أوغست بيبل مناضلا ضد اضطهاد النساء

غاري روث

الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 08:24
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    

كان أوغست بيبل أهم قائد للاشتراكية الألمانية في الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى. دافع بيبيل عن قضية تحرير المرأة في كتابه ” المرأة والاشتراكية “، وهو أحد أهم النصوص الاشتراكية وأكثرها تأثيرًا في عصره.
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أكبر منظمة اشتراكية في العالم. كانت أهميته في ألمانيا أسطورية، حيث كان يضم مئات الآف الأعضاء (أكثر من مائة ألف عضو في العاصمة برلين وحدها) ومئات الآلاف من الأعضاء المنظمين في النقابات العمالية التابعة للحزب.
وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي يصدر عشرات الصحف المحلية والوطنية، ويدير مدرسة التكوين الخاصة به للمتدخلين والمناضلين في أمور النظرية الاقتصادية والتشريعات الحكومية. وفاز الحزب بثلث الأصوات في الانتخابات الوطنية، وشكل ممثلوه ربع المندوبين في الرايخستاغ، البرلمان الألماني (ليس بما يتناسب مع وزنهم الانتخابي، بسبب الامتيازات الممنوحة للمناطق الريفية).
كان الاشتراكيون الديمقراطيون الحزب السياسي المهيمن في ألمانيا، ما حدا بمجموعات أخرى إلى تشكيل ائتلافات لمواجهة تطلعات الحزب الاشتراكي الديمقراطي لإعادة تنظيم المجتمع. كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي قويًا لدرجة أنه شكّل، على حد تعبير جيرهارد ريتر، ”ليس فقط نمط حياة سياسي، بل أيضًا جماعة اجتماعية… مجتمعًا داخل المجتمع، دولة داخل الدولة“.
ولكن عندما اندلعت الحرب، انهار الحزب في مواجهة المعارضة. وبرغم أشهر من المظاهرات والاحتجاجات ضد الحرب، دعم خطط الحكومة الحربية. كانت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي تخشى من أن يؤدي أي نقص في الوطنية إلى رد فعل معاد، ليس فقط من أعضاء الطبقات الوسطى والعليا، ولكن أيضًا من مؤيديها من الطبقة العاملة.
حولت المشاعر الوطنية والحسابات الانتخابية والخوف من القمع الاشتراكية الألمانية إلى مدافع عن أمة في حالة حرب. في هذا السيناريو المعدل على عجل، تحول الغزو الإمبريالي من سمة عامة للمجتمع الرأسمالي إلى دينامية أسقطها الحزب الاشتراكي الديمقراطي على أعداء ألمانيا (خاصة روسيا)، مع اعتبار جهود ألمانيا الحربية دفاعية وبالتالي مستحقة للمساندة.
غالبًا ما حجبت أحداث 1914 والسنوات التالية تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية قبل الحرب. كان أوغست بيبيل (1840-1913) أحد أهم قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي خلال هذه الحقبة، حيث توفي عشية الأزمة الكبرى التي شهدها الحزب. كان من أبرز إسهامات بيبل التزامه الراسخ بمكافحة اضطهاد المرأة، وهو ما عرضه في كتابه الشهير والمؤثر ” المرأة والاشتراكية “، وهو أحد أهم النصوص الاشتراكية في عصره.
ماركسية بيبل الماركسية
تفسر إنجازات بيبل في بداية تطور الحركة شعبيته الكبيرة وتأثيره العظيم داخل الاشتراكية الألمانية. انخرط بيبل في البداية في جهود غير سياسية رامية إلى التحسين والإصلاحات الاجتماعية. وسرعان ما اقتنع بيبل بأن نهج كارل ماركس في النشاط السياسي كان مطابقا أكثر لمصلحة الطبقة العاملة. ووفقًا لهذا الرأي، يجب على الطبقة العاملة أن تسعى إلى تحقيق رفاهيتها بشكل مستقل عن التحالفات والاتفاقات مع مجموعات من الطبقات الوسطى والعليا، حتى عندما تدعم هذه المجموعات تدابير وإصلاحات تشريعية مماثلة، مثل علمنة المدارس الابتدائية التي تمولها الدولة أو اعتماد الاقتراع العام.
