|
حياة
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1801 - 2007 / 1 / 20 - 07:01
المحور:
الادب والفن
تجمّعوا على وجه السرعة في مستشفى الصباح واندفعوا بخطى مرتبكةٍ وجِلهَ إلى الجناح المخصص لإجراء العمليات الكبيرة ، وداهمتهم على حين غرة أشد التوجسات شؤماً ، وعلت وجوههم سحابة سوداءَ داكنة مثقلة بالكآبة ، وكل شيءٍ في تلك اللحظة كان يشي برائحة الفجيعة ..
فقبل قليل أدخلوا أختهم فاطمة غرفة العمليات على إثر نزيفٍ حاد ، أخفقَ الفريق الطبي في إحدى المستشفيات الخاصة السيطرة عليه بعد ولادة قيصرية ، وعلى الطرف الآخر من هذا المشهد الكئيب ابنة فاطمة المولودة قبل ساعات قليلة ، كان عليها أن تستقبل الحياة بعيداً عن أحضان أمها التي كانت تنزفُ بغزارة في غرفة العمليات ..
كان المكان يضجُّ بالذهول وبالتساؤلات المريرة وفي رؤوسهم كانت تحتدم أفكار سوداء ، ينتظرون مصير أختهم المعلّق بأكياس الدم التي كانت تتدفق كزخات المطر على غرفة العمليات ، وكانوا يذرعون الممر ذهاباً وإياباً تتقاذفهم أمواجٌ من القلق والاضطراب والتوجس ، وكانوا على يقين تام أن المسألة تتطلب في هذه اللحظات المتحشرجة بالمجهول معجزةً إلهية تعيد لأختهم نبض الحياة ولقلوبهم المثلومة دفق الأمل ، ولوجوههم الغارقة في الأسى بهجة الفرح ، وكانوا يرددون في داخلهم ، أن العناية الربانية لا بدَ وإنها قد رافقت أختهم منذ اللحظة الأولى لدخولها غرفة العمليات ولكنهم كانوا يريدون أن يتلمسوا نتائج هذه العناية بسرعة مذهلة ، دون أن يعوا أن المراحل العصيبة في حياة الإنسان تأخذ دورةً كاملة في الانتظار والوقت ..
على بُعدِ بضعة أمتارٍ قليلة من غرفة العمليات كان يقف ناصر زوج أختهم فاطمة ، مشتت الذهن ، مذهولاً ، واجماً ، وفي عينيهِ يتجذر حزن مميت ، وبدا مستسلماً لأشد الأوقات قسوةً في حياته ، بينما كان أخوها محمود لائذاً بالصمت المدلهم ، يستجمعُ هدوءه الذي تناثر منه ، في حين كانت أختها حنان تمتزج دموعها بالتسابيح والأوراد بين لحظةٍ وأخرى ، وتوصي الجميع بالإكثار من الأدعية والصلوات والتراتيل ، وفي الوقت ذاته كانت أختها الأخرى معصومة تجد صعوبةً في لملمة ما تبقّى منها من شجاعة المواجهة لِتستحوذ على أية بارقة أمل تُرمم بها ما تداعى منها في ساعات الصدمة الأولى ، بينما كان أخوها علي يحاولُ جاهداً أن يبدو متماسكاً ولكن كانت تخونه بعض العبرات المخنوقة في مقلتيه ، فيما كانت زوجته تبدو أكثرَ هدوءاً وصلابةً وتحاولُ أن تخفف عليهم هول الصدمة ، ولم تستطع أختهم حوراء من إخفاء توجساتها المخيفة مما أفقدتها التركيز في الحديث وبدت مبعثرة تغالبها الدموع تارةً ، وتارةً أخرى تغرق في همهمةٍ روحانية ، وقد لاحظَ عبد الله القلق البادي على محيا زوجته حوراء فكان يبادرُ إلى تبديد أية غيمة شؤم قد تستوطن مخيّلتها ..
في هذه الأثناء كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل وقد مرّ على غيبوبة فاطمة ونزفها المتواصل خمس ساعات متعاقبة ..
