أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ياسين خضراوي - مسلسل معاوية: بين ملحمة الدراما والتعسف النقدي















المزيد.....

مسلسل معاوية: بين ملحمة الدراما والتعسف النقدي


ياسين خضراوي
كاتب وخبير لغوي تونسي


الحوار المتمدن-العدد: 8298 - 2025 / 3 / 31 - 16:09
المحور: كتابات ساخرة
    


في زمن أضحى فيه المشهد الفني العربي يسبح في بحر من الضحالة والتكرار والتقليد، جاء مسلسل معاوية ليكسر هذا الجمود ويقدم لنا عملا فنيا ضخما يعيد الحياة إلى الدراما التاريخية العربية، ويُعيد الروح للمشاهد الذي ظن أن الدراما التاريخية قد تلاشت من ذاكرته. هذا المسلسل لم يكن مجرد تمثيل للأحداث، بل كان محاكاة سينمائية قادرة على أن تُشعل الحواس وتعيد للمشاهد الإحساس بعبق الماضي بكل ما يحمله من بطولات ودماء، مسندا إلى الميزانية الضخمة التي بلغت 100 مليون دولار، ما يجعله ليس فقط أحد أبرز الإنتاجات العربية، بل يُظهر في نفس الوقت الإمكانيات غير المحدودة التي يمكن أن توفرها الصناعة العربية عندما يُحسن استثمارها. لو كانت هذه الأموال قد أُنفقت في أي عمل آخر، لما كانت لتوفر لنا مشهدا مشبعا بتفاصيل الزمن الأموي كما فعل معاوية، أو لربما تراها انساقت وانتصرت لأحدى الروايتين.

أما في ما يخص التصوير، فقد شهد المسلسل تصويرا في تونس، وهو ما أضاف للمشاهد طابعا خاصا في تجسيد البيئة التاريخية. فالتضاريس التونسية، التي تتميز بتنوعها وجمالها، كانت بمثابة الأرض الخصبة التي ازدهر فيها تصوير العديد من المشاهد التي نقلت لنا أجواء الصراع والفتوحات في تلك الفترة. من سواحلها الذهبية إلى جبالها الشاهقة، لم يكن التصوير في تونس مجرد خيار جغرافي، بل كان قرارا فنيا بامتياز، فإذا ما كانت تونس قد لعبت دورا مركزيا في تعزيز أجواء المسلسل، فإن الإضاءة الطبيعية والمشاهد المفتوحة قد أضفت على العمل رونقا بصريا لم يسبق له مثيل، والتصوير في تونس، بكل ما له من تفاصيل دقيقة، أضاف طبقة أخرى من العمق لهذا العمل الذي كان يستحق أن يُرى بعيون مفتوحة على كل تفاصيله.

إن الانتقادات التي وُجّهت إلى لهجات الممثلين التونسيين في المسلسل، وخاصة تلك التي تخص نطقهم للعربية الفصحى، لا يمكن أن تُعتبر إلا تعسفا غير مبرر، فما تم انتقاده هو في الحقيقة جزء من الواقع التاريخي الذي كان يعكس التنوع اللفظي بين أقاليم العالم العربي في تلك الحقبة. صحيح أن اللغة العربية كانت ولا تزال هي أداة التواصل الرئيسية، ولكن لا يمكننا أن نغفل عن تأثير اللهجات المحلية في تلك الفترة التي كانت زاخرة بالاختلافات اللغوية، فهل كان من الممكن أن يتحدث أهل مكة والشام بشكل واحد؟ هل كانت لغتهم واحدة؟ لم يكن الأمر كذلك في أيامهم، وكأنما ننسى أنه في تلك الحقبة لم يكن هناك مفهوم واحد لما نعتبره “فصحى” اليوم، بل كانت اللهجات تتداخل مع الفصحى في نقاشاتهم اليومية، ولنا في فيلم الرسالة ولهجة إخوتنا المغاربة الواضحة أسوة حسنة، ورغم هذه الاختلافات في اللهجات، فقد أظهر الممثلون التونسيون قدرة جيدة في أداء أدوارهم، حيث استطاعوا أن يغرقوا في عالم الشخصيات التي يعبرون عنها، فالأداء الجميل لم يتأثر بتلك الملاحظات الطفيفة حول اللهجات، وهذا دليل على أن الممثلين التونسيين، برغم أنهم يعبّرون عن أنفسهم باللهجة المحلية، إلا أنهم أدوا بأداء فني عميق يجسد تطلعات تلك الشخصيات التاريخية بكل واقعية وأصالة، رغم أن أغلبيتهم الساحقة تخوض لأول مرة غمار المسلسلات التاريخية.