انتقلت الاشتراكية الماركسية، مع بيبيل، من أداة للنقد الاجتماعي إلى سياسة جماهيرية. كما أسهم بيبل في توسيع نطاق الاشتراكية إلى مجالات جديدة، لا سيما تحرير المرأة والمساواة بين الجنسين. وكانت إحدى أولى الحملات التي قامت بها الحركة الاشتراكية الوليدة في ألمانيا هي تنظيم نقابة عمالية مختلطة، وهي أول مبادرة من نوعها في إحدى الدول في طور التصنيع آنذاك.
تأسست هذه النقابة في صناعة النسيج، التي كانت هي نفسها في خضم مرحلة انتقالية سريعة ومضطربة، وجندت النقابة مؤيديها من أعضاء التعاونيات الإنتاجية والنساجين المستقلين وعمال الملابس (الصناعة المنزلية)، وكذلك من الورشات والمصانع الصغيرة المنظمة على أسس رأسمالية. كانت النقابة المختلطة مفتوحة للعمال ذوي المهارات العالية وشبه المهرة وغير المهرة نسبيًا، مما جسد مقدما النقابات الصناعية التي تأسست في الولايات المتحدة في نهاية الثلاثينيات.
شارك الماركسيون الألمان في مبادرات عديدة: فقد شكلوا حزبًا شارك في الانتخابات، ونظموا نقابات عمالية حسب المهن وحسب الصناعات ، وأسسوا تعاونيات منتجين ومستهلكين، وأسسوا جمعيات إغاثة عملت كتجمعات تأمينية ضد البطالة و من اجل التغطية الطبية. كما نظموا أنشطة ترفيهية ونوادي قراءة وجمعيات تثقيفية وغير ذلك كثير. كان حجم الجهود التنظيمية التي شاركوا فيها هو ما ميز الماركسيين عن غيرهم من الاتجاهات المسيسة داخل الطبقة العاملة. فقد كانت الماركسية تمثل سياسة شاملة على صعيد الطبقة ومتعددة الأوجه.
ومع ذلك، لم تستمر ظاهرة الاتحاد المختلط طويلاً: فقد اختفت من التاريخ لمدة عام ونصف. ولم تستطع الصمود أمام الضغوطات التي مارستها صناعة النسيج في خضم انتقالها من الصناعة المنزلية إلى التصنيع، وتفاقمت بسبب التداعيات السياسية والقمع الذي أعقب كومونة باريس عام 1871. ومع ذلك، أصبح النضال من أجل المساواة بين الجنسين مصدر فخر للاشتراكيين، رجالاً ونساءً على حد سواء.
المرأة والاشتراكية
ويتيح هذا السياق تفسير كيف أصبح بيبل مؤلفة كتاب ”المرأة والاشتراكية “ ذي التأثير العميق. وهو العمل غير الروائي المقروء أكثر على نطاق واسع بين الطبقة العاملة في عصره. كان هذا صحيحًا ليس فقط في ألمانيا، بل في كل مكان كانت توجد فيه حركة اشتراكية مشابهة للحركة الألمانية. تُرجم كتاب»المرأة والاشتراكية» إلى أكثر من عشرين لغة خلال حياة بيبل.
ولاحظت مكتبات الإعارة في النقابات العمالية وقاعات الاجتماعات الحزبية أن أعمال بيبل كانت مفضلة حتى على كتاب ماركس ” رأس المال «“.علّم النقاش حول النوع الاجتماعي ومساواة النساء للطبقة العاملة أساسيات الاشتراكية. كان أحد الجوانب الرائدة في كتاب «المرأة والاشتراكية “ هو الجدية التي تناول بها بيبل مسألة الجنس البيولوجي وتحولها إلى نظام نوع محدد اجتماعيًا.
