|
متاهة الضائعين لأمين معلوف(5) الولايات المتحدة واللوبي اللبناني
محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 18:50
المحور:
قضايا ثقافية
يتناول أمين معلوف التفاعل مع حضارة "الغرب" الأوروبي، التي سماها ماركس، الرأسمالية، في أربع تجارب، اليابان والصين وروسيا، والولايات المتحدة التي نعتها لينين بالإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية. كتبت عن الثلاثة الأولى. عن الأخيرة يقول أمين معلوف إنها "غلبت اليابان عسكرياً وخرجت رابحة من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وأضحت اليوم في خط المواجهة الأول ضد الصين، ونجحت في تهميش القوى الأوروبية العظمى القديمة، وتأثيرها ماض في تمدده ليشمل الكرة الأرضية في مجملها وفي الميادين كافة" سأقرأ التجربة الرابعة من الكتاب بطريقة مختلفة. لن ألخص أفكار أمين معلوف. سأستند إليها لأنظر إلى "الإمبريالية الأميركية" بعين اللوبي اللبناني الذي يمكن أن يتكون بعد أن سنحت له الفرصة أخيراً مع بداية أمل جديد بإعادة بناء لبنان الوطن والدولة. إذ ليس كثيرًا على من احتل أبناؤه مقعداً ثقافياً على ضفاف النيل مع بداية القرن العشرين ومقعداً على ضفاف السين مع بداية الحادي العشرين، بشخص أمين معلوف، ومقاعد سياسية واقتصادية على ضفاف المسيسيبي والأمازون ما بين القرنين، أن يستأنف مبدعوه الرحلة الفينيقية أو أن يستلهموا حكاية طائر الفينيق ويؤسسوا اللوبي اللبناني في أربع أرجاء الأرض – ولو كان سعيد عقل حياً لقال- ليحكموا العالم.
مشاهدات يساري لبناني
يقول أمين معلوف في كتابه، "ما تزال الولايات المتحدة تحتفظ حتى اليوم بتفوقها وبأسبقيتها على الكرة الأرضية، لكن ذلك أصابها ب"دوار القمم". فهل تنجو دول أسفل الهرم إذا ما تحول هذا الدوار إلى جنون عظمة؟ وهل تصح مقارنة لبنان بأميركا ؟ لبنان عندي أغلى منها، رغم أن السفر إليها يفضح هشاشة انتماء العربي إلى أي وطن من أوطان الأمة، أو ربما لأن تاريخ العلاقات معها مكتوب، من جانبنا، بالحبر اليساري المعادي، ومن جانبها، بالموقف المنحاز للمشروع الصهيوني والمشحون بالتحدي لشعوب الأمة العربية. يبدأ تعصبنا ضدها من زعمنا أن لبلداننا تاريخا تكدست فيه إنجازات حضارات شتى منذ الفينيقيين، وربما قبلهم، بينما حرمت الأقدار هذه القارة من نعمة التاريخ والحضارات القديمة. أميركا بلاد بدأ تاريخها المكتوب مع اكتشافها، أي في بداية القرن السادس عشر. ميلادها هو ميلاد الحضارة الرأسمالية، باستثناء ما كتبه علماء الاجتماع من أمثال كلود ليفي شتراوس عن حياة القبائل فيها. لا آثار كالأهرامات أو الأعمدة الضخمة، ولا مرت عليها حضارات الرومان واليونان والفرس وبابل، وليس فيها مدن تاريخية كسامراء أو دمشق أو جبيل أو باريس أو روما أو لندن، ولا فيها كاتدرائيات كتلك المنتشرة في أنحاء القارة الأوروبية، ولا معابد كتلك الموجودة في بلاد الشرق البعيدة. مع ذلك، التعصب للوطن لا يخفي بعض الحقائق المرة. يمكن القول إن ولادتها كانت ولادة قيصرية، لكنها في الفترة القصيرة من حياتها تحولت إلى دولة امبريالية تحكم العالم، فيما يتقلص تاريخنا، يوماً فيوماً ، ويمضي القهقرى . أميركا تشبهنا، هي بنت الاستعمار، وهي بنت الثورة على الاستعمار. دفعت ثمن استقلالها غاليا لكنها حفظت جميل من بنوها حتى وهي تناصبهم العداء، ربما لأنها فهمت معنى العلاقات بين الدول وبين الحضارات على غير ما فهمناه. للدول مصالح، وهي تنافست وأفنت بعضها بعضًا في سبيل ذلك، لكن الدول التي نشأت في ظل هذه الحضارة اقتنعت أخيرا، وإن كان ذلك بكلفة عالية، باحتمال التنافس السلمي بدل العنف والحروب. وإذا صح أن الحاكم في الدول الامبريالية، ولا سيما في أميركا، " يتآمر"(بحسب مصطلحاتنا القومية واليسارية) على الدول والشعوب الأخرى، فالحكام في بلادنا يتآمرون على شعوبهم وأوطانهم. ولست أدري أي المتآمرين أفضل من سواه ! حين تطأ قدماك أرض الولايات المتحدة تدرك أن ما يسمى في بلادنا الامبريالية أو الشيطان الأكبر قد يكون النظام السياسي والمصلحة القومية العليا. ولا تجيز لنفسك أن تنعت بالامبريالي شعبًا لا يسعى إلى غير سلامه الداخلي وحريته، شعبًا هو خليط فريد من كل شعوب الأرض وألوانهم وأجناسهم وأعراقهم وحضاراتهم، فتعجب من أنظمة في بلادنا لا تحسن تدبير شؤون حياتنا، ونحن لا نوازي في تعدادنا أو في تعداد اختلافاتنا وتنوعنا، ما هو موجود في أصغر مدينة من المدن الأميركية. ونعجب من أمر من يشتمون الامبريالية ونظامها ويستميتون للحصول على بطاقة الجنسية والإقامة فيها. يشعرك تمثال الحرية في أميركا أنها بلد الحرية حقًا. أنت حر في أن تثرى ثراءً فاحشًا، أو في أن تموت متسكعًا في فناء المباني أو الممرات. لاس فيغاس نموذج صارخ لتلك الحرية المنفلتة من عقالها، مدينة الضوء والضوضاء، تشاهدها من الطوابق العليا في الفنادق، مشعة في الليل، محاطة بالجبال، مثل صنعاء اليمن. في اليمن القات وفيها الكازينوهات، وإدمان في الحالتين. في الليل كما في النهار، ملايين البشر ينفقون مئات الملايين من الدولارات ويقامرون بالوقت. أنت حر أن تفعل ما تشاء دون أن تؤذي سواك. أنت حر في ألا تنفق أموالك على اليتامى وأبناء السبيل، وحر في أن تجنيها بحلال القانون جهاراً أو بحرامه خفية. بين صنعاء ولاس فيغاس، والقات والكازينوهات، بين الضوء الامبريالي وعتمة بيروت، تحتار كيف يمكن أن تشهد لصالح الإمبريالية وتبقى مواطنًا صالحًا في بلدك. ثقافتنا القومية واليسارية حالت بيننا وبين معرفة أصول التنافس أو الصراع أو المهادنة. لم يفت الأوان بعد. آن ليساري لبناني مثلي أن يعترف بهزيمة مشروعه. مازالت الفرصة متاحة أمامنا لنتعلم من "عدونا " كيف يمكن أن تنصهر كل التنوعات في ظل القانون، وكيف يمكن أن يتحول البشر من رعايا إلى مواطنين، يؤمنون بما شاؤوا، لكن، يلتزمون بالقانون ويعيشون تحت سقفه. آن لنا أن نتعلم كيف نبني أوطاننا، لا كيف نسارع إلى هجرها كلما ابتكر الحاكم فيها فنون الخيانة والاستبداد. أميركا السباقة في حرق المراحل