أما عن الأزياء، التي كانت محور نقاش واسع، فلا نجد أنفسنا إلا في مقام الدفاع عن هذا العمل الكبير، ألم يكن أبو سفيان تاجرا بين مكة والشام؟ ألم يكن من السهل عليه أن يمتلك الثروات التي تمكنه من شراء أفخر الأقمشة من الفرس والرومان؟ فملابس هند بنت عتبة، على سبيل المثال، كانت، تاريخيا، تتسم بالفخامة التي كانت جزءً من واقع تلك الأيام. لم يكن مستغربا أن يرتدي أثرياء القوم في ذلك العصر هذا النوع من الألبسة الفاخرة التي نشأت في الإمبراطوريات العظمى، وإذا كان بعض النقاد قد شككوا في دقة التفاصيل في الأزياء، فأين كانوا حينما احتاجوا إلى تصوير الواقع؟ إن الأزياء في معاوية ليست مجرد زينة خارجية، بل هي تجسيد حي لمجتمع كان يعيش في تفاعل دائم مع أمم أخرى، وكان أغنياؤه يتفاخرون بلباسهم مثلما يتفاخرون بمالهم ونفوذهم، ولم يكن ذلك غرابة أو خللا في الحقبة التاريخية، بل كان جزءً من الحياة اليومية للطبقات العليا. في النهاية، كانت الأزياء في المسلسل مجرد وسيلة لتوصيل الرسالة، وهي رسالة موجهة إلى كل من يتناسى التفاصيل الدقيقة التي تحدد هوية تلك الحقبة التاريخية.

وفيما يتعلق بالنقد الذي وجهه البعض حول الأخطاء التاريخية، علينا أن نكون أكثر دقة في تفسير تلك الأخطاء، فالتاريخ، خاصة في مثل هذه الحقبات البعيدة، لا يُكتب بالتمام والكمال، والتفاصيل التي وصلنا إليها هي مجرد محاولات لتسجيل الماضي الذي لا يملك أحد مفاتيحه، ولا يمكننا أن نطلب من المسلسل أن يكون مرجعا تاريخيا بقدر ما هو عمل فني يقدم رؤية درامية للتاريخ. فكل من ينظر إلى معاوية من زاوية “التحقق التاريخي الصارم” يفوّت على نفسه فرصة التفاعل مع عمل فني كان الهدف منه إبراز تلك الحقبة بكل ما فيها من صراعات فكرية واجتماعية. وإذا أردنا القول، فإن الأخطاء التاريخية التي تم الإشارة إليها لم تكن إلا جزءً من حرية الفنان في معالجة الأحداث، وبتأكيد أن هذا المسلسل ليس وثيقة تاريخية، بل هو فن يقدم تاريخا بروح درامية تتجاوز أحيانا التوثيق للحظة التاريخية أخطأ وأصاب كجلّ الأعمال العالمية، كذلك، ورغم تناول المسلسل لفترة مهمة من التاريخ الإسلامي، إلا أن بعض المحطات البارزة لم تُعطَ حقها الكافي من التحليل والتفسير، مما قد يترك بعض المشاهدين في حالة من التساؤل حول سياق بعض الأحداث.

وبالنسبة لسهير بن عمارة، التي أدت دورها في هذا المسلسل، فقد كانت مفاجأة جميلة حقيقة، على الأقل مع تطور الأحداث والحلقات للنسبة لشخصي، لم يكن دورها سهلا، فهي قدمت شخصية تتطلب عمقا في التفسير العاطفي والتاريخي، ورغم أنها كانت المرة الأولى لها في هذا النوع من الأعمال الضخمة، إلا أنها قدمت أداءً محترما يُظهر تطورها في عالم الفن. إن الأدوار التاريخية ليست بالأمر السهل، ففيها تلتقي مهارات التمثيل مع فهم دقيق للشخصيات التاريخية التي قد تكون مضيئة أو غامضة في الذاكرة الجماعية، سهير قامت بتأدية الدور بكل أريحية، وكان أداؤها حقيقيا، وإذا كان هناك من يشكك في أدائها، فلتنظروا إلى ما كانت لتقدمه أي نجمة أخرى من قامت بدور سهير، لكان الإشادة بمقدرتها التمثيلية أُطلق منها هنا وهناك، ولأُعتبر الدور استثنائيا من قبل الجميع، لكن كما يبدو، نغمة “التفضيل” هي التي تفرّق بين الممثلين وفقا لشهرتهم، ومن الظلم كذلك مقارنة أداء سهير مع منى واصف أو مي سكاف، فكل منهن لها سياقها الفني الخاص وظروفها المغايرة. منى واصف ومي سكاف قد قدمتا أداءات تاريخية استثنائية بعد مسيرة طويلة في هذا المجال، بينما سهير بن عمارة قدمت دورها في أول تجربة تاريخية ضخمة لها، مما يتطلب مهارات خاصة ووقتا لتطوير الأداء. هذه المقارنة غير عادلة، إذ إن سهير أظهرت تفانيا في تجسيد الشخصية، وهو ما يستحق التقدير بعيدا عن المقارنات المتعسفة، وستتطور لا محالة مع قادم التجارب في هذا المجال الفني.