في هذه الساعة قررت الدكتورة والدكتور القديران المتابعان منذ البدء في غرفة العمليات لحالة فاطمة ، استئصال الرحم في محاولةٍ أخيرة منهما لوقف النزيف الحاد ، ولم يكن أمام عائلة فاطمة سوى الانتظار والتسليم لهذا الأمر ، وأن تلهم السماء أختهم مزيداً من الصبر والتجلّد لاجتياز هذه المحنة القاسية ، وقد طلبت منهم إدارة المستشفى إخلاء الممر الخاص بالعمليات الجراحية حفاظاً على الهدوء والنظام وراحة المرضى ، وكان تنفيذ هذا الطلب صعباً للغاية عليهم لأنهم كانوا يريدون أن يتابعوا عن كثب وعن قرب حالة أختهم ، ولكن في نهاية الأمر أذعنوا لإدارة المستشفى ولكنهم طلبوا أن يبقى بالقرب من غرفة العمليات بعضاً من أهلهم ولم تتردد إدارة المستشفى في رفض طلبهم ، فأصبحوا قسمين ، بقيَ في الداخل زوجها ناصر وزوجة أخيها وأختها حنان وصديقة أختهم منى الأثيرة جداً لديها ، بينما توجه الآخرون إلى غرفة الاستراحة خارج الممر ، وقد تجاهلَ أخوها محمود توسلات والدته بالمجيء معه ساعة انطلقَ من البيت مساء ذلك اليوم فور تلقيه خبر حدوث النزيف لمعرفته بعدم تمكنها من تحمل هذه المواقف العصيبة ..
كانت الاتصالات الهاتفية تنهال عليهم باستمرار من بقية العائلة والمعارف والأصدقاء لمعرفة المزيد من التفاصيل حتى أن ابنة محمود وابنه الصغيران كانا يتصلان به باستمرار لمعرفة حالة عمتهما فاطمة ويخبران والدته بالمستجدات ..
في حياتي دائماً كنتُ أقول لأصدقائي ، على الإنسان أن لا يُسرف في حبهِ للآخر لأن القدر قد يأخذ أعز مَن نحب في لحظةٍ خاطفة ، هكذا قال محمود لأفراد عائلته في المستشفى ، وهذا الإسراف في الحب وجده طافحاً بوضوح في منى صديقة أخته فاطمة ، ولذلك لم بستغرب إصرارها على البقاء قربها عند غرفة العمليات ، حيث كانت هائمة في مناجاتها للخالق وغارقة في وحشتها الصامتة وكانت تخفي الكثير من اضطرابها خلف سكونها الظاهري ..
أما زوجة محمود هي الأخرى لم تغادر المكان القريب من غرفة العمليات وكان يقرأ في عينيها توتراً قضى على ما اعتادت عليه من مرح الحضور وتلقائية التبسم وجمالية الشقاوة ..
ما أقسى أن يبقى الإنسان منتظراً يعدّ الدقائق والساعات مصلوباً يتأرجح بين شهقتين ، الأسى والبهجة ، كانت هذه حالتهم بالضبط ، ينتظرون أملاً بنجاة أختهم يكلل وجوههم بالبهجة ، وفي ذات الوقت كان الانتظار يضعهم على دكة الأسى تعبث برؤوسهم الصور القاتمة ..
اقتربت الساعة من الثالثة بعد منتصف الليل وكان على أكثرهم مغادرة المستشفى ومتابعة الحالة هاتفياً من المنزل بينما بقيَ بعضهم متواجداً لمتابعة حالة أختهم ، وكان على أخيها محمود أن يتوجه مباشرة إلى الداخل قرب غرفة العمليات مع المجموعة التي بقت ولم تغادر ، وما أن دخلَ إلى هناك حتى تسرّبَ بداخله صمت ثقيل كان يخيّم على جنبات الممر ، فوجدَ ناصر وقد استبد به التعب من الوقوف على رجليه طوال الوقت واستسلم للجلوس على الكرسي ، بينما كانت زوجتة تشخص بعينيها الطريق المؤدي لغرفة العمليات لالتقاط أية أخبار تصدر من هناك ، في حين كانت منى تتخذ لها مكاناً منزوياً ، بدا لها من الناحية النفسية أكثر أماناً من الوقوف في مواجهة الحدث ..
لم يطرأ أيّ جديد .. الأطباء يواصلون عملهم المضني .. أكياس الدم تتدفق .. أجنحة الرحمة الإلهية ترفرف فوق رأس أختهم .. الاتصالات الهاتفية تنهال عليهم تِباعاً.. والوقت يحيل نفسياتهم إلى حطام يتكوّم في محطة الانتظار ..
بعد ساعة من هذا الوقت خرجت فجأة الدكتورة من غرفة العمليات وهي مسرعة تطلبُ أن يأتي على وجه السرعة دكتور الأوعية الدموية من مستشفى مبارك الكبير للتدقيق قبل الانتهاء من العملية ، هكذا فهموا الأمر ، وهذه الخطوة كانت دلالة كما عرفوا على أن العملية تسير نحو مرحلة الحسم ، في هذه الأثناء برقت في أعينهم ومضات الفرح المشوب بالخوف وامتدت شيئاً فشيئاً مساحة السكينة في قلوبهم ..