من يتمعن بتاريخ أميركا الرأسمالية يتيقن من أنها كانت أقدر من روسيا الاشتراكية على"حرق المراحل"، هذا المصطلح الذي يعد من قاموس الماركسيين. أميركا نجحت في حرق مرحلة بكاملها فبنت الرأسمالية من غير المرور بحضارة الخراج أو العصر الإقطاعي، فيما أخفقت الثانية بحرق ما قبلها عندما حاولت القفز فوق المرحلة الرأسمالية، والانتقال بالمجتمع الروسي دفعة واحدة إلى الاشتراكية. الرأسمالية نجحت في إثبات قدرتها على الممانعة والمقاومة وفي منعها الاشتراكية من شطبها، فأقنعت التاريخ أنها محطة إلزامية من محطات تطوره. وهي نجحت حين تمكنت من حرق المرحلة الاقطاعية والاستغناء عنها لكن تلك النجاحات كانت ذات كلفة عالية ليس أقلها، على ما يقول معلوف "إن الأمة الأميركية أذلت الإمبراطورية الأوروبية العجوز، إسبانيا، التي كانت فيما مضى الأوسع والأغنى على الكرة الأرضية. وقد كان ذلك الإذلال علامة فارقة من علامات الزمن". رأسماليو أوروبا الهاربون من بطش الكنيسة ومن تخلف العلاقات القائمة بين النبلاء والفلاحين، تعاملوا بقسوة مع سكان البلاد الأصليين، كما أن الهنود الحمر ارتابوا من هذا الوافد الجديد، فكان الصدام حتميًا . يقال إنه لم يبق من أهل البلاد البالغ عددهم، في ذلك الحين، خمسين مليونًا، سوى مليونين. الرأسمالية استأصلت الحياة القبلية والعشائرية، وزرعت في البلاد محصلة ما توصلت إليه في أوروبا: حضارة جديدة ومهاجرين. الأوائل منهم كانوا من البروتستانت الهاربين من لظى الحروب الدينية، ومعظمهم من أوروبا الشمالية، بريطانيا والبلدان المنخفضة، ولهذا سميت تلك البلاد في البداية، أنكلترا الجديدة. في حين كان سكان أميركا الجنوبية من الإسبان والبرتغاليين السباقين إلى اكتشاف القارة الجديدة. الرأسمالية الأوروبية المهاجرة وفرت الدليل على ما قاله ماكس فيبر عن الدور الحاسم "للأخلاق البروتستانتية " في صنع الرأسمالية، اعتراضًا على فكرة ماركس عن الدور الحاسم للبنية التحتية والصراع الطبقي وآليات السوق والاقتصاد الحر، "دعه يعمل دعه يمر". الرأسمالية دمرت البنى الاقطاعية في أوروبا في مواجهة الكنيسة المعاندة، لكنها في أميركا دمرت القبائل العزّل من أي سلاح غير الطقوس الاسطورية، فيما هي كانت قد استقدمت معها من أوروبا السلاح الناري الذي شكل منعطفًا في تاريخ الحروب. هذه القدرة التدميرية الهائلة لم تبق من تاريخ الهنود الحمر غير بعض الطقوس والذكريات المحفوظة في المتاحف. القليلون منهم هربوا نحو معتقدات جديدة مشتقة من الأناجيل. "المورمون"Mormon أكبر هذه المجموعات عددًا والأوسع انتشارًا، يعدون أكثر من 45 % من سكان يوتا، الولاية الشاسعة، العاشرة من حيث المساحة، والقليلة السكان (حوالي أربعة ملايين نسمة، أي بعدد سكان لبنان وبمساحة سوريا) لهم كنيستهم وطقوسهم، ومنهم ترشح أحدهم لمنصب نائب رئيس أميركا. هؤلاء بادروا إلى كتابة التاريخ غير المكتوب، داخل بناء ضخم يضم آثار جماجم بشرية تعود أولاها، التي تشبه جمجمة القرد، إلى عشرات آلاف السنين، وهياكل حيوانات بعضها مما قبل الديناصورات الأولى. لكن هذا المتحف يؤكد الحقيقة ذاتها: لا وجود لحقبة إقطاعية، لا كنائس ولا تماثيل قديمة ولا قصور ولا ملوك ولا قديسون. كل تاريخهم لا يتجاوز القرن. هم ثورة داخل الثورة. احتجوا على اجتياح البروتستانتية فاشتقوا من الكتب المقدسة ديانة ليتميزوا عن الغزاة الأوروبيين، لكن ليس إلى الحد الذي يضعهم في مصاف الأعداء. إنه مجرد تنويع على الأصل. والحال إن الأصل في التاريخ الأميركي هو أن الرأسمالية أوقفته عند الأساطير التي أسهب كلود ليفي ستروس في الحديث عنها، ثم استأنفته عبر أجيال من العلم والتكنولوجيا استخدمتها في عمليات غزو كانت أميركا الشمالية ضحيتها الأولى، أو ربما إنجازها الأول، ولم يتوقف لا في أعالي الفضاء ولا في أعماق المحيطات. يقال في أميركا أن ولايات الغرب الأميركي كانت من أملاك المكسيك، والحقيقة أن البلاد التي سميت لاحقا الولايات المتحدة الأميركية اغتصبت الأراضي التي كانت كلها ملكًا لسكان أصليين من الهنود الحمر، انقرضوا أو أبيدوا، بل إنهم كانوا الفدية التي دفعتها القارة لتنتقل من القبيلة إلى ناطحات السحاب، ومن طقوس الرقص الجماعي لطرد الشياطين إلى طقوس في ممارسة الحرية الفردية لا تشبه التقاليد التي تربى عليها أمثالنا من أهل الشرق أو من خريجي اليسار. ما استعصى فهمه على الأصوليات القومية والدينية والماركسية، هو أن المسافة كبيرة جدًا بين قوانين المجتمع وقوانين الدولة. للمجتمع، بل لكل فئة أو جماعة أو ملة أو كتلة إتنية فيه، ملء الحرية في اختيار ما يناسبهم من قيم وفي ممارسة ما يحلو لهم من طقوس وعادات، لكن المصالح العليا للدولة شأن آخر قد لا يكون المجتمع معنيًا به ولا مسؤولًا عنه. أفراد المجتمع، مهما بلغوا من التنوع، متساوون أمام القانون الذي ترعى الدولة الأميركية تطبيقه بالعدل على الجميع، في حين تدير سياستها الخارجية بما يضعها ويضع شعبها في مواجهة العديد من شعوب العالم. إنها الحقيقة الرأسمالية أيضًا وأيضًا، التي تجعل الشعب الأميركي شعبًا ودودًا ودولته عدوانية. وذلك، في الحالتين، لضمان مصالح رأس المال.
