكثر تطوراً و وسائل أفضل لنقل السلع والبشر . (لمزيد من المعلومات عن اثر العولمة على المدن ينظر ( )) . ادت العولمة الى ازدياد مستوى الروابط والتبادل بين شعوب العالم وأماكنه ، مما ادى إلى شعور بتسارع الزمن وتقلص المسافات . ويمكن ان ننظر إليها كمجموعات من العلاقات الاجتماعية المرتبطة بشبكات تتجاوز الفضاء والنطاق . ففي ظل العولمة ، أصبحت العلاقات الاجتماعية أكثر اتساعًا مكانيًا من ذي قبل . وهكذا ، أصبحنا ، ولطالما كنا ، مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بأشخاص في أماكن أخرى ، وبعمليات على نطاقات أوسع من النطاق المحلي . يشير ضغط الزمان والمكان إلى الحركة والتواصل عبر المكان ، وإلى الامتداد الجغرافي للعلاقات الاجتماعية ، وإلى تجربتنا مع كل هذا . التفسير الشائع هو أنه ناتجٌ بشكلٍ كبير عن أفعال رأس المال ، وعن تدويله المتزايد حاليًا . بناءً على هذا التفسير، فإن الزمان والمكان والمال هي التي تُحرك العالم ، ونحن ندور حوله (أو لا ندور) . الرأسمالية وتطوراتها هي التي تُحرك العالم . من إسهامات جغرافيي الثقافة القول بأن العولمة عملية ثقافية لا تقل أهمية عن كونها عملية اقتصادية ، على الرغم من وجود بعض الخلاف حول درجة الاستقلال التي يمكن أن تُحدثها الثقافة . إن عواقب العولمة على الثقافة والهوية الثقافية عميقة . كما أنها متناقضة ، تتحرك في اتجاهات مختلفة ، ويصعب فهمها أو التنبؤ بها . كيف إذن نفهم الشكل المتغير للخريطة الثقافية في أحدث مرحلة من عصر العولمة ؟ كيف تؤثر الروابط الجديدة بين "العالمي" و"المحلي" على الثقافات ؟ هل تتعزز الاختلافات الثقافية أم تتآكل ؟ هل تظهر ثقافات محلية جديدة مع تراجع الثقافات المحلية القديمة ؟ كيف ينبغي لنا أن نفكر في الهوية الثقافية أو نعيد تصورها في هذه الأوقات التي تزداد فيها العولمة ؟ فمع تعمق انضغاط الزمان والمكان ، أصبحت ثقافات المزيد والمزيد من الأماكن مُترجمة . (من خلال وسائل الاعلام و دبلجة الافلام والمسلسلات والاعلانات التجارية) . ومع تحفيز الهجرة الحديثة لتدفقات الشعوب ، أصبحت الثقافات ، على نحوٍ مميز ، تتألف ليس من تقاليد وأنماط ثقافية واحدة ، بل من تقاليد وأنماط ثقافية متنوعة .
مدن الشتات يستخدم مصطلح الشتات ليعنى "مغلق" ، لوصف سعي الشعوب التي تشتتت ، لأي سبب كان ، عن "أوطانها الأصلية" ، لكنها ، في الوقت نفسه ، تحافظ على روابطها بالماضي من خلال الحفاظ على تقاليدها سليمة ، وسعيها في نهاية المطاف للعودة إلى الوطن - "الموطن" الحقيقي لثقافتها - الذي فُصلت عنه . ويشير مصطلح "الشتات" أيضًا إلى تشتت الشعوب التي لن تتمكن أبدًا من العودة حرفيًا إلى الأماكن التي أتت منها ؛ والتي يتعين عليها التأقلم مع الثقافات الجديدة ، التي غالبًا ما تكون قمعية ، والتي أُجبرت على الاتصال بها ؛ والتي نجحت في إعادة تشكيل نفسها وصياغة أنواع جديدة من الهوية الثقافية من خلال الاعتماد ، بوعي أو بدونه ، على أكثر من مرجع ثقافي واحد . تُعارض فكرة الشتات بشدة الطريقة التي أُدرج بها المكان تقليديًا في قصة الثقافة والهوية . وبالتالي ، فهي شكل جديد للعلاقة بين المصطلحات الرئيسية الثلاثة - الثقافة والهوية والمكان . في النسخة "المغلقة" من الثقافة ، يُنظر إلى التقاليد على أنها حزام نقل أحادي الاتجاه ؛ حبل سري يربطنا