وبعد أقلّ من نصف ساعة كان الدكتور من مستشفى مبارك الكبير يدلف غرفة العمليات بسرعةٍ فائقة وفي لحظة خروجهِ تحلقوا حوله جميعهم ليخبرهم أن النزيف تمت السيطرة عليه ، وستتحسن حالة فاطمة بعد ساعات قليلة ، فسرَت حالة من الانتعاش اللاشعوري في شرايينهم المتصلبة ، ولكن كانوا في انتظار أن تنتهي فصول الخوف والقلق والتوتر التي رافقتهم تسع ساعات متواصلة حينما يقول الأطباء المتابعون لحالة أختهم كلمة الفصل ..
وقد لاحظ حسن زوج معصومة الذي وصل في هذه الأثناء قادماً من منزله ارتباكهم في دائرة الهلع الخانقة ، فقال لهم كلاماً مشفوعاً بنبرة التفاؤل : لا تقلقوا ، كلام دكتور مبارك الكبير مطمئن للغاية ..
وعند الساعة السادسة من صباح يوم الأحد 13/7 / 2003 أحسّوا أن السماء من فوقهم شاهقة جداً ، تتسع لفرحة غامرة ، حينما قالت لهم الدكتورة وهي تخرج من غرفة العمليات أن أختهم فاطمة قد تعدت مرحلة الخطر وتمت السيطرة على النزيف ولكن عليها أن تمكث في غرفة الإنعاش تحت الملاحظة المركزة لمدة أربع وعشرين ساعة ..
فانطلقت منهم على الفور التمتمات تتهادى في أعماقهم بصوتٍ خفيض ، شكراً لله وامتناناً لكل مَن ساهم في نجاة أختهم ، وأسرع محمود لإخبار أخيه علي هاتفياً بانتهاء العملية على خير وأن في استطاعتهِ السفر بصحبة أختيه حنان ونور ، حيث كان موعد إقلاع طائرتهم بعد ثلاث ساعات من ذلك الوقت إلى لندن في مهمة علاجية ..
بينما انصرف الباقون لإجراء الاتصالات الهاتفية وسط فيضٍ من مشاعر الفرح الممزوج بالدموع لجميع الأهل والأصدقاء والمعارف الذين كانوا ينتظرون آخر الأخبار بكثيرٍ من القلق والاضطراب ..
وتوجه ناصر إلى الدكتورة ، يطلبُ منها أن يلقوا نظرة عابرة على فاطمة في غرفة العناية المركزة لتطمئن قلوبهم ، فوافقت الدكتورة بشرط أن يدخلوا على أختهم منفردين ، ولمدة دقيقة واحدة لكل واحدٍ منهم ، ولم يشاؤوا أبداً أن يروا أختهم في غرفة الإنعاش مقيّدة بالأسلاك والأجهزة الطبية ومستسلمة كلياً للتعب والإنهاك والغيبوبة ، ولكن ذلك كان ضرورياً لهم لكسر حالة القلق التي انتابتهم طوال تسع ساعات متواصلة ، وبينما كانوا يهمّون بمغادرة المستشفى قال محمود لمَن حوله : حقاً كانت ليلة عصيبة ، امتزجت فيها الدموع بالتمتمات والأمل بسكرة اليأس والبهجة بعتمة الأسى والألم بتباشير الفرح ، ثم أردفَ : ابنة فاطمة المولودة حديثاً ، الوجه المبهج في هذا المشهد الأليم وستمنح أمها المنهوكة تعباً حين رؤيتها أملاً مشرقاً في حياة جديدة ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة الجماعية والتعصب الأيديولوجي
-
يوم في هلسنكي
-
التخلف .. إرث الماضويات المهيمنة
-
الهاربون إلى الأوهام
-
تفتحات الذاكرة الآجلة
-
اليوتوبيا الدينية
-
السويد تنتصر إنسانياً
-
رمضان وفاتنتي التبغية
-
أن تكون نفسك
-
الممشى وصناعة الأفكار
-
ماذا لو حضر الحب وغابت الكراهية
-
المجتمعات وهيمنة الموروث الثقافي
-
المنتصرون بثقافة الموت
-
الإصلاح والثقافة الصنمية
-
لبنان .. حلمنا المضرّج
-
الجميلون لا يغيبون
-
كيف نفسّر للأطفال بشاعة الحرب
-
هل يعشق اللبنانيون الحرب
-
الوعد الخادع
-
إيطاليا ملَكت العالم
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|