أميركا من غير أميركيين
في شوارع الولايات المتحدة، كما في بيوتها وشركاتها وحاناتها ومخازنها الكبرى، وكذلك في جامعاتها ومراكز أبحاثها، وفي جيشها وشرطتها، وفي فنادقها، نزلاء وموظفين ونادلين، الخ، لا تعثر على صورة نمطية للأميركي، مثلما هي حال الهندي أو الصيني أو الروسي. بل تجد أخلاطًا من الناس من مختلف الألوان والأشكال والإتنيات والقوميات واللغات، من أقصى الشرق الصيني إلى أقصى الغرب اللاتيني وبقايا الهنود الحمر، مرورًا بالأفارقة الذين بدأوا عبيدًا هناك وانتهى أحدهم رئيسًا للجمهورية في أقوى دولة في العالم. صورة أميركا في مخيلتنا، الموروثة عن الحقبة السوفياتية أو الخمينية، هي صورة الامبريالية أو الشيطان الأكبر، وهي تحيل دوما إلى عدو. هي البلد الذي توجته الحضارة الرأسمالية ملكًا على "العالم الحر"، نسبة إلى الاقتصاد الحر، في مواجهة مملكة الاقتصاد الموجه، نسبة إلى البلدان الاشتراكية. ضدان لا يلتقيان، واحد يعمل لصالح البشرية والسلم العالمي وآخر يستثمر الانسان وخيرات الأرض ليبني من عرق البشر ومن دمائهم وعلى حسابهم ثروات لا تحصيها الأرقام ولا تتسع لها المخيلات، ويبددها أو يجعلها مادة ملتهبة في الحروب وفي حرائق الشعوب. أما البديل الإسلامي فقد حشر نفسه بين خيارات التاريخ، وحدّث ولا حرج، عن غوغائه الفكري وعن استبداده الأصولي . يكتفي اليساري الأميركي بالكتابة اعتراضًا على سياسة بلاده، مع أن الجامعات الأميركية (تشومسكي اليساري أحد أساتذتها) لا تفرض حظرًا على الماركسية أوالفلسفات اليسارية الأخرى، بل تجيزها وتشرع تعليمها؛ بينما يستفيض اليساري غير الأميركي بشتمها، لأنه يحسب حرية الرأي خديعة، أو جائزة ترضية لمن يرضى على نفسه أن يكون ضحية سهلة أو لقمة سائغة للجشع الرأسمالي أو للاقتصاد المتوحش. رؤية أميركا بغير العين الخمينية والسوفياتية تظهر لك صورة أميركا الدولة مغايرة لصورة أميركا الشعب. علمتنا الحركات القومية، الأوروبية والعربية على السواء، أن فكرة الشعب هي صناعة يعود الفضل فيها إلى التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات والتقاليد، ولذلك استيقظنا في مطلع القرن الماضي على صراع بين مؤمن بشعب عربي واحد وقائل بشعوب عربية، مصري وعراقي وسوري ومغربي، الخ. اميركا بلا تاريخ، ويقال أن شعبها لا أصل له ولا فصل، بل هو مجموعة من الغزاة، لم يختاروا أن يكونوا غزاة، بل رماهم اعتراضهم على عنف الحروب الدينية في أوروبا و بطش الكنيسة على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، ونزلوا على شاطئه ومارسوا على سكانه ما يحسبونه من غير العنف، مع أنه أشد قسوة وهولاً من فظاعات الكنيسة واستبداد الملوك. إنه عنف التحول من قرون وسطى إلى الحضارة الرأسمالية، عنف دفع ثمنه سكان البلاد الأصليين الذين لم يكونوا مهيئين لمثل هذا التحول، ولا كانوا قادرين على مجاراتها في سرعة التطور والانتقال المباشر من طقوس السحر إلى مبتكرات العلم ، فطحنتهم عجلة التطور واستسلموا بالقوس والنشاب أمام السلاح الناري، الأداة الفضلى في يد الرأسمالية للتوسع والسيطرة، ووسيلة الإقناع الدموي من ذاك التاريخ حتى اليوم. بلاد لا تاريخ لها ولا جغرافيا. الأرض ليست لهم، وهم ليسوا شعبًا. ما إن وطئوا تلك المساحات الشاسعة، حتى عملوا على تطويع الطبيعة والبشر فأبادوا من لم يستسلم لمشيئتهم وتوافقوا على إدارة مجتمع جديد شعاره، لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل . ذلك يعني أنهم كانوا يفتقرون إلى عادات وتقاليد مشتركة وإلى لغة، فاصطلحوا على استخدام الإنكليزية، لأن الإنكليز كانوا الأكثر عددًا من بين الهاربين – الغزاة الأوروبيين. المشترك الوحيد بين أولئك الغزاة هو الدين. كلهم كانوا من البروتستانت الذين، على اختلاف مدارسهم، الكالفينية والطهرية والأنكليكانية والإنجيلية وغيرها، أرسوا داخل علاقة الدين بالحياة العامة تقاليد وأصولًا جديدة، وفصلوا فصلًا حازمًا وجازمًا بين علاقة البشر بعضهم ببعض وعلاقتهم بالله. حافظوا على إيمان رأوا فيه أحد تجليات حرية الفرد التي تحولت إلى ما يشبه الوسواس أو الهوس أو المرض، لكنها جعلت كل شيء خيارًا وحقًا من حقوق الفرد، بما في ذلك الإيمان الذي لم يعد من عدة الكنيسة ولا من أدوات سيطرتها. المقارنة بين أصحاب "الأصل والفصل" ممن يدعون التحدر من الفينيقيين أو من السلالات النبوية أو من السامية والحضارات القديمة ، وبين هؤلاء المقطوعين من شجرة صراع ديني دموي خاضته الكنيسة ضد الحضارة الجديدة في أوروبا، يضعنا أمام حقائق دامغة، من بينها أن الرأسمالية تعالت على الصراع التافه على التاريخ ولم تكترث إلى التنازع على الأصل والفصل وتمكنت من صهر شعوب لا روابط