كانت الطبعة الأولى التي نُشرت في عام 1879 كتابًا غريبًا: كتيب طويل مكون من 180 صفحة، ولكن بدون عناوين فصول أو تقسيمات فرعية. وكان في الواقع انعكاسًا حادًا للتقاليد الشفوية التي كانت ضرورية لانتشار الأفكار الاشتراكية. كان بيبل معروفًا أيضًا بكونه خطيبًا بارعًا، وغالبًا ما كان يلقي محاضرات لمدة ساعة في مؤتمرات الحزب.
ينقسم كتاب ” المرأة والاشتراكية “ إلى ثلاثة أجزاء، يتناول وضع المرأة في الماضي والحاضر والمستقبل. الجزء الأول، ”المرأة في الماضي“، تم تنقيحه بشكل كبير ليعكس العرض الأكثر تبسيطا للعلاقات بين الجنسين قبل الرأسمالية الذي قدمه فريدريك إنجلز في كتابه”أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة “ الصادر عام 1884 . أما الجزء الثالث، ”المرأة في المستقبل“، فيستلهم بشكل كبير كتابات ماركس الاقتصادية، مع التركيز بشكل خاص على التكهنات القاتمة المنبثقة عن نظريات توماس مالتوس حول النمو السكاني وحدود المجال الزراعي المنظم وفقًا للمبادئ الرأسمالية.
غير أن الأقسام الوسطى من الكتاب هي عمل حصري لبيبل وتتناول الأوضاع المعاصرة. كانت الموضوعات التي تناولها متنوعة للغاية وغالبًا ما تعتبر من المحرمات في الأوساط البرجوازية.
وكانت بعض الموضوعات ذات توجه اقتصادي، مثل تحديد المهن التي يجري الفصل بينها بناء على الجنس، والتمييز في مكان العمل، وإمكانية وجود بيوت جماعية وأساليب تربية الأطفال، والنضال من أجل المساواة في الحقوق والمساواة في الأجور. كما تناولت أجزاء أخرى من الكتاب المعايير الثقافية: نشاط النساء وتقرير مصيرهن الذاتي، ووضع النساء القانوني ، والتحرش الجنسي، ومعدلات الخصوبة، والتعريفات الطبقية للرومانسية، والمعايير المزدوجة وآراء الرجال في لنساء.
كان النقاش الأكثر إثارة للجدل يتعلق بالحياة الجنسية بجميع أشكالها وأنواعها: الرغبة الجنسية والمتعة، والعفة والعلاقات الجنسية، وتحديد النسل والإجهاض، والتربية الجنسية، وفكرة الزواج كشكل من أشكال الدعارة، وتعدد الشركاء، وسفاح المحارم والاغتصاب، وبغاء الذكور، وغير ذلك كثير.
كان بيبيل أيضًا واعيًا جدًا (إن لم يكن دائمًا متسقًا) في استخدامه لمفردات محايدة للإشارة إلى الناس بشكل عام: ”الإنسانية“ بدلًا من ”البشرية“، ”الإنسان“ أو ”الناس“ بدلًا من ”هو“ أو ”هو“ ( Menschheit أو der Mensch بالألمانية بدلًا من der Mann أو die Männer ). . وتجدر الإشارة إلى أن الترجمات الثلاث المنفصلة لكتاب «المرأة والاشتراكية “ إلى اللغة الإنجليزية أعادت إدخال لغة المذكر في نص بيبل.
الكفاح من أجل المساواة
وبفعل موقع بيبل داخل الحركة الاشتراكية، أصبحت هذه الموضوعات وهذه الطريقة في التعبير عن مشروعة في قاعدة الحزب. كان وضع النساء في المجتمع وقدرتهن على الاشتغال على قدم المساواة مع الرجل جزءًا من المناقشات اليومية، وأصبح المناضلون، رجالًا ونساءً، يستندون بانتظام إلى كتاب بيبل في عملهم التحريضي مع الطبقة العاملة.