لا يمكن إلا أن نقول أن معاوية هو عمل فني تاريخي متكامل، يستحق من المشاهد أن يُعطيه الفرصة لرؤيته بعمق وبتقدير. فعلى الرغم من بعض الانتقادات التي طالت المسلسل، إلا أن الإبداع الذي صاحب هذا العمل يفرض نفسه بقوة ويثبت أن الدراما التاريخية العربية قادرة على تقديم أعمال تضاهي العالمية. إذ ليس في كل مرة يُحاكم الفنان على الأخطاء التي قد تكون غير متعمدة، وإنما يجب أن يُنصف عمله من خلال تقدير المجهود الكبير الذي بُذل فيه. كما قال الشاعر: “ما كل ما يتمنى المرء يدركه”، فلعلّ النقد يجب أن يكون بقدر الفن الذي يُقدّم، لا أن يكون حكما سريعا من أول وهلة، وأليس كذلك ؟

في الختام، أوليس من الأجدر طرح بعض الأسئلة الحارقة التي تتعلق بجوهر العمل وفترة العصر الأموي التي يقدمها، بعيدا عن التسطيح أو التسرع في الحكم ؟ ما الذي يجعلنا نعتبر أن الفتنة الكبرى كانت نتيجة اختلاف سياسي فقط، دون أن نغفل عمق الصراع الفكري والديني الذي كان يشق الأمة آنذاك؟ هل كان حقا علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان يتصارعان على السلطة فقط، أم أن هناك مفاهيم أوسع تتعلق بالشرعية والتفسير الديني كانت وراء ذلك الصراع؟ هل من الممكن أن تكون الفتنة الكبرى نتيجة تلاعب خارجي لم نكن ننتبه له في فهمنا التاريخي؟ كيف نواجه الفكرة السائدة أن الخلاف بين علي ومعاوية كان حول “من أحق بالخلافة” دون النظر إلى أن الخلاف قد يكون حول مفهوم الحكم نفسه وكيفية تطبيقه؟ هل يمكن اعتبار الصحابة وحدهم مسؤولين عن الفتنة، أم أن المجتمع العربي نفسه كان مستعدا لهذا الانقسام منذ بدايات الخلافة؟ هل كان من الممكن أن يتجنب المسلمون الفتنة الكبرى لو أن هناك إيمانا حقيقيا بمفهوم التعددية في الفكر الإسلامي؟ هل المعركة بين الحق والباطل في هذه الفترة كانت مجرد وجهة نظر من التاريخ، أم أن من يتبنى أحد الأطراف قد يكون قد وقع في نفس أخطاء من يعتقد أنهم “أعداء” الأمة؟ كيف نتعامل مع القصص والأحداث التاريخية من دون أن نقع في فخ تأليه شخصيات أو شيطنة أخرى؟ هل من الممكن أن نعيد تقييم مفهوم “الخلافة” نفسه بعيدا عن الانقسامات التي نتوارثها؟

وبين هذا وذاك يا أعزاء، تظل الأسئلة أكبر من الإجابات، وتفتح أمامنا أبوابا للتفكير أوسع من حدود التاريخ. قد نغرق في التفاصيل، لكن الحقيقة تبقى أعمق من كل ما نراه، فهل نحن مستعدون لمواجهة ما يخيفنا من أفكار، أم سنظل أسرى لثقافة الماضي؟



#ياسين_خضراوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسلسل معاوية: بين ملحمة الدراما والتعسف النقدي عندما يتدهور ...
- مسيحيو الشرق: غرباء في أوطانهم
- نظرية المؤامرة، هل أن الدماغ البشري مصمم لينخرط فيها آليا ؟
- العملية -بي بي كاي 2-، عندما خزّنت ألمانيا الغربية مليارات م ...
- عبور جبال الأنديز وتحرير الإنسانية، حين تمتلك أمريكا اللاتين ...
- فيلم رضا السحلية، حين تعانق السينما الإيرانية رداءة الواقع
- أمة اليمين
- إقطع الرقاب فالشريعة قالت
- إنما الشيطان ملاك
- مملكة السوط
- داعش و الوجه الآخر للإسلام
- العرب و النفاق : مقاربة سوسيولوجية
- داعشيات
- سطور في المحظور


المزيد.....




- - كذبة أبريل-.. تركي آل الشيخ يثير تفاعلا واسعا بمنشور وفيدي ...
- فنان مصري يوجه رسالة بعد هجوم على حديثه أمام السيسي
- عاجل | حماس: إقدام مجموعة من المجرمين على خطف وقتل أحد عناصر ...
- الشيخ عبد الله المبارك الصباح.. رجل ثقافة وفكر وعطاء
- 6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد ...
- -في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام ...
- واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
- “الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2 ...
- طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
- -الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ياسين خضراوي - مسلسل معاوية: بين ملحمة الدراما والتعسف النقدي