عرقية أو دينية أو ثقافية بينها، ووحّدتها، من غير أن تلغي التنوع. التنوع هو الحرية، والوحدة هي القانون. من بين هذه الحقائق المؤلمة أن الحركات القومية التي نشأت مع الرأسمالية، كل الحركات القومية، كانت الأكثر دموية في التاريخ الحديث، فهي التي أشعلت نار الحربين العالميتين، وأنتجت الظاهرة الصهيونية، وتسببت بالحروب الإتنية والطائفية والمذهبية، وشكلت غطاء للاستبداد في كل البلدان التي استعصت على ولوج الرأسمالية من بابها السياسي، أي تداول السلطة. الولايات المتحدة أعفت نفسها من العنف القومي، ويمكن القول إنها قد تكون طمسته، لكنها استبدلته بعنف آخر، مظهره ناعم أو غير صريح، ولا يختلف من حيث الجوهر عن سواه، إنه عنف الحضارة الرأسمالية التي كانت كلفة ثورتها باهظة جدًا، ومن بين وجوه العنف هذا، وجه الرغبة بالتوسع والانتشار حتى تعم مظاهرها العالم والأرض والسماء وأعماق المحيطات، ومنه السيطرة على مقدرات الشعوب والدول . الحقيقة الأكثر التباسًا في هذا الكيان العملاق تتمثل في المفارقة الكبرى بين دور الدولة ودور الحكومة (أي الإدارة في الولايات المتحدة الأميركية). دوران يبدوان متناقضين: الدولة صنعت وطنًا ووحدت مواطنيها وصهرت تنوعهم واختلافاتهم تحت خيمة الحرية وسيادة القانون، فقدمت في الداخل نموذجًا خاصًا في طريقة إدارتها لمجتمعها، جاذبًا المهارات من كل أصقاع الأرض، بداية مع تجارة العبيد، وصولا إلى تحفيز العقول للعمل في إطار مؤسساتها العلمية والاقتصادية والمالية والسياسية، ثم إلى تحفيز الخائفين من بطش حكوماتهم على نيل الجنسية الأميركية أو الإقامة على أراضيها؛ أما الحكومة فلعبت مع دول العالم وشعوب الكرة الأرضية ما بدا في نظر تلك الشعوب أنه دور البلطجي لا دور الراعي من عرشه على سيادة العالم . الولايات المتحدة الأميركية حددت معايير خصوماتها وصداقاتها مع الآخرين بما يخدم مصالحها الاقتصادية ويوفر لشركاتها الكبرى ومؤسساتها المالية افضل الفرص للاستثمار، ويوفر، في الوقت ذاته، أفضل الشروط لإدارة شؤون المجتمع وضمان استقرار اليد العاملة فيه. كل ذلك بمنطق الرأسمالية وآلياتها في الاستثمار وتكديس الأرباح، ولو على حساب قوة العمل وخيرات الشعوب . فيما اعتمد سواها معايير سياسية لمناصبتها العداء. هذا ما فعله أهل اليسار والحركات القومية والإسلامية، استجابة لمصالح سوفياتية وإيرانية بالدرجة الأولى، وكردة فعل طبيعية على عار الرأسمالية الأكبر المتمثل بالمشروع الصهيوني العدواني العنصري، الذي تأسس بدعم مباشر من جانب الدول الرأسمالية الكبرى، ثم تولت الولايات المتحدة رعايته وحمايته وشجعته ونسقت معه الحروب على بلدان العالم العربي وشعوبه. بعد انهيار التجربة الاشتراكية وأمام عبثية المشاريع الاسلامية المعاكسة لسير حركة التاريخ، ربما آن الأوان لإعادة صياغة علاقة الصداقة والخصومة مع الولايات المتحدة الأميركية، على أسس صحيحة، لا على الأسس القديمة التي لم تكن من أولوياتها مصالح شعوبنا وأوطاننا، بل المصالح السوفياتية والإيرانية و معايير الصراع الدولي بين المعسكرين. إذا كان العداء لأميركا مبنيًا على أساس طبقي، فهي ليست القوة الرأسمالية الوحيدة في العالم، حتى لو كانت هي الأقوى. لماذا، مثلاً، لا يكون عداء موازٍ للدول السبع ومعها روسيا؟ وإذا كان مبنيًا على أساس ديني فمن الأولى بحركات الاسلام السياسي أن تتبع نهجًا سياسيًا واضحًا حيال كل الديانات الأخرى، وإذا كان مبنيًا على أساس الموقف من الكيان الصهيوني، فمن الأولى أن تستقيل قوى المواجهة من دورها بعد أن شبعت من ركوب موجة العداء للصهيونية لتأبيد سيطرتها الأصولية الاستبدادية. الشرط الضروري لقيام صداقة أو عداوة مع الولايات المتحدة هو اعتبار التعاون معها تعاونًا على مصالح، والصراع معها صراعًا على مصالح، وأن الصراع والتعاون لا يقومان إلا بين الند والند بالرغم من فوارق الأحجام، دولة مقابل دولة. غير أن مشكلة الذين يحبون ويكرهون في بلادنا مازالوا يمارسون السياسة من خارج قيم العصر، فهل هي صدفة أن يكون المعادون للولايات المتحدة كلهم، لا يعترفون بقيام الأوطان الحديثة، شعب وأرض وسيادة هي سيادة الدولة؟ القاسم المشترك بينهم ليس فقط العداء لها، بل هم كلهم لا يعترفون بالدولة الحديثة والدساتير والمساواة أمام القانون، ويصرون على قهر شعوبهم بكل صنوف التجهيل وعلى قمعها بكل صنوف الاستبداد، ويستخدمون العداء للامبريالية والشيطان الأكبر ذريعة لمحاربة الديمقراطية، وللحؤول دون قيام الدولة الحديثة القادرة وحدها على إدارة الصراعات بطريقة سليمة . ليست دعوة للاستسلام، بل للنقد الذاتي . فبغير نقد الماضي لن يكون مستقبل. وبغيره لن نقوى على مواجهة التحديات والأعداء.