بثقافتنا الأصلية . في النهاية ، إذا حافظنا على نقاء الروابط ، فإنها ستقودنا إلى حيث ننتمي. وتفترض النسخة "المغلقة" أنه كلما ابتعدت عن أصولك ، زاد انفصالك عن ثقافتك الحقيقية ، إنه مفهوم خطي للثقافة . في مفاهيم "الشتات" للثقافة ، لا تكون الروابط خطية بل دائرية . يجب أن نفكر في الثقافة على أنها تتحرك ، ليس في خط مستقيم ، بل عبر دوائر مختلفة . يمكن للمجتمعات أن توجد دون أن تكون في المكان نفسه - من شبكات الأصدقاء ذوي الاهتمامات المتشابهة إلى المجتمعات الدينية أو العرقية أو السياسية الكبرى . فإذا انتقل المرء من القمر الصناعي إلى العالم ، مُحتفظًا بكل شبكات العلاقات الاجتماعية والحركات والاتصالات تلك في ذهنه ، يُمكن عندئذٍ عد كل "مكان" نقطة تقاطع مُحددة وفريدة ، إنه ، في الواقع ، مكان لقاء . بدلاً من التفكير في الأماكن كمساحات ذات حدود محيطة ، يُمكن تخيُّلها كلحظات مُتَّصلة في شبكات من العلاقات الاجتماعية والتفاهمات ، ولكن حيث تُبنى نسبة كبيرة من تلك العلاقات والتجارب والتفاهمات على نطاق أوسع بكثير مما نُعرِّفه لتلك اللحظة بالمكان نفسه ، سواءً كان شارعًا أو منطقة أو حتى قارة . ما نحتاجه ، على ما يبدو ، هو إحساس عالمي بالمحلية ، وإحساس عالمي بالمكان.
جغرافية الثقافة بالرغم من أن الآثار الأولى للدراسة على دول وثقافات مختلفة على الأرض يمكن أن تعود إلى علماء الجغرافيا القدامى مثل بطليموس (Ptolemy) أو سترابو (Strabo)، إلا أن جغرافية الثقافة كدراسة أكاديمية ظهرت في البداية كبديل لنظريات الحتمية الجغرافية في بداية القرن العشرين ، والتي تؤمن أن الشعوب والمجتمعات تحكمها البيئة الطبيعية التي يعيشون بها . وبدلاً من دراسة المناطق المحددة مسبقًا اعتمادًا على التصنيفات البيئية ، أهتمت جغرافية الثقافة بالمشهد الثقافي . وقد تزعم ذلك كارل أورتوين سوير (Carl O. Sauer) (الملقب بأب جغرافية الثقافة) بجامعة كاليفورنيا ، بركلي . ونتيجة لذلك ، هيمنت جغرافية الثقافة طويلاً على الكتّاب في الولايات المتحدة . و لجمعية الجغرافيا الوطنية National Geographic Society دور بارز ، ومستمر حتى يومنا هذا في التعريف بالشعوب والمجاميع و المناطق الثقافية المعروفة و غير المعروفة . (لها قناة تلفاز تعليمية ، ومجلة اصدرتها عام 1910 و مستمرة في الصدور دوريا ، متحف خاص بها ، ونشاطات سياحية ثقافية موسمية لاستكشاف مختلف اصقاع الكرة الارضية وما تحتوية من بيئات خاصة بها والنشاطات البشرية المصاحبة لها) . ( ) عرّف سوير المشهد الثقافي بأنه الوحدة المحددة للدراسة الجغرافية . فقد رأى أن الثقافات والمجتمعات لا تنشأ فقط من داخل المحيط الخاص بها ، ولكن تتشكل تبعًا لها أيضًا . وهذا التفاعل بين المشهد «الطبيعي» والإنسان يخلق «المشهد الثقافي» . كان عمل سوير البحث النوعي و وصفيًا ، وتم تجاوزه في الثلاثينيات من خلال الجغرافيا الإقليمية لـريتشارد هارتشورن (Richard Hartshorne) وبعدها من خلال الثورة الكمية . ولقد تم تهميش جغرافية الثقافة بشكل عام ، بالرغم من أن بعض الكتّاب مثل ديفيد لوينثال (David Lowenthal) استمروا في العمل على مفهوم المشهد الثقافي . ( ) تطورت جغرافية الثقافة منذ ثمانينيات القرن الماضي لدراسة النطاق الواسع للطرق التي تتطور بها الثقافة وتُحدث فرقًا في الحياة اليومية في الأماكن . وقد بحثت الدراسات في السياسات الثقافية لمختلف الفئات الاجتماعية فيما يتعلق بقضايا مثل الإعاقة والعرق والجنس والتوجه الجنسي ، وكيف تُشكل عمليات وممارسات الاختلاف والاستعمار والإمبريالية والقومية والدين حياة الناس في أماكن وسياقات مختلفة ، مما يعزز الشعور بالانتماء والإقصاء . ونظر آخرون في كيفية انعكاس الثقافة وتوسيطها من خلال تمثيلات مثل الفن والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى والأفلام و وسائل الإعلام ، والثقافات المادية مثل الموضة والطعام والتراث والنصب التذكارية / الآثار، بالإضافة إلى ممارسات خلق المعرفة والتواصل من خلال اللغة . لقد أدى التوجه نحو النظرية غير التمثيلية إلى تطوير التركيز إلى ما هو أبعد من التمثيلات . من خلال التحول الثقافي ، شهدنا أيضًا توجهًا لاستكشاف كيفية تقاطع الثقافة مع أشكال أخرى من البحث الجغرافي ، كالمجالين الاقتصادي والسياسي ، مجادلين بأن هذه المجالات تتأثر وتتشكل بشكل عميق بالعمليات الثقافية . وبالتالي ، تُعدّ جغرافية الثقافة من أكثر المجالات حيوية في الجغرافيا البشرية . ( ) ظهرت منذ ثمانينيات القرن الماضي جغرافية ثقافة جديدة ، تستخدم مجموعة مختلفة من التقاليد النظرية ، من بينها النماذج الاقتصادية السياسية الماركسية ، ونظرية النسوية ، ونظرية ما بعد الاستعمار، وما بعد البنيوية والتحليل النفسي . مع استخدام نظريات ميشيل فوكو (Michel Foucault) والأدائية في الأوساط الأكاديمية الغربية ، والمزيد من التأثيرات المتنوعة لما بعد الاستعمار، حيث كان هناك جهدا منسقًا للتفكيكية الثقافية لإظهار علاقات القوة المختلفة . وكانت إحدى مجالات الاهتمام الخاصة هي سياسة الهوية وبناء الهوية ، وهي من اهم موضوعات جغرافية الثقافة . يرتبط علم الجغرافيا بدراسة طبيعة الأرض وتضاريسها ، أما جغرافية الثقافة فهي تندرج تحت فرع الجغرافية البشرية المعنية بالسكان ، أي بالبشر وتضاريسهم . هذا الفرع من الجغرافية يتفحّص بعمق العلاقة بين الثقافة والفضاء العام الذي يحتضن تمركز التجمعات المجتمعية الحضرية . كما يستكشف كيفية تشكيل الممارسات الثقافية ، بما في ذلك الأداء الفني والترفيهي ، وإحترام الهويات الفردية والجمعية وتبسيط المعاني وتسهيل الإنابة والتمثيل والتشخيص الذي يرمز للغير، وتطبيق ذلك بمجمله من خلال البيئات الحضرية والاجتماعية . تدرس جغرافية الثقافة أيضاً العلاقات بين الثقافات وبيئاتها المادية ، والاجتماعية وكيفية تأثر وتأثير كل منهما بالاخرى . أما الأداء فهو مفهوم جوهري في جغرافية الثقافة ، لأنه يشير إلى الطرق والوسائل التي يجسد بها المؤدّون ثقافتهم ، ويعبرون عنها ، ويتلبسونها من خلال مختلف النشاطات والإجراءات والأحداث والطقوس والتفاعلات . يمكن أيضًا النظر إلى الأداء كونه نمطاً من الاستفسار الدائم الذي يستكشف كيفية إنتاج الثقافة ، والتنافس عليها ، وتحويلها من خلال الأفعال الأدائية الي مُنتج حيّ . كما يمكن استخدام فنون الأداء لاستكشاف الأسئلة المتعلقة بجغرافية الثقافة ، مثل الهوية والذاكرة والتنقل (بين المدن أو بين البلدان) وغير ذلك . ومن جانب هام ، فيمكن للفنانين أو المؤدين أيضًا استخدام عروضهم للتعبير عن وجهات نظرهم حول القضايا السياسية والاجتماعية . ومن الوظائف الحيوية لأستخدام فنون الأداء هو إمكانية إنشاء