أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - الشهبي أحمد - جيل التسعينات: من الحلم إلى الاختناق؟















المزيد.....

جيل التسعينات: من الحلم إلى الاختناق؟


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8306 - 2025 / 4 / 8 - 08:21
المحور: كتابات ساخرة
    


تخيل أنك استيقظت ذات صباح لتجد نفسك داخل قطار سريع، لم تشترِ تذكرة، لم تختر مقعدك، ولم تسأل حتى عن الوجهة، لكن الجميع من حولك يصفقون بحماس ويؤكدون لك: "لا تقلق، هذا القطار متجه نحو المستقبل المشرق!" فتجلس مطمئنًا، تتأمل النافذة، تشاهد المحطات تمر بسرعة البرق، وأنت مقتنع بأن النهاية ستكون رائعة، بأنك ستصل إلى مدينة الأحلام حيث تنتظرك الفرص، النجاحات، وربما حتى نسخة أفضل منك ترتدي بدلة أنيقة وتبتسم بثقة.

لكن مع مرور الوقت، تبدأ تلاحظ شيئًا غريبًا: المحطات تبدو متشابهة، نفس المباني، نفس الوجوه، نفس الشعارات المعلقة على الجدران بلون باهت كأنها لم تتغير منذ عقود. تحاول أن تسأل الركاب بجوارك: "أين نحن؟ متى سنصل؟" لكن الإجابات ضبابية، مبهمة، وبعضهم ينظر إليك بقلق وكأنك طرحت سؤالًا محرّمًا. ثم تبدأ الشكوك تتسلل إلى رأسك، فتتجه إلى مقدمة القطار بحثًا عن السائق، لكن المفاجأة الكبرى بانتظارك: لا يوجد أحد في غرفة القيادة، فقط مقود يدور من تلقاء نفسه، وساعة توقفت عقاربها عند زمن لا تعرف متى بدأ ولا متى سينتهي.

هذا هو واقعنا، نحن جيل التسعينات، الجيل الذي أقنعوه بأن رحلته مضمونة، مستقبله مرسوم، وأنه بمجرد الجلوس وانتظار وصول القطار، ستفتح الأبواب تلقائيًا نحو عالم مليء بالفرص. لكننا اليوم، بعد سنوات من السفر، اكتشفنا أن القطار لا يتوقف أبدًا، وأن الطريق الذي قيل لنا إنه مستقيم كان في الحقيقة دائرة مغلقة تدور بنا بلا نهاية. وبينما نحاول كسر هذه الحلقة، لا نجد أمامنا سوى خيارين: إما أن ننتظر إلى الأبد، أو أن نضحك على أنفسنا ونستمتع بالمشهد قبل أن ينفد منا الهواء.

تخيلوا معي جيلًا كاملاً يُغذى على أحلامٍ من شوكولاتة فارغة، يُنحت من طين الوعود الزائفة، ويُعرض في مزاد علني كتحفة فنية مطلية ببراقة الذهب المزيف. جيلٌ يركض في حلقة مفرغة اسمها "النجاح"، بينما يدور حوله العالم كدولاب هواء مُثقب، ينفخ فيه الجميع ليحلقوا به إلى الفضاء، ثم يفاجأ بأنه مجرد بالون ورقي يتسرب منه الهواء ببطء، ليسقط في ساحة مدرسة مهجورة حيث تُعلّق شعارات مثل "أنتم مستقبل الأمة" على جدران متشققة.

نحن أولئك الذين وُلدوا في حقبةٍ تتنفس أكسجين السيناريوهات السينمائية الفاشلة: بدأنا الرحلة بفيلم خيال علمي واعد عن حضارةٍ قادمة، وتحول فجأة إلى كوميديا سوداء مكتوبة بإهمال، ثم انتهى بنا المطاف في مشهد درامي من مسلسل رخيص تُسرق فيه الأضواء من البطل لصالح شخصية ثانوية اسمها "الواقع المر". لقد دربونا على حمل المشاعل منذ الصغر، لكنهم نسوا أن يخبرونا أن الوقود نفد منذ الثمانينيات، وأن كل ما سنضيئه هو أعواد ثقاب رطبة نُشعلها في عتمة غرفة مليئة بالدخان.