بلاد الاستعمار بلاد السياحة
في كتابي "أحزاب الله" جزمت بأننا، في المشرق العربي، أو في الجانب الآسيوي من العالم العربي، رفعنا شعار محاربة الاستعمار الفرنسي والإنكيزي بناء لقرار سوفياتي. أشار أمين معلوف إلى ذلك وذكرته في مقالة سابقة. غير أن الغرب الأوروبي تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى مساحة آمنة للعلم والسياحة فيما اضطلعت أميركا بدور آخر. أميركا "المالئ الدنيا وشاغل الناس"، بين من ينتظر مساعدتها ومن يتعقب أخطاءها ومن يطلب ودها في السر ويشتمها في العلن ومن يدين سلوكها حيال القضايا العربية من نكبة فلسطين حتى ربيع "بوعزيزي"، ومن يستجير بها من استبداد مؤبد في بلادنا، ومن يريد الاستقواء بها من دون مقابل، ومن يرى فيها شرًا لا بد منه. شبكة معقدة من العلاقات والمواقف يدخل حابلها بنابلها وتبدو كأنها غير متناسقة وخالية من أي منطق. في بداية الربيع العربي بدا الموقف الأميركي مرتبكًا بفعل المفاجأة، إذ لم يكن ما حصل في تونس وبعدها في مصر في حسبانهم. ثم تأكد ارتباكهم حين رحبوا بمجيء الاسلاميين إلى الحكم، وحين حصروا تدخلهم في ليبيا في نطاق ضيق جدا وغير مباشر، ثم حين حل الجيش محل الإخوان. مع أن هذه الأحداث أربكت مواقفهم فقد كانوا مطالبين بتقديم الدعم لحركة التغيير الديمقراطي. ظل الموقف الأميركي بليدا حتى بعد رجحان كفة التيارات الأصولية أو بحجة ذلك، ولم تُجده خشيته إلا الوقوع ضحية المفاجأة بإعلان دولة الخلافة الاسلامية وتنصيب خليفة على مساحة من الأرض شاسعة بين باديتي الشام و العراق، حتى أنه لم ينج من تهمة المساعدة على قيام هذا التيار السلفي الأصولي، وهي تهمة طالت الجميع، الخليج العربي وإيران والنظامين العراقي والسوري، في معمعمة من التحليلات المتضاربة. لكن غبار المواقف انجلى عن قرار أميركي بمواجهة خجولة للتمدد الأصولي وبالمساعدة على وضع حد له. أميركا الأمبريالية، رأس النظام العالمي الاستعماري، قائد عمليات النهب المنظم لخيرات الأرض، وكل ما قيل وما يمكن أن يقال فيها، هل يمكن أن تكون هي المنقذ! قيل إنها هي التي أنقذت الكويت من سطوة صدام حسين ثم أنقذت العراق من استبداده. لكنها هي ذاتها كانت قد سلمت السلطة للأصوليات، وهي التي تواطأت مع النظام الإيراني على تعيين المالكي ثم على سحب التغطية عنه. كيف تكون مع الأصولية وضدها، وكيف تكون مع الديمقراطية ولا تعتمد الآليات المناسبة لتطبيق الديمقراطية، وكيف تكون مع حكم الإخوان في مصر ثم ضده، وضد النظام الإيراني وتنسق معه إلى حد إغضاب حليف أساسي لها في المنطقة، المملكة العربية السعودية ؟ في غمرة هذه المواقف المتناقضة، هل يمكن أن تكون منقذا؟ الذين يروجون لعداوة أميركا هم أصحاب البراميل المتفجرة على رؤوس الشعب، وأصحاب السلاح الكيماوي البعثي في سوريا والعراق، والاشتراكيون الذين لم يروا إلا وجه الرأسمالية البشع، والقوميون الذين تجمدت ذاكرتهم عند مرحلة استعمارية من تاريخنا الحديث، والأصوليون الذين يعشش الجهل في رؤوسهم . أميركا ليست عدوًا ولا صديقًا. هي دولة عظمى يعرف حكامها كيف يدافعون عن مصالحها، أما نحن فحكامنا مشغولون بتنظيم حروبنا الأهلية. مع أنها الحليف الدائم للدولة الصهيونية، إلا أنها حليف محتمل لسواها، فهي لم تجد حرجا في احتضان الاسلام السياسي ومساعدته في مواجهة المد الشيوعي، ولا في تشجيع العراق على شن حربه ضد إيران، ومساعدة إيران للنهوض من كبوتها العسكرية أمام العراق، ولا في تقديم كل الدعم لوصاية سورية على لبنان عملت على تدميره شعبًا ودولة وكيانا. لم تعد مقنعة أساليب التهويل والتخويف من الرأسمالية والاستعمار والامبريالية، لأن هذه قد تكون مخاطر محتملة وقد لا تكون، ولا هي مقنعة نظرية المؤامرة وتحميل الآخرين وزر ما يصنعه التخلف السياسي في بلادنا. الماثل أمامنا اليوم هو خطر البراميل المتفجرة والسواطير والعقول المتعفنة وعودة شريعة الغاب ولغة السحل والمحق والسمل والإبادة والتصفيات الجماعية الدينية والاتنية. هذا الخطر هو العدو حتى لو كان عربياً. والصديق هو من يساعدنا على درئه، حتى لو كان أجنبياً. الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. هذه العبارة حصرت الخطر الاستعماري بأميركا وحولت الغرب الأوروبي إلى مساحة للسياحة والتدرب على الديمقراطية. أكثر من أربعة آلاف شخص بين سائح وموظف، من كل الجنسيات، على متن الباخرة. كنا نتوهم أن الإلفة لا تكون إلا صنيعة توافق سياسي أو إيديولوجي، غير أن السياحة في بلاد الاستعمار علمتنا كيف تكون الإلفة بين مختلفين وكيف يكون احترام حق الاختلاف، في أن يختار كل على هواه، السباحة في واحد من المسابح العديدة، أو الرقص في إحدى القاعات أو احتساء فنجان قهوة أو كأس خمرة مع صديق أو الرياضة مع مدرب أو المطالعة في مكتبة أو النوم في حجرة أو حمام شمس في الهواء الطلق أو حضور حفلة راقصة في مسرح