ما يمكن تسميته "بالمكان المفضّل" ضمن المساحات الحضرية داخل المدن . هذا المكان يجب أن يحمل مقومات جذب الناس اليه كي يجتمعوا فيه للتمتع بالأداء الفني و لسماع الأفكار البديلة ، وربما نقد منهج إتخاذ القرار أو مديحه في المدينة ، إضافة الى إمكانية تبادل الأفكار والخبرات . ( ) وقد طور مرسى السفن القديمة في ميناء لندن ليصبح ملتقى المثقفقين و الفنانين بعد ان اصبح غير مؤهل لاستقبال السفن ، وكذا الحال مع منطقة السراي و القشلة في بغداد . بالمختصر ، جغرافية الثقافة ، هي دراسة العلاقة بين الثقافة والمكان . وبصورة عامة ، تدرس جغرافية الثقافة القيم والممارسات الثقافية ، والتعبيرات والمصنوعات اليدوية والخطابية والمادية للبشر، والتنوع الثقافي والتعددية في المجتمع ، وكيفية توزيع الثقافات على الفضاء ، وكيفية إنتاج الأماكن والهويات ، وكيفية فهم الناس للأماكن وبناء إحساسهم بها ، وكيفية إنتاجهم للمعرفة والمعنى وتواصلهم . لطالما كانت جغرافية الثقافة مكونًا أساسيًا في علم الجغرافيا ، على الرغم من أن كيفية تصورها وأدواتها المفاهيمية ونهج البحث التجريبي قد تغيرت بشكل ملحوظ بمرور الوقت . تشمل بعض أمثلة مجالات الدراسة في جغرافية الثقافة الجديدة ما يلي : الجغرافيا النسوية ، جغرافيا الأطفال ، جغرافية السياحة ، الجغرافيا السلوكية ، الجنس والمكان ، بعض التطورات الحديثة في الجغرافيا السياسية ، جغرافية الموسيقى ، وغيرها ( ) ](للمزيد من المعلومات عن جغرافية الاطفال ينظر ( ) و للمزيد من المعلومات عن جغرافية السياحة ينظر ( ) و ( )[ . من منظور جغرافية الثقافة الجديدة ، لم يكن المشهد الطبيعي مجرد قطعة أثرية مادية تعكس الثقافة بشكل مباشر، بل كان مثقلاً بمعاني رمزية تستدعي فك شفرتها في سياقها الاجتماعي والتاريخي ، باستخدام تقنيات جديدة كالتصوير. وبالمثل ، زعم البعض أن الممارسات والقطع الأثرية والتمثيلات الثقافية الأخرى بحاجة إلى التنظير والتحليل بطرق أكثر سياقية وارتباطية وعلائقية ، مع مراعاة آليات الاختلاف والقوة . فالهويات الثقافية ليست جوهرية وغائية ، بل يجب فهمها على أنها مكونة لهندسة قوة معقدة تُفضي إلى جميع أنواع التباين والتنوع . تطرح جغرافية الثقافة مشكلة معرفية مربكة ، وغامضة ، ومزدوجة ، تتعلق أولاً بمجالات أو فروع جديدة من الجغرافيا ، وثانياً إنكار منهج التفكير الجغرافي القائم على المعارف الملموسة والإختصاص الدقيق . لذلك تتبنى جغرافية الثقافة وتستجيب لمفهوم الثقافة كما تحتضنه العلوم الاجتماعية المعاصرة . فجغرافية الثقافة أساساً تستكشف الأبعاد المكانية للمجتمع . وهي أيضاً دراسة وتلمّس العلاقات بين الثقافات وبيئاتها المادية ، والاجتماعية وكيفية تأثر وتأثير كل منهما ببعض . أما الأداء فهو مفهوم جوهري في جغرافية الثقافة ، لأنه يشير إلى الطرق والوسائل التي يجسد بها المؤدّون ثقافتهم ، ويعبرون عنها ، ويتلبسونها من خلال مختلف النشاطات والإجراءات والأحداث والطقوس والتفاعلات . إن جغرافية الثقافة ليست مجرد نتاج لترتيبات اجتماعية معينة للعالم ، بل إنها ترتيبات أسفرت عن فضاءات متناقضة من الاختلاف ، بدلاً من فضاءات مثالية من اليوتوبيا . يرجع محافظة جغرافية الثقافة على مكانة مهمة في الجغرافيا الأمريكية ، إلى حد كبير إلى شعبيتها كمقدمة للطلاب الجدد في هذا التخصص .