كبرنا ونحن نعتقد أن الحياة لعبة فيديو مفتوحة المصدر، يمكننا تعديل قوانينها بضغطة زر، لنكتشف لاحقًا أننا مجرد شخصيات غير قابلة للتحكم في لعبة "ببجي" اجتماعية، حيث يُطلق النار على أحلامنا من مسافات بعيدة بواسطة لاعبين مجهولين، بينما تتحالف "اللايف تشات" مع "الوضع الصعب" لتجعل كل حركة نخطوها أشبه بالسير في حقل ألغام عاطفي.

الاقتصاد؟ دعونا لا ننسى تلك الرقصة السوريالية التي يُطلق عليها اسم "الاستقرار المالي"، حيث نرقص جميعًا على إيقاع تضخم متسارع، بينما يحاول كل منا التقاط أوراق نقدية تطير في الهواء مثل مشهد من فيلم كارتوني، لكن الأوراق في الحقيقة مجرد صفحات من كتيب "كيف تصبح مليونيرًا في عشر خطوات" الذي اشتريناه من متجر التنمية البشرية الوهمي.

التعليم؟ تلك الكوميديا الإغريقية المأساوية التي تبدأ بطلابٍ متحمسين يحملون حقائب ثقيلة كأنها تابوت أحلامهم، وينتهي بهم المطاف في مدرج جامعي أشبه بمصنع تعبئة سمكة، حيث تُحشى الأدمغة بكميات هائلة من المعلومات كأنها ثلاجة قديمة يُرمى فيها كل ما فات تاريخ صلاحيته، بينما تُعلق على الجدران لافتات تقول: "ممنوع التفكير خارج الصندوق، الصندوق نفسه اختفى منذ فترة"

الثقافة؟ دعونا نتفق أنها أصبحت تشبه بوفيه فطور في فندق ثلاث نجوم: كل الأطباق مغرية من بعيد، لكن عندما تقترب تجد "الهاشتاجات" بدلًا من البيض، و"الميمز" بدلًا من الفول، و"التريندات" كطبق رئيسي تطفو عليه طبقة زيتية من السخرية اللاذعة، بينما يصرخ الطاهي الرقمي: "هذا ما تبقى من مخزون العقل الجمعي، أتريدون إضافة كمية من النقاشات العقيمة؟ مجانًا مع كل وجبة"

أما الإنترنت، ذلك الوحش الودود الذي وُعدنا بأنه سيكون جسرنا إلى العالم، فقد تحول إلى متاهة ديجيتالية نبحث فيها عن قطعة جبن واحدة (الحقيقة) بين آلاف الفخاخ (الأخبار الكاذبة). لقد أعطانا مفتاح المدينة الفاضلة، لكنه نسخه مليون مرة ووزعه على الجميع حتى أصبح كل طريق يؤدي إلى جدار إعلانات، وكل نافذة تطل على ساحة معركة رقمية حيث يُقتل العقل البطيء بالبلاغات، وتُشنق الأفكار الجريئة بخيوط التصويتات السلبية.

الشبابيك التي فتحناها على العالم اتضح أنها نوافذ زجاجية سميكة في غرفة عالية الضغط: نستطيع أن نرى الحرية من خلفها، نلهث لاستنشاق هوائها، لكن كل ما يصلنا هو نسخ مقلدة من الأكسجين تُباع في عبوات "حرية التعبير المحدودة ببنود وشروط الاستخدام". وحين نحاول كسر الزجاج، نكتشف أنه من نوعية "الواقع المعزز" الذي يسمح لنا برؤية كل شيء إلا الحقيقة.

اللغة؟ لقد أصبحت كائنًا هجينًا كأنه فرانكشتاين لغوي: عيون من الإيموجيز، وأطراف من الاختصارات، وجذع من المصطلحات المستوردة التي فقدت جوازات سفرها، وقلب ينبض بنكاتٍ ميتة نعيد إحياءها كل صباح كطقوس دفاع عن النفس! نحن نتحدث لغةً جديدة اسمها "الترجمة الحرفية للشعور"، حيث تصبح "اللايكات" بديلاً عن الدعم النفسي، و"الكومنتات" مساحةً للعلاج الجماعي المجاني.