السفينة الشاسع كأنه على اليابسة. إما إذا كنت ضد الاستعمار فعليك أن تختار للسياحة بلدًا من بلدان الممانعة، وإلا فأنت من العملاء. "كارهو" الاستعمار يتفاجأون، وهي مفاجأة مفهومة، حين يعرفون أن البرتغال وإسبانيا والبلدان المنخفضة، ومنها بلجيكا وهولندا والدنمرك، هي أول البلدان الاستعمارية، وبعدها جاءت فرنسا وبريطانيا. لكن مفاجأتهم غير المفهومة هي أن هذه البلدان، كما سائر البلدان الرأسمالية، هي بلدان سياحية من الطراز الرفيع، وأن زوارها يعدون سنويا بالملايين، وهم من كل أنحاء العالم، بما في ذلك من المستعمرات التي كانت خاضعة لها. الاستعمار كان شرطًا من شروط قيام النظام الرأسمالي في القرن السادس عشر، بعد اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح. هذا ما تقوله لنا متاحف البرتغال وإسبانيا حيث ترتفع أنصاب التكريم لفاسكو دي غاما وكريستوف كولومبوس، أو أنصاب التكريم لشهداء الجزائر الذين سقطوا في النورماندي دفاعًا عن فرنسا ضد النازية. وهذا ما تقوله لنا كتب التاريخ حين تروي حكاية حرب البهار وطريقها الشبيهة بطريق الحرير، التي شقتها البرتغال بين البحر والبر من المتوسط حتى أندونيسيا وجزيرة جاوا، أو حكاية الغزو الأوروبي لأميركا واستئصال سكانها الأصليين من الهنود الحمر في الشمال وتدجينهم في الجنوب، أو كل الحكايات التي تبرز حقيقة واحدة هي أن الاستعمار كان حاجة ملحة لقيام النظام الرأسمالي العالمي، وسيبقى حاجة لتوسع هذا النظام أفقيًا، على ما وصف ماركس. الاستعمار هو لتوفير المواد الأولية لمصانع المستعمر والأسواق لبيع بضائعه. والاستعمار، بلغة السياسة والاقتصاد والنضال الوطني، هو لنهب خيرات الشعوب. لكن ذلك حصل في زمن مضى، ثم تغيرت آليات النهب وآليات التجارة وانتهت تلك المرحلة مع الحرب العالمية الثانية بتفكك الاستعمار القديم الذي لم يبق منه اليوم إلا الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين. في ما تبقى من أصقاع الأرض نشأت علاقات من نوع آخر بين البلدان الرأسمالية الكبرى وسائر بلدان العالم. إسبانيا تتعامل مع " الاستعمار" العربي أو الاسلامي ، الذي استمر لثمانماية عام، باعتباره جزءًا عزيزًا من تاريخها. ففي كل مكان آثار العرب ماثلة ومصانة. مصانة أيضًا في أوروبا كلها مكانة الفيلسوف العربي الاندلسي ابن رشد باعتبار عقلانيته جسرًا عبر عليه الفكر الأوروبي من القرون الوسطى إلى الحداثة. الممانعون عندنا يتعاملون مع الاستعمار الفرنسي للبنان وسوريا الذي استمر أقل من ثلاثين عامًا، بغير ما تعاملوا مع "الاستعمار" التركي لبلاد العرب كلها، الذي استمر أربعماية عام. مفاهيم مطاطة في بلادنا، ومصطلحات علمية في بلاد الاستعمار. كلام إنشائي خطابي عندنا يقرع طبول الحرب ضد عدو لا يحول ولا يزول، وسياحة هناك تجعل التاريخ مادة للدراسة، بينما هي في بلادنا مادة لحروب من غير نهاية على تفسير التاريخ وتأويله، كتلك التي تجري على أحقية الخلافة بين علي ومعاوية. المسألة لا تتعلق بسيادة أو استقلال أو احتلال، بل بمفاهيم مغلوطة لأن أفضل طريقة للتمويه على سلطة الاستبداد الداخلي هي في التصويب على عدو خارجي، وفي إقناع الناس دومًا بنظرية المؤامرة. التاريخ في بلاد الاستعمار مادة للتثقيف، في أي معلم أثري أو تراثي تجد من يحفظ حكايته ويرويها بزهو وافتخار. لا يعيبهم أن العرب أقاموا هناك قرونا، وتاريخهم مع القارة الأميركية ليس تاريخ فتوحات استعمارية بقدر ما هو اكتشاف جديد غيّر وجه الكون، ولم تكن صدفة عادية أن تاريخ اكتشافهم أميركا هو هو تاريخ خروج آخر عربي من غرناطة عام 1492 .أي أن النهوض الاستعماري بدأ في اللحظة ذاتها التي أخذ فيها التاريخ العربي يشق طريقه نحو الانحطاط . فقبلها بأربعين عامًا كانت قد سقطت القسطنطينية وتربع الأتراك العثمانيون على عرش الخلافة العربية والاسلامية . الآتون من بلاد الدنيا على متن السفينة يتفننون في توفير الظروف المساعدة على تأمين راحتهم وسعادتهم وقضاء عطلتهم، فيما نحن نهرب إلى السياحة في بلاد الاستعمار لنرتاح ممن يصمون آذاننا بخطب نارية ووعود بالحرب والموت والقتل، لنتفادى أخبارنا المحلية عن السجون واللصوص وقطاع الطرق وتجارة الخطف. صحيح أن الفساد لا دين له ولا وطن، لكنه في بلاد الاستعمار جريمة يحاسب عليها القانون بقسوة، أما في بلادنا فهو مأثرة وسبيل للترقي الاجتماعي والسياسي. والفاسدون، في الأغلب الأعم، هم الذين يتسترون بالحرب الكلامية على الاستعمار ليضاعفوا منسوب فسادهم واستبدادهم . ما قبل الرأسمالية كانت الحضارات تتوسع وتتمدد، لكن ضمن حدود. مع الرأسمالية صار التوسع بلا حدود، ولم تعد تتسع اليابسة فصارت المحيطات والبحار والفضاء هدفًا. الاستعمار"هبة" الرأسمالية، تمثلا بمصر "هبة النيل"، إذن حل مشكلة الاستعمار لا تكون بشتمه أو بجعله مشجبًا تعلق عليه أسباب تخلف العرب والمسلمين، إذ ليس هو السبب في ميل الأصوليات إلى القتل، فهذه تعودت القتل قبل الاستعمار، بل منذ أول الخلفاء الراشدين حتى آخر المقتولين في السجون العربية أو آخر المقتولين بالأسلحة الكيماوية في العراق وسوريا، وابتكرت فنونًا في العنف فاقت فيها دفن الناس أحياء كما كان يفعل الحجاج بن يوسف أو محاكم التفتيش الكنسية. ولا هو السبب في انحدار الصومال إلى ما قبل التاريخ، أو غرق أفغانستان في وحول الجهل والتعصب، أو ارتكاب العالم العربي جريمة تعميم الأمية على سبعين بالمئة من سكانه، وجريمة نشر الحروب الأهلية من المحيط إلى الخليج . هذه كلها اعراض أزمة النظام الرأسمالي العالمي بمركزه وأطرافه. أما الحرب على الاستعمار الوهمي أو الافتراضي فهي ليست سوى استعادة لحروبنا على تفسير التاريخ لا على بناء المستقبل. فوق ذلك، بلاد الاستعمار هي المحجة للعلم والاستشفاء وتهريب الأموال. وبها تستغيث شعوبنا ضد حكامها المستبدين، ومنها نستورد التقدم. وهي الملاذ والمأوى لأي حاكم تهدده ثورة أو ربيع فيفر إلى قصر اشتراه هناك بأموال غير شريفة، وملاذ الهاربين من جور الحكام أو الباحثين عن الحياة الآمنة، وملاذ أصحاب الاستثمارات الذين تبدأ أوطانهم وتنتهي عند حدود رساميلهم. فهل علينا، بعد، أن نصدق حروبًا معلنة على عدو وهمي؟ يقول سمير عطالله، "الاتفاق بين البيت الأبيض والكرملين على الاحتكام إلى رؤية الرياض في أخطر القضايا الملحة(حرب أوكرانيا) أمامهما اليوم، منطلق لمتغيرات جوهرية كثيرة. للمرة الأولى تفتي دار الإسلام في سلام الآخرين ونزاعاتهم. وهذه مجرد بداية مهمة في طريق شائك". يعني ذلك أن دول العالم ليست محكومة على الدوام بالاصطفاف خلف المحاربين الكبار، بل يمكن لها أن تلعب ضابط الإيقاع بحثاً عن عالم بلا حروب. الصحيح أن الفتوى لم تأت من دار الإسلام بل من العاصمة الرياض، مقر انطلاقة النهضة العربية الجديدة بقيادة ولي العهد السعودي، ما يسمح بالقول إن ما ورد في بحثنا لا يصنف في باب الإشادة بالاستعمار، بل هو دعوة موجهة إلى المنساقين وراء الحروب الوهمية للوقوف دقيقة صمت عن روح أعمارنا التي بددناها دفاعًا عن أنظمة الاستبداد.
لوبي لبناني متحدرون مغتربون
اللبناني مصاب بنوعين متلازمين من الألم، رغبة في البحث عن إقامة وعمل خارج لبنان، وحنين دائم إلى الوطن يبدأ من لحظة المغادرة. من يغادر إلى غير أفريقيا والخليج العربي يحفظ خط الرجعة لنفسه فحسب، لا لأبنائه وأحفاده. هؤلاء بدأوا يتحولون إلى متحدرين من أصل لبناني منذ بداية القرن الماضي، على امتداد ثلاثة أجيال أو أربعة، وصل بعضهم إلى مراكز القرار في بلدانهم الجديدة، نوابًا ووزراء وموظفين كبارًا بل رؤساء سلطات محلية ورؤساء دولة ومرشحين للرئاسة. الحافظون خط الرجعة هم مغتربون يتناتشهم سياسيو لبنان ويتقاسمونهم ويتحاصصونهم. فرضوا عليهم الانقسام على الطريقة اللبنانية، وباتت جامعة المغتربين جامعتين، إحداهما للشيعة، خصوصًا الأفارقة منهم، والثانية للمسيحيين خصوصا الأميركيين منهم. اللبنانيون ليسوا الشعب الوحيد الذي أمعنت الظروف في تشريده. الصينيون، الفلسطينيون، الأرمن، اليهود وغيرهم. لكنهم الوحيدون الذين دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن انحدار الإدارة السياسية في وطنهم، فيما وقعت الشعوب الأخرى ضحية أطماع خارجية. وهم الوحيدون الذين يحمّلهم سياسيو بلادهم، حيثما حلوا وارتحلوا، انقسامات محلية في وطنهم الأم يخجلون بها في محل إقاماتهم الجديدة، وسرعان ما يستعيدونها في رحلة العودة على أول درجة من سلم الطائرة. قرن كامل لم تنجح فيه عملية تطبيع للهجرة اللبنانية، على غرار ما حصل مع الشتات الأرمني أو اليهودي أو الفلسطيني، مع أن اللبنانيين أكثر انتشارًا من سواهم، فهم موزعون في القارات الخمس من أوستراليا حتى اميركا، وبلغ بعضهم درجات عليا في مراتب السلطة ( حتى في المجر فاز لبناني بعضوية المجلس النيابي) . فشل عملية التطبيع يعني أن المهاجرين لم يتحولوا إلى لوبي لبناني حيث يقيمون، لم يتحولوا إلى قوة، ولم يترجموا قدراتهم المشتتة إلى فعل ذي تأثير، لا في وطنهم مع أنهم يشكلون مصدرًا للثروة الوطنية من خلال تحويلاتهم المالية، ولا في البلدان التي حلوا فيها مع أن إمكاناتهم، إذا ما تضافرت جهودهم، كبيرة وفاعلة ومؤثرة ويحسب لها حساب. الشرط الأول لتكوين أي لوبي في الخارج هو شعور المغترب بأن ظهره محمي في بلاده، بسلطة تجسد سيادة الوطن في كل مكان على أرض لبنان أو خارجه، وتشكل مرجعًا يعود إليه في الملمات وقوة يستند إليها في الأزمات، وبأن حكومة بلاده ستوظف طاقته لمصلحة الوطن العليا، بدل أن تبددها وتتحاصصها، وشعوره بأنتمائه إلى بلد واحد موحد لا تؤثر فيه الانقسامات والاختلافات والخلافات السياسية، مهما تعاظمت، على قداسة الانتماء إلى وطن. على جواز السفر الأميركي تقرأ العبارة التالية: الدولة الأميركية مسؤولة عن حماية صاحب هذا