الاجابة عن بعض الاسئلة ذات الصلة ما هي عناصر الثقافة ؟ عناصر الثقافة هي : اللغة ، الدين ، الفن ، العادات ، التقاليد ، العرف والقيم الاجتماعية ، و القانون . ( ) و تتكون الثقافة من أنماط ، صريحة وضمنية ، للسلوك المكتسب والمُنقل من خلال الرموز، والتي تشكل السمات المميزة للثقافة . وهي عملية إنتاجية للجماعات البشرية ، بما في ذلك تجسيدها في التحف الفنية . و يتألف جوهر الثقافة الأساسي من الأفكار التقليدية (أي الأفكار المشتقة والمختارة تاريخيًا) وخاصة القيم المرتبطة بها ؛ ويمكن عد أنظمة الثقافة ، من ناحية نتاجًا للفعل ، ومن ناحية أخرى عنصرا مشروطا لمزيد من الفعل ، فالعلاقة حلقية يصب احدى بالاخر مما يؤدي الى استمراية التغيير و التطور .
هل تختلف الثقافة زمنيا ؟ بالتاكيد فلكل زمان تقنياته و قيمه الاجتماعية والاخلاقية ، وله رموزه التي يقتدي بها ، و له تصوره عن هويته التي يعكسها من خلال الممارسات اليومية ، اي له ثقافته المميزة . فدوام الحال من المحال ، ولكل شيء دورة حياة ، ونهاية شيء ما ناتج عن ولادة شيء اخر بديل عنه او مكمل له . والحياة على سطح الكرة الارضية عبارة عن سلسلة متصلة من التغيرات الطبيعية والبشرية في مختلف ، ان لم يكن جميع ، جوانبها و-او عناصرها . ولكل مرحلة ثقافتها الخاصة بها .
ما هي العوامل التي تؤثر على الثقافة فتغيرها ؟ لكل ثقافة شخصيتها التي تميزها وتتمايز بها عن سواها من الثقافات الاخرى . أما مصدر ذلك التميز أو تلك الخصوصية فراجع الى البيئة الاجتماعية الخاصة التي تنشأ في كنفها وتعبر عنها ، اضافة الى البيئة الطبيعية . ورغم التسليم بالطبيعة الكونية للثقافة ، فإننا نحتاج إلى تعيين تلك الكونية تعيينا دقيقا . فالكونية لا تعني المطابقة الكاملة في الشخصية الثقافية ، أو التماهي التام بين الثقافات . فإذا كان هناك ثمة عام مشترك بين الثقافات ، فإن كل مجتمع يعيش ذلك العام بوصفه خاصا فيضفي عليه خصوصية مميزة . فالعلامات الثقافية تشتغل بشكل فاعل ومميز بسبب عوامل التاريخ والاجتماع وهي العوامل التي لا تخضع لقانون المماثلة . ( ) بعبارة ادق كل عامل يؤثر على الطبيعة وعناصرها و على الانسان وحياته له اثره المباشر وغير المباشر على ثقافة المجموعة و هوية المكان وقاطنية . بعض عناصر الثقافة ، ومكوناتها ، هشة امام عوامل و مرنه امام اخرى و صلبة امام البعض الاخر . فعلى سبيل المثال ، وللتوضيح فقط ، ثقافة اي شخص منا ليست كما هي قبل سنوات : ثقافة مرحلة الدراسة الثانوية ، ثقافة مرحلة الجامعه ، ثقافة مرحلة الدراسات العليا ، ثقافة مرحلة العمل المهني ، ثقافة مرحلة العزوبية ، ثقافة مرحلة الزواج و هكذا . تغيراتها تدريجية ولكنها تتحرك باتجاه واضح للنضج والارتقاء