أما العدو الخفي... ذلك الشبح الذي يرتدي بدلة "المشرف العام" ويحمل حقيبة مليئة بأدوات الإلغاء، فيجوب الفضاء الرقمي كحارس حديقة هتلري، يقطع أي زهرة فكر تزهر خارج الخط المرسوم! إنه ساحر القرن الحادي والعشرين الذي يحول النقاشات إلى حجارة صماء، والأفكار إلى غبار رقمي، بينما يهمس في أذن الجمهور: "انظروا كم هذا الجيل فظيع، يجرؤون على الكلام وكأنهم أحرار"

لكننا في العمق... نحن ذلك الكائن الساخر الذي يرقص على حافة الهاوية، يغني أغنية "ها قد أتيت" بينما يلملم بقايا كرامته من أرض المعركة. جيلٌ حوّل اليأس إلى فن، والعبث إلى فلسفة وجودية، والفشل إلى مادة دسمة للسخرية الذاتية. نعم، قد نكون محشورين في زاوية التاريخ هذه، لكننا رسمنا عليها جرافيتي ساخرًا سيحير المؤرخين المستقبليين: "كنا هنا، ضحكنا، ثم انفجرنا من كثرة الضحك... الرجاء عدم الاقتراب من الجدار!"

ففي النهاية، ماذا سنفعل غير أن نصنع من الاختناق نكاتًا، ومن الانهيارات ميمات، ومن الأحلام المحطمة وقودًا لسردياتنا الكوميدية؟ إنها حرب باردة بين جيلٍ يعرف أنه خسر المعركة مسبقًا، وبين عالمٍ يصر على أن يبيع له تذكرة دخول إلى ملعب الحياة وهو يعلم أن المقاعد كلها محجوزة. لكننا سنبقى نتصرف كضيوف شرف عنيدين، نرفض المغادرة، نصرخ بالنكات في وجه النظام، ونلتهم الفشار الساخن بينما تشتعل الخشبة من حولنا... لأن هذا كل ما تبقى لنا: أن نضحك بصوت عالٍ قبل أن يطردونا من القاعة.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعلم ... من مربٍ إلى هدف
- الجزائر بين وهم الماضي وواقع المغرب المتقدم: الحقيقة التي لا ...
- طفولة المغرب بين مؤثرات الإعلام وتآكل القيم
- المغاربة… يكذبون الكذبة على الفايسبوك ويؤمنون بها
- الطاكسيات في المغرب: تقدر توصل وتقدر ما توصلش
- المغربي: بطل الأساطير في مسرح الحياة اليومية.
- صوتٌ يصدحُ من بين القيود: رؤيةٌ نقديةٌ ل-تحرير المرأة- مع قا ...
- شوبنهاور والعيد: سعي بلا نهاية نحو السعادة الزائفة
- التطرف السياسي والخيانة: عندما يصبح المبدأ عرضة للتغيير
- عندما تصبح الصحافة صراعاً شخصياً: هل نعيش عصر -الفرجة الإعلا ...
- صفعة تمارة: السلطة والمواطن بين القانون والثقة المفقودة
- الوعي المثقف: مرض ودواء في قبو دوستويفسكي
- -أصداف الدهور-: حين يصبح الزمن قفصًا، والماضي لؤلؤة مفقودة ف ...
- أصداف الدهور: حين يصبح الزمن قفصًا، والماضي لؤلؤة مفقودة في ...
- الليل لنا: تأملات في الغياب والحضور في رواية محمد مباركي
- السياسي والمؤرخ: صراع الزمن والقلم
- مزهوون بمتلاشيات الآخرين
- أنقاض الروح والكلمة: قراءة في مجموعة - تحت الركام- القصصية ل ...
- التعليم المغربي: حلم يتهاوى بين فوضى السياسة وصمت الجميع
- عبارات ملهمة: قراءة نقدية وتحليلية في أعماق الكلمة والوجود ل ...


المزيد.....




- -هوماي- ظاهرة موسيقية تعيد إحياء التراث الباشكيري على الخريط ...
- السعودية تطلق مشروع -السياسات اللغوية في العالم-
- فنان يثني الملاعق والشوك لصنع تماثيل مبهرة في قطر.. شاهد كيف ...
- أيقونة الأدب اللاتيني.. وفاة أديب نوبل البيروفي ماريو فارغاس ...
- أفلام رعب طول اليوم .. جهز فشارك واستنى الفيلم الجديد على تر ...
- متاحف الكرملين تقيم معرضا لتقاليد المطبخ الصيني
- بفضل الذكاء الاصطناعي.. ملحن يؤلف الموسيقى حتى بعد وفاته!
- مغن أمريكي شهير يتعرض لموقف محرج خلال أول أداء له في مهرجان ...
- لفتة إنسانية لـ-ملكة الإحساس- تثير تفاعلا كبيرا على مواقع ال ...
- «خالي فؤاد التكرلي» في اتحاد الأدباء والكتاب


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - الشهبي أحمد - جيل التسعينات: من الحلم إلى الاختناق؟