الجواز أينما حل على الكرة الأرضية، في حين يحاط جواز السفر اللبناني بالريبة في مطارات العالم، لا بسبب انتهاك بعض اللبنانيين قوانين بعض الدول، بالعمل في السوق السوداء أو انخراطهم في الصراع ضد "الامبريالية والاستعمار والشيطان الأكبر"، بل قبل ذلك، لأن المتسلطين على مقدرات الوطن والمتحكمين بمفاصل الدولة كانوا يقدمون النموذج السيء والفاسد في إدارة البلاد، حين يعبثون بوحدة الوطن ويتوزعونه على دويلات على مقاس أحلامهم الوضيعة ومصالحهم الضيقة. إن ما يرتكبونه في الداخل بحق الوحدة الوطنية ينعكس على وضع المغتربين ويضعف ثقة هؤلاء بالوطن، وينتج تشتتًا في الخارج هو انعكاس للتشتت الداخلي . التطبيع الذي لا بد منه، يتطلب أمرين، الأول هو الكف عن الكلام عن لبنانين اثنين، مقيم ومغترب، لأن فيه شيئًا من التمييز يراه المغترب لصالحه لما يملكه من امكانات وما يقدمه من تحويلات، ويراه المقيم لصالحه لأنه يجسد التمسك بالأرض. ذلك أن كثيرين من المغتربين أكثر حرصًا على الوطن من بعض المقيمين فيه، وخصوصًا أولئك الذي يفضلون على لبنان انتماءات أخرى، ما دون وطنية أو ما فوق وطنية، والذين استسهلوا استدراج الخارج والاستقواء به لضرب الوحدة الوطنية. كما يتطلب الكف عن الكلام عن لبنانين، كبير وصغير، لأن في هذا التصنيف بذرة شقاق بين من نجح في امتحان الوطنية بكفاءته، وآخر نجح بعلامة استلحاق. أما الأمر الثاني فهو العمل على تأمين حصانة للمغتربين وحمايتهم بقيام نظام لبناني يتجاوز الانقسامات والمحاصصات ويحصن الوحدة الوطنية ويحميها، ويبني دولة القانون والمؤسسات .
خاتمة يقول أمين معلوف،"إن أميركا عرفت تقصيراً في هذا المجال أو ذاك، لكن إن أخذنا بالاعتبار جملة مسارها ومجموع إنجازاتها يتضح لنا أن الأمر يتعلق بواحدة من التجارب الأكثر نجاحاً في كل تاريخ البشرية، ذلك أن مساهمة هذا البلد في "اختراع"حضارتنا المعاصرة المادية والفكرية والثقافية على السواء، كانت الأكثر حسماً من بين كل الاختراعات". لكن الولايات المتحدة التي بدأت تلعب دور "الأمة العظمى الوصية على البشرية بعد الحرب العالمية الأولى، وعززته بعد الحرب العالمية الثانية، ومارسته بمفردها تقريبًا بعد نهاية الحرب الباردة، لم تعرف الارتقاء إلى الارتفاع الملائم، وهو ما يوشك أن يرخي بعواقب دراماتيكية على جملة البشرية، كما وعليها هي نفسها" من علامات ذلك أن أميركا "عندما خرجت مظفرة من الحرب الباردة، لم تجد في نفسها الشجاعة الأخلاقية لتنكبّ على إعادة بناء روسيا ودمقرطتها كما كان ميخائيل غورباتشوف يتمنى، عوض ترك هذا البلد الكبير يمضي في انحرافه باتجاه شياطين القومية والعسكرية والانتقامية". يمكن لأي مراقب أن يضيف من المشاهدات اليومية علامات أخرى كثيرة على تعثرها وهي تقوم بهذا الدور العالمي. في رأس تلك التعثرات دورها في الصراع حول القضية الفلسطينية وفي المواجهة مع حركات الإسلام السياسي في أفغانستان وفي العالم العربي.
#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)
Mokaled_Mohamad_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذكاء الاصطناعي والبديل الاشتراكي رؤية من منظور اليسار الإل
...
-
متاهة الضائعين لأمين معلوف(4) هل العرب استثناء؟
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
-
متاهة الضائعين لأمين معلوف(3) الاتحاد السوفياتي
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
-
متاهة الضائعين لأمين معلوف(2) منهج البحث الروائي عن -الهويات
...
-
المنهج الروائي في البحث عن الهوية عن -متاهة الضائعين- لأمين
...
-
لماذا نحن في أزمة ممتدة؟
-
رفيق الحريري ومشهد 2025
-
نحو بناء دولة القانون والمؤسسات
-
الكورد، مشكلة أم قضية
-
الهزيمة ليست عيباً العيب ألا نتعلم من الهزيمة
-
رئيسان من نتاج الثورة
-
الاستقلال الخامس والنهائي للبنان
-
الممانعة والمحور
-
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ماهية الدولة
-
سقوط الطغيان والتحرر الوطني
-
المتضررون من النصر
-
نعم انتصرنا
-
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
المزيد.....
-
أصحاب الشعر الطويل بين جبال الإكوادور .. ما سبب هوس هذه المص
...
-
هل تقبل مصر تهجير الفلسطينيين؟
-
ريبورتاج: وحدات الدفاع الجوية الأوكرانية تواجه مخاوف من تراج
...
-
لوموند: لماذا لا تنتهي الأزمة بين فرنسا والجزائر ؟ ما أثر ال
...
-
قصف إسرائيلي يستهدف مناطق مختلفة في غزة ويتسبب بمقتل وإصابة
...
-
كيف يجعلنا السعي وراء السعادة أكثر بؤسا؟
-
-لن تأخذوها-... رئيس وزراء غرينلاند يرد على آخر تهديد لترامب
...
-
نتانياهو يعين قائداً سابقاً للبحرية رئيساً جديداً لجهاز الأم
...
-
أضرار تناول الحلويات ليلا
-
بزشكيان: الصورة الخاطئة التي رسمت عن إيران في العالم ليست صح
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|