الحضاري . فلم ترتبط ثقافتنا الشخصية بما تعلمناه في المدارس فقط ، بل بالقراءات الخارجية ، بالاصدقاء والاقران ، بالنوادي والجمعيات التي انتمينا اليها ، بالهوايات التي مارسناها ، بالمسئوليات التي تحملناها ، بالظروف و التجارب التي مررنا بها ، بالاماكن التي زرناها او عشنا بها ، بكل ما صادفناه و عانينا منه في حياتنا ، وما نتابعه عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي . لخصت ثقافتنا كل ذلك و عبرت عنه بسلوكنا و نظرتنا للحياة ، واسلوب تفاعلنا مع الاخرين . وعندما ننتقل من مدينة الى اخرى تتغير سلوكياتنا نتيجة لتاقلمنا مع البيئات الجديدة . وكمثال على اثر التقنيات اورد الاتي : لقد تغيرت اساليب التسوق اليومي ، و نمط حياتنا مع تغير وسائل الخزن (الثلاجات الخشبية ، ثم الكهربائية و المجمدات) . واختلفت احاديثنا الاجتماعية وتجمعاتنا العائلية باختلاف وسائل التواصل الاجتماعي و الاعلامي وما يبثه من مسلسلات ومواضيع . هذه نماذج عشناها ، وما زلنا نلهث وراء الجديد من تقنيات نجهل اثرها على حياتنا الاجتماعية وثقافتنا الشخصية والعامة . نحن نسبح في نهر الحياة الذي يجرفنا حيثما يريد ، لا حيلة لنا الا ان نبقى على قيد الحياة ، او تاخذنا دواماته الى الاعماق السحيقة .
ما العلاقة بين البيئة و الثقافة ؟ الانسان ابن البيئة ، وهو يتفاعل معها ويؤثر بها ويتاثر بها ، وهي التي تسهم بفاعلية في تشكيل ثقافته اولا و هويته ثانيا ، فسلوكه وطراز حياته يتشكلان بالتوافق مع البيئة التي يعيش بها وينشط . ويعمل هو من جانبه لتطويرها طبقا لما يراه مناسبا له ولطموحاته الذاتية . لذلك هناك ثقافات ذات طابع اقليمي ، و لإعطاء الجانب الإقليمي للثقافة أهمية لتنافس الجوانب التكنولوجية أو الاجتماعية أو الثقافية . وهناك ثقافات مهنية ، و غيرها الكثير . إن هذا القول صحيح بشكل خاص عندما يصبح ممثلو ثقافة ما متجذرين بعمق في مكان معين ، او مهنة محددة . فالثقافة هي نتاج البيئة المحسوس وليس الملموس .
هل الثقافة خاضعة للقياس و التقويم ؟ اجمالا من الصعب تقيم الثقافة رقميا ، ولكن هناك طرائق لقياس الاداء الثقافي ، حسب نوعه وطبيعته . يبقى السؤال ، هل يعطي مجموع (او معدل ) تقييم الاجزاء صورة حقيقية عن مستوى الثقافة اجمالا ؟ يتطلب الفهم المنهجي لثقافة المجموعات البشرية تقنيات متطورة من مستوى أعلى . وليس أقل المشاكل أهمية تحقيق الموضوعية الكافية ، وهي مسألة ثانوية نسبيًا في التخصصات الفيزيائية والبيولوجية . فعلى على دارس الثقافة أن يجرد نفسه بطريقة ما من تصوراته المسبقة الأصلية ، و عليه الاعتراف بإنتاج المعرفة ، سواء في الماضي أو في الحاضر، وكونها مشبعًة بعلاقات اجتماعية للقوة المسيطرة حينها .
بماذا تختلف جغرافية الثقافة عن فروع الجغرافيا الاخرى ؟ تختلف جغرافية الثقافة عن غيرها من فروع الجغرافيا ، حسب رأي الشخصي ب : (1) ان مؤشرات دراساتها عديدة جدا ، ومتداخلة ومتشابكة و غير سهلة القياس والتقييم الموضوعي ، (2) وانها تدرس الاثر المكاني لتفاعل الانسان مع البيئتين الطبيعية والبشرية ، بهذا هي دراسة لخلاصة هذا التفاعل وانعكاسه على الحياة اليومية للمجتمع سلوكا وقيما و ضوابط وافكارا ، (3) انها ازلية لارتباطها بالانسان وجميع نشاطاته الحياتية منذ فجر التاريخ الى يومنا هذا . فهي مكانية ، انثروبولوجية ، تاريخية ، اجتماعية ، حضارية في وقت واحد . (4) كما هو الفرق بين دراسة التاريخ العام و تاريخ الحضارة لمنطقة محددة ، كذلك الفرق بين الجغرافيا العامة (وحتى التخصصات الدقيقة) و جغرافية ثقافة تلك المنطقة . لذا يمكن القول بان جغرافيه ثقافة اي مكان (او مجموعة) على سطح الكرة الارضية خاصة به ، متنوعة زمانيا ، ومتباينة مكانيا ، وفي حالة تغيير شبه دائم ان لم يكن دائما . فلكل زمان جغرافياته الثقافية ، و لكل مكان جغرافياته الثقافية الخاصة به ، التي تجسد الظروف الطبيعية والبشرية التي مر بها والتي يعيشها . وقد ينطبق هذا على فروع الجغرافيا الاخرى ، فالتغيرات مستمرة في الجوانب الطبيعية (المناخ ، السطح ، التربة ، النبات الطبيعي ، الخ) وفي الجوانب البشرية (اقتصاديا وسياسيا و اجتماعيا و ثقافيا) ، ولكن الامر اكثر تعقيدا و تداخلا بالنسبة لجغرافية الثقافة . يمكن تشبيه الحالة بما يرى في المنظار المنشوري Kaleidoscope المتغير الرؤية مع كل حركة . فما نراه الان يتغير مع اي حركة بسيطة في المنظار . والثقافة اشبه بالشفق القطبي Aurora ، المتحرك – المتغير الالوان ، مبهرة و غير مستقرة .
لو اردنا دراسة جغرافية الثقافة في العراق ، بماذا نبدأ ؟ سؤال مقصود لتحريك الجو و تحدي لمن يرى في نفسه الرغبة والقدرة للمبادرة والاجابة الموضوعية. المصادر والمراجع
#مضر_خليل_عمر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
-
ارهاصات متقاعد
-
الفاصلة الثقافية بيننا و العالم المتمدن
-
ثقافة الايفون
-
بناء ثقافة البحث العلمي : الممارسات الموصى بها
-
تحت الرماد نار حرب مقدسة
-
التغييرات الاجتماعية والثقافية : العراق انموذحا
-
تقييم نقدي لواقع التعليم الجامعي في العراق
-
الجامعة والإبداع الفكري: أمراض تصيب الجامعة فتعيقها عن الإبد
...
المزيد.....
-
حارس بيئي للإمارات..مصورة تبرز دور أشجار القرم بمكافحة تغير
...
-
مذبح غامض وجثث مدفونة.. من يقف خلف هذا الهيكل المدفون في قلب
...
-
ولي نصر لـCNN: إسرائيل تفضل ألا يتفاوض ترامب مع إيران.. ماذا
...
-
-متلبسا بالصوت والصورة-.. ضبط مدير جمعية تعاونية بالكويت يطل
...
-
مصر تمتلك -إس-400- الصيني.. تقارير إسرائيلية تعبر عن مخاوف م
...
-
زيارة سرية لقائد سلاح الجو الإسرائيلي إلى واشنطن واتفاق حول
...
-
بعد رفضها لمطالبها.. إدارة ترامب تجمد 2.2 مليار دولار لجامعة
...
-
إدارة ترامب تخطط لخفض ميزانية الخارجية إلى النصف وتقليص البع
...
-
مصر تقترب أكثر فأكثر من ترؤس اليونسكو
-
الداخلية السعودية تطلق -منصة تصريح- الذكية لإصدار وتنظيم تصا
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|