كان الحزب يمول صحفًا ومنشورات مختلفة كتبتها النساء واستهدفت النساء. كما كان ينظم انتخابات خاصة لضمان إشراك النساء في مجالس الحزب الداخلية. وفي المقاطعات الألمانية حيث لم يكن يُسمح للنساء بحضور الاجتماعات السياسية، والتي كانت تشكل غالبية البلاد في ذلك الوقت، أطلق الحزب حملات كبيرة رفعت الحظر في نهاية المطاف.
كرّس بيبل، الذي كان مؤلفاً واسع الانتشار والتأثير، وقتاً طويلاً لإعادة نشر كتاب «المرأة والاشتراكية “، لدرجة أن حجمه تضاعف ثلاث مرات في النهاية. ومع ذلك، تركزت أنشطته في هذه الحقبة على دوره في قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومسؤولياته كرئيس ثان لفريق الحزب في الرايخستاغ. وفي تاريخ هذا الأخير، يمكننا أن نتابع انجراف الحزب الذي حوله في النهاية إلى أحد أعمدة المجتمع الرأسمالي، برغم معارضته المستمرة للعديد من مظاهر الرأسمالية.
وكان تزايد مستمر للتأثير يعني مزيدًا من التسامح. و كان على الحزب، كي ينمي شعبيته، أن يثبت مقدرته على سن القوانين والسياسات ويترك بصماته الخاصة على المعالم التي تحدد الوجود الاجتماعي داخل الرأسمالية. شارك الآف الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في الإدارة الحكومية،لاسيما في المقاطعات المحلية حيث تم التسامح معهم دون العداء الشديد الذي واجهوه على المستوى الإقليمي والاتحادي.
كان بيبيل، على رأس فريق الرايخستاغ، معروفًا بمواقفه الشجاعة. وقد حظيت محاولاته منذ أمد بعيد لتخفيف القيود المفروضة على الطلاق بتغطية إعلامية واسعة النطاق. وضد أرادة أغلبية الكتلة الاشتراكية الديمقراطية في الرايخستاغ، دعم أيضًا إلغاء التدابير التقييدية ضد المثليين. كانت هذه المبادرات التشريعية ترومجعل الحياة في ظل الرأسمالية قابلة أكثر للتحمل، وكانت تهم جميع الطبقات الاجتماعية، وليس فقط البروليتاريا.
كانت هذه المبادرات مهمة في حد ذاتها، ولكنها أيضًا أعطت انطباعًا بأن الرأسمالية يمكن ترويضها وإضفاء طابع إنساني عليها. وعبر سيرورة اندماج تدريجية، أصبحت الاشتراكية الديمقراطية شكلاً من أشكال الليبرالية التقدمية، وذلك قبل فترة طويلة من تطور اتجاهات ثقافية مماثلة بين الطبقات الوسطى في النصف الثاني من القرن العشرين.
وبرغم أن الاشتراكية الديمقراطية الألمانية لم تنتج أبدًا المجتمع الجديد الذي كان يأمله مؤسسوها، مثل بيبل، أسست الحركة نموذجًا مهمًا كان مصدر إلهام للاشتراكيين في العديد من البلدان الأخرى. ويُعد عمل بيبل في إرساء الدور المركزي لتحرير المرأة في الاشتراكية مثالاً مهمًا على ذلك. بالنسبة لليسار اليوم، يجب أن يكون هذا تذكيرا بوجود تجاذب طبيعي بين النضال ضد الاضطهاد الجندري والاضطهاد الطبقي، وهو ما كان واضحًا في زمن بيبل كما هو واضح اليوم.

غاري روث Gary Roth هو المؤلف المشارك (مع آن لوبيز Anne Lopes) لكتاب
” Men’s Feminism: August Bebel and the German Socialist Movement (Humanity Books, 2000).

مصدر : https://jacobin.com/2024/11/germany-bebel-womens-oppression-spd

